ترتبط "المحلة الكبرى" في أذهان العديد من المصريين بكونها أهم وأعرق القِلاع الصناعية داخل القطر المصري، فبها أكبر مصنع للغزل والنسيج في الشرق الأوسط والذي يستوعب نحو 27 ألف عامل، مما يضعها في مستوى اقتصادي وتنموي مرتفع، لكن خلف مبنى مؤسسة "الأحداث" يطل عالم آخر خلاف ذلك المتوقع للمدينة، ليظهر وجهها البشع عن ذلك الذي تفقده رئيس الوزراء إبراهيم محلب قبل شهور قليلة، وخلاف تلك المؤسسات التي تقرر لها "ملايين لتنميتها" في مدة لا تتعدى 3 أشهر حسب توصيات الزائر الهام. نحو 50 كشك خشبي بمساحة الواحد لا تتعدى 2 متر طول في 3 متر عرض، لا تحوي سوى سريرًا وبوتجاز أرضي وكرسي وبعض الملابس الملقاة على الأرض وقليل من أدوات الطبخ ، وربما راديو صغير وفي الغالب لا يعمل، تلك المحتويات تُمثل أساس منزلي كامل دون صنبور مياه واحد ولا حمام "فقط جردل" ، ولا فيشة كهرباء "لمبة واحدة أو لا توجد".
مقومات حياة شبه منعدمة لا يعرفون الأجهزة الكهربائية؛ ليس لديهم أي علاقة بالتكنولوجيا، ولا يعانون أمراض العصر مثل إدمان الإنترنت، علاقتهم بالخدمات الحكومية في التطعيمات التي تمر بهم بسبب قرب المجمع الطبي منهم.
القمامة هي مصدر الرزق المُعلن لهم فهم والقمامة يتشاركون "العشة"، أما التسول والسرقة والإتجار بالمخدرات والدعارة فهي المهن المعروفة عن تلك المنطقة وسكانها.
تقول " بوسي الدسوقي" 24 سنة " أنا اتولدت وعشت عمري كله هنا، واتجوزت وخلفت ابني في وسط الزبالة والفقر دا "، وتضيف "جوزي لا يعمل وأنام وابني على الأرض ونعيش على الصدقات والشحاتة من المقابر القريبة مننا".
أما " مفيدة رشاد " 65 سنة، فتقول "كنت عايشة في حجرة بالإيجار في سوق اللبن ومات جوزي، واتنقلت هنا من 15 سنة وحتى أولادي لا أعرف عنهم شيئًا ومعاشي 300 جنيه يضيع في علاج السكر والضغط !! "
طارق نجيب الشاب ذو الثلاثين عامًا يؤكد " إحنا عايشين وشغالين في نفس الكشك، إحنا والزبالة راس براس" ويستفيض في الحديث قائلًا "احنا مش موجودين على الخريطة ولا حد يعرف عننا حاجة، أبسط أساسيات الحياة مش موجودة عندنا، بنقضي اليوم بيومه ونقول يارب عديه وخلاص".
وتعود بوسي لتؤكد "مفيش حنفية مياه واحدة في الكشك اللي عايشين فيه لازم كل يوم نروح نملا مياه من الجامع وندخل الحمام في الجامع و سارقين وصلة كهربا من عمود النور ويدوب بنولع لمبة واحدة ".
وتختم بوسي " من 5 سنين تقريبا عرضوا علينا ناخد شقق في الراهبين لكن المقدم كان 1600 جنيه ومش معانا مبلغ زي دا لكل عشة" مطالبة بوضع حد لمعاناتهم وللحياة اللاآدمية التي يعيشونها .
في المقابل تجد ما بين تلك العشش أثرياء حقيقيين فضلوا العيش وسط القمامة لجني المزيد من الأموال فمع كل مشروع إسكان يستولون على شقة ويقومون ببيعها و بعضهم يسكن بتلك الشقق ويحول عشته ل "باكية ملابس" حسبما يؤكد الأهالي أنفسهم .
"محاضر الكهرباء تحاصرنا ونضطر لدفعها واعتدنا ذلك، ونعيش في رعب لسماعنا عن حملات إزالة لطردنا ونحن نعمل ونقيم في تلك العشش ولا نستطيع الانتقال لمكان آخر، فنعيش باليومية " وينهي كلامه " أغلب الأسر هنا تعيش على التسول وانتظار "الرحمة" التي توزع على أرواح الموتى يوم الخميس في المقابر القريبة مننا " هكذا يكمل طارق روايته حول طريقة عيشهم .
"مدينة زينهم عيد" تخطت 45 عامًا وتحدثت إلينا مازحة " انا مدينة ومش لاقية شقة أقعد فيها"، وتكمل " كنت أسكن في منزل إيجار وطردنا المالك لبناء برج واضطررنا لبناء هذه العشة من الخشب وكلما " داب " السقف أو الجدران، يأتي أحد الأغنياء ويتبرع بترقيعها".
وتبكي "مدينة" " البلطجية ومتعاطو المخدرات يقتحمون عليا وعلى بناتي الكشك ولا نستطيع الاعتراض أو الدفاع عن أنفسنا فالمكان وكر لكل أشكال الانحراف، من مخدرات و بلطجة و نشل وتسول وحتى الدعارة .
"وصفه يوسف" تؤكد أنها تعيش في هذا المكان منذ 40 عامًا، ولديها طفلة معاقة وهي نفسها لديها إعاقة، وقام أحد الأثرياء بإعادة بناء الكشك الخاص بها بعد أن تساقطت جدرانه تباعًا ووضع طبقة من الخشب ليخفي بها بناءه بالطوب.
"ستوتة سليمان" 50 عاما تسرد مأساتها "عندي نصبة شاي جنب الترب والمحلات أربي منها أولادي اليتامى"، وتستطرد "يا ريت يدونا باكية نبيع فيها في أي مكان ونكسب بالحلال عشان نعرف نربي عيالنا أحسن من انتظار الإحسان".
في الوقت ذاته يحدثنا الحاج شكري، أحد أصحاب المحال المجاورة للعشش، عن تلك العشش واصحابها فيقول "ربما تحدثتم لفئة فقيرة حقًا من سكن تلك الأكشاك، إلا أن هناك أغلبية فاسدة لا تستحق الشفقة ولا المساعدة ، فأغلب هؤلاء يتاجرون بالمخدرات و يعملون بالدعارة ليلًا، والسرقة والنشل نهارًا في حين يعمل أطفالهم بالتسول و ينشطون بخاصة أيام الثلاثاء والجمعة وهي الأسواق الرئيسية بالمدينة، والخميس لأنه يوم الزيارة بالمقابر القريبة حيث الصدقات و "الرحمة" !!
ويكمل شكري "هذا بالإضافة لمحترفي الإتجار بشقق الإسكان الذين يحصلون على شقق من الدولة في كل مشروع سكني بالرشوة أو البلطجة أو التمثيل والإدعاء، ويفضلون البقاء هنا حيث العمل الملوث الذي يعتمدون عليه ويبيعون تلك الشقق و قد ينتقل بعضهم لتلك الشقق ويبقى عشته لتلك الأعمال !!".
ويضيف "لا يأمن أحد من أصحاب محلات الملابس هنا أن يوظف أيا من شباب تلك العشش فقد نشأوا على السرقة واعتادوها، ونكتفي بالمساعدة قدر الإمكان بالأموال والأطعمة والملابس، وللأسف نسبة المستحقين للدعم والمساعدة حقًا قليلة جدا بالفئة الفاسدة والمنحرفة".
حملنا شكاوى ومطالب الأهالي إلى اللواء ناصر طه، رئيس مركز ومدينة المحلة، والذي أكد بدوره أنه زار تلك المنطقة من قبل و أكد تمسك الأهالي بالعشش ورفضهم أي إسكان خارجي لأن عملهم مرتبط بها، موضحًا أن النسبة الغالبة من هؤلاء يحترفون البلطجة والسرقة وإذا منحتهم الحكومة الشقق سيتاجرون بها ويظلوا في عششهم. وتعليقًا على مطالبهم ببكيات للبيع والشراء والكسب من خلالها ، أوضح رئيس المدينة أن هناك سوق كاملة في منطقة الششتاوي وأخرى في منطقة طلعت حرب غير مأهولة حتى الآن وإذا ما كان الأهالي جادين برغبتهم في العيش النظيف فعليهم بالتوجه لها والعمل فورا دون شروط .
ووعد طه بمحاولة توفير شقق سكنية للمحاجين الحقيقيين خلال أقرب فرصة ولكن تبقى أزمة المقدم أمام كل الحلول المقترحة، فالفقراءء الحقيقيين لا يملكون هذا المقدم زاد أو قل و محترفو التسول وحدهم يتملكون تلك الشقق ليبيعوها بأغلى الأسعار لآخرين أكثر احتياجا لها .
وتبقى المحلة رغم محاولات تطويرها غير قادرة على التخلص من تلك المناطق القبيحة التي تنعدم بها الإنسانية والمدنية ولا يعلو بها صوت إلا صوت الهمجية والجريمة.