«بعضنا كالحبر وبعضنا كالورق فلولا سواد بعضنا لكان البياض أصم ولولا بياض بعضنا لكان السواد أعمى»، هكذا كان يؤمن الفيلسوف اللبناني الثائر «جبران خليل جبران»، الذي نشأ في ظلال الأرز، وانطلق إلى العالم محملاً بروحانية أرضه وأوجاع أهلها، فحمله إبداعه إلى عرش مجد لم يرتقه سوى قلائل من العباقرة. أبصر «جبران خليل جبران»، إلى النور في 6 يناير من عام 1883، في بلدة بشرى شمال لبنان حين كانت تابعة لمتصرفية جبل لبنان العثمانية، وتلقى في مدرسة الخوري جرمانوس التابعة لدير مار ليشاع، أوليّات السريانية والعربية، وتفتح هذا الصبي المدلل على مجتمع مرهق بالتناقضات وتفاعلت في أعماقه عوامل عدة «التربية الدينية، روعة الطبيعة الشمالية وجمالات غابة الأرز الخلابة، وبطولات أسرته الجبرانية المعاندة في رفضها النظام المتصرفي والهوية العثمانية»، وهاجر وهو صغير مع أمه إلى أمريكا عام 1895 حيث درس الفن وبدأ مشواره الأدبي، اشتهر عند العالم الغربي بكتابه الذي تم نشره سنة 1923 وهو كتاب النبي، أيضاً عرف جبران بالشاعر الأكثر مبيعًا بعد شكسبير ولاوزي. بداية طموحة عرف جبران منذ نعومة أظافره، مرارة أجداده ومعاناتهم وهجرتهم إلى الأميركيتين وأستراليا إثر نفي يوسف بك كرم، فقد تعرضوا للمداهمات المتلاحقة، والتي أدّت إحداها إلى سجن والده وهو في الثامنة من عمره، ومصادرة جيوش المتصرف منزل الأسرة العريق وأملاكها، في التاسعة من عمره سقط عن صخرة عالية بالقرب من دير مار ليشاع فانكسر عظم كتفه وصلب على خشبة بضعة أشهر ليلتحم العظم (يجبّر) ، فاكتشف في ذاته معنى الصلب الذي عرفه مشهدياً في طقوس الصوم وأسبوع الآلام، والكسر أودع يده اليمنى ضعفاً لازمه طيلة حياته ودفعه لاقتناء عصاً نراها في صوره ولا تزال في محفوظاته، عندما بلغ جبران الحادية عشرة من عمره خرج الوالد من السجن وكان الجوع يهدد أسرته، الأمر الذي دفعها الى عبور حدود لبنان المتصرفية، فأقلعت في 25 سبتمبر 1895 من مرفأ بيروت متجهة صوب الولاياتالمتحدة الأميركية وتحديداً إلى بوسطن حيث الطموح البعيد. الوطن في فكر جبران انغمس جبران بالأدب والرسم، لم يصرفه عن الاهتمام بقضايا وطنه السياسية وغيرها، فقد كان وطنياً صادقاً، ينتهز كل مناسبة لمساعدة أبناء وطنه بعمله، وماله وقلمه، ولم يعش بعيداً بحسه وفكره عن بني قومه، بل إن العبودية التي يرسف في أغلالها العالم العربي، كانت تمزّق وجدانه، والثورة على الظلم والضعف والتخلّف، تجعله يصرخ بأعلى صوته منادياً الحرية. أوجاع بلاده القديمة، ظلت تلاحقه فإذا به مع أيوب تابت وشكري غانم يؤسسان نواة حزب كانت شاغله السياسي لاحقاً خصوصاً بين 1912 و1920، لقد أثّرت الحرب العالمية الأولى مع ما رافقها من أهوال في جبران تأثيراً كبيراً، مما دفعه إلى انتهاز كل الفرص والمناسبات لمساعدة أبناء قومه بجميع الوسائل، في هذه الفترة كتب مقالة «مات أهلي»، وفي سنة 1917 شغل منصب أمين سر «لجنة إغاثة المنكوبين» في سورياولبنان وراسل أبناء وطنه المقيمين في أميركا وباريس محاولاً إقناعهم بالسعي لتحقيق استقلالهم عن طريق الثورة؛ لكن جبران لم يخلق ليكون سياسياً، فانقطع عن العمل السياسي منصرفاً إلى الأدب والرسم، وأسس في بيته «الرابطة القلمية»، وانتخب عميداً لها سنة 1920، سنة بدء اضطراباته الصحية بالظهور. جبران والنبي في سنة 1933، انصرف إلى التأليف باللغة الإنكليزية بنجاح فريد، وأصدر عدداً من الكتب وصل إلى الثمانية، وذلك خلال ثمانية أعوام، كان أهم هذه الكتب كتاب «النبي» الذي لاقى شهرة عالمية، وهزّ ضمير العالم العربي والأميركي والأوروبي، ببساطته وعمقه، والأبعاد التي يوحيها، الى دقة تركيبه وموسيقاه الشاعرية، واحتجاجه على أي قيد يقيد الحرية والجمال... نشر «النبي» فوصل حتى الكنائس، وأصبح يدرّس في الجامعات الأميركية والعالمية ويتصدّر المكتبات العالمية بلغاته المتعددة. فلقد ترجم الى الألمانية والفرنسية بعد صدوره بسنتين، ويعتبر «النبي» الكتاب الرابع انتشاراً في العالم. تربع على قمة مجده الأدبي حقق جبران شهرة كبيرة في أميركا لم يبلغها أيّ من العباقرة معاصريه، ودرّت عليه كتبه أرباحاً طائلة، فنزعت من قلبه طعم المرارة، ومن قلبه حرارة الشكوى؛ وبينما كان متربعاً على قمة مجده الأدبي، تمكّن منه المرض، فوافته المنية في مستشفى القديس «فنسنت» في نيويورك في العاشر من إبريل من عام 1931، ونقلت رفاته إلى لبنان، ودفن في دير مار سركيس قرب بشري بحسب وصيته، في المكان الذي كان يحلم بالعودة إليه، وقد أوصى بمعظم رسومه لصديقته ماريل هاسكل التي ساعدته في طريقه إلى مجده الأدبي والفني، وبأمواله لأخته مريانا التي ساعدته أيام عسره، بما كانت تجنيه بإبرتها، وبريع كتبه لبلدته بشري، وبموته بدأ جبران يعيش فينا بأدبه وفنه وفكره.