أسعار المأكولات البحرية والجمبري اليوم الاربعاء 25-6-2025 في محافظة قنا    أسعار العملات العربية والأجنبية اليوم الأربعاء 25 يونيو 2025    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاربعاء 25-6-2025 في محافظة قنا    تشكيل صن داونز المتوقع أمام فلومينينسي في كأس العالم للأندية 2025    عاطل يقتل نجليه طعنا بالسكين فى المنوفية    تامر عاشور يحيي حفل مهرجان «موازين» ب«بالعكاز» والجمهور يستقبله بالزغاريد المغربية    وزير الدفاع الإسرائيلى: فقدان الضابط والجنود ال6 فى خان يونس مؤلم    الجيش الإسرائيلي: مقتل ضابط و6 جنود في معارك جنوبي قطاع غزة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الأربعاء 25 يوينو 2025    مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة.. مواجهات نارية في كأس العالم للأندية    خبر في الجول - لحسم مستقبله.. الشحات يستقر على طرح العروض المقدمة إليه على الأهلي    وكالة مهر: اكتشاف وضبط أكثر من 10 آلاف طائرة مسيرة في طهران خلال الأيام الأخيرة    جيروم باول: الفيدرالي غير مستعد بعد لتخفيض أسعار الفائدة    أخبار فاتتك وأنت نايم| قصف مدفعي عنيف يستهدف جباليا البلد شمال قطاع غزة    «بريكس» تدعو إلى إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    مندوب إيران بالأمم المتحدة: لن نتخلى عن برنامجنا النووي.. وإسرائيل وأمريكا خالفتا القانون الدولي    «تمركزه خاطئ.. ويتحمل 3 أهداف».. نجم الأهلي السابق يفتح النار على محمد الشناوي    بالأعلام واللافتات.. جماهير الترجي تدعم فلسطين خلال مباراة تشيلسي في مونديال الأندية (صور)    روسيا: واشنطن وتل أبيب تنتهكان معاهدة حظر الانتشار النووي وحق طهران في الطاقة النووية السلمية    رسميًا درجات تنسيق الثانوية العامة 2025 في بورسعيد.. سجل الآن (رابط مباشر)    مي عبد الحميد: الدولة تدفع منحة لا ترد تصل إلى 120 ألف جنيه في شقق الإسكان الاجتماعي    تصدرت تريند السوشيال ميديا، قصة صورة أعادت الفنانة عبلة كامل إلى الأضواء    «واخدلي بالك» على مسرح قصر ثقافة العريش    «عمتي حبيبتي».. ظهور نادر ل عبلة كامل يثير الجدل على السوشيال ميديا    إعلان النتيجة النهائية لعضوية مجلس إدارة البورصة    حملات مسائية وفجرية على المخابز البلدية والمنافذ التموينية بالإسكندرية    النواب الأمريكي: الأعضاء سيتلقون إحاطة سرية بشأن الوضع في إيران الجمعة المقبلة    انتشال سيارة ملاكي ابتلعها هبوط أراضي بشكل مفاجئ في التجمع    حسام بدراوي يكشف أسرار انهيار نظام مبارك: الانتخابات كانت تُزور.. والمستفيدون يتربحون    زيادة طفيفة في مخزون سد النهضة.. «شراقي» يكشف آخر موعد للفتح الإجباري    منتخب الشباب يخسر أمام ألمانيا ويتأهلان لربع نهائي كأس العالم لليد    السيطرة على حريق سيارة نقل محمّلة بالتبن بالفيوم دون إصابات    بعد عام من الغياب.. ماذا قالت رضوى الشربيني في أول ظهور على dmc؟ (فيديو)    باسم سمرة يواصل تصوير دوره في مسلسل "زمالك بولاق"    "كانوا راجعين من درس القرآن".. أب يتخلص من طفليه بسلاح أبيض في المنوفية    أمين الفتوى يحذر من إهمال الزوجة عاطفياً: النبي كان نموذجًا في التعبير عن الحب تجاه زوجاته    الأزهر يتضامن مع قطر ويطالب باحترام استقلال الدول وسيادتها    طريقة عمل الزلابية الهشة في البيت أوفر وألذ    عاجل.. بيراميدز يفاوض لاعب الأهلي وهذا رده    مهيب عبد الهادي ل محمد شريف: «انت خلصت كل حاجة مع الزمالك».. ورد مفاجئ من اللاعب    مطران نيويورك يوجّه رسالة رعائية مؤثرة بعد مجزرة كنيسة مار إلياس – الدويلعة    عصام سالم: الأهلي صرف فلوس كتير وودع المونديال مبكرًا    أجمل رسائل تهنئة رأس السنة الهجرية 1447.. ارسلها الآن للأهل والأصدقاء ولزملاء العمل    مصرع وإصابة 8 أشخاص في حادث تصادم بالطريق الدائري الأوسطي في حلوان    مهمّة للنساء والمراهقين.. 6 أطعمة يومية غنية بالحديد    أبرزها اللب الأبيض.. 4 مصادر ل «البروتين» أوفر وأكثر جودة من الفراخ    لا تدع الشكوك تضعف موقفك.. برج العقرب اليوم 25 يونيو    زوج ضحية حادث الدهس بحديقة التجمع عبر تليفزيون اليوم السابع: بنتي مش بتتكلم من الخضة وعايز حق عيالي    ميل عقار من 9 طوابق في المنتزة بالإسكندرية.. وتحرك عاجل من الحي    سعر الزيت والدقيق والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الأربعاء 25 يونيو 2025    محافظ الفيوم يشهد الاحتفال بالعام الهجري الجديد بمسجد ناصر الكبير.. صور    من قلب الصين إلى صمت الأديرة.. أرملة وأم لراهبات وكاهن تعلن نذورها الرهبانية الدائمة    ندوة تثقيفية لقوات الدفاع الشعبي في الكاتدرائية بحضور البابا تواضروس (صور)    غدا.. إجازة رسمية بمناسبة رأس السنة الهجرية للقطاع العام والخاص والبنوك بعد قرار رئيس الوزراء    سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 25 يونيو 2025    غفوة النهار الطويلة قد تؤدي إلى الوفاة.. إليك التوقيت والمدة المثاليين للقيلولة    وزير الصحة: ننتج 91% من أدويتنا محليًا.. ونتصدر صناعة الأدوية فى أفريقيا    رسالة أم لابنها فى الحرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مواطنون علي هامش الحياة: »رملة بولاق« في قبضة الإهمال

ثورة الجىاع قادمة تحديد المكان ليس مشكلة؛ فخلف أبراج ساويرس العملاقة التي تطل بتعالٍ علي نيل القاهرة تقع " عشش رملة بولاق".. بينما تحديد الزمان الذي يعيش فيه سكانها هو الصعوبة التي قد تواجهك، فربما كان عليك أن ترجع بالزمن لقرون طويلة مضت حتي تصدق أن ما تشاهده بعينيك حياة طبيعية لبشر من المفترض أنهم يعيشون داخل قلب القاهرة.. لكن القاهرة بلا قلب(!)، والمسئولون فيها لم يأتوا إلي هنا ليروا بيواتا مصنوعة من القش أشبه بعلب صغيرة، كل علبة يعيش فيها أكثر من أسرة، بينما الشوارع التي يصل عرضها في بعض الأحيان إلي نصف متر تسمح لك بتخيل أنك داخل فيلم كارتوني رسمه طفل لا يجيد الرسم!
لا يوجد هنا صرف صحي، ولا مياه، بينما الظلام الذي يغرق الطرق الضيقة جعل الشعور بالخوف يلازمنا طيلة رحلة قادنا فيها الفضول لمعرفة كيف يحيا هؤلاء البشر بلا حياة!
"ده بيتي"، تشير نجوي أبو المجد إلي إحدي العشش، وتقول: إحنا غلابة.. مدفونين بالحيا.. سامعني.. أنا مش خايفة(!).. معندناش حمام.. بيسمونا منطقة الصفيح عشان بنقضي حاجتنا - لامؤاخذة - في صفيحة!
عدم الترحيب بالكاميرا وجدناه من شاب صغير عرفنا فيما بعد أن اسمه "شريف"، اعترض طريقنا وهو يحذرنا من تصوير أحوالهم والتعامل معهم وكأنهم كائنات منقرضة، نظراته الآمرة، وصوته المنفعل جعلتنا نواجه ثورته الصغيرة بحذر، كان علينا أن نقنعه بضرورة نقل الصورة القاتمة التي نراها إلي من يهمه الأمر.. سخر شريف مما نقول وأخبرنا بزملاء لنا من الصحافة والإعلام أتوا إلي هنا من قبل..
ما الذي حدث، هل اهتم بنا أحد؟.. أو أشفق علينا؟.. أو تطوع بمد ماسورة صرف صحي تنقذنا مما نحن فيه؟.. أو قام بتوصيل الماء إلي بيوتنا الفقيرة؟
أسئلة شريف التي لم ينتظر إجابتها أجبرتنا علي الصمت، في الوقت الذي لم تمنعنا فيه من توجيه دعوة مفتوحة إلي محافظ القاهرة ورئيس الحي لزيارة الناس هنا والتعرف علي أحوالهم..
فهل يقبل السيد المحافظ أن يقيم مع أسرته لمدة يوم واحد في إحدي هذه البيوت!؟..
خرطوم موصول بحنفية عمومية يمر علي البيوت يتناوب الأهالي استعماله ليسدوا حاجتهم من الماء، بينما كشافات الإنارة المعطلة تجعل الليل لا يطاق أو علي حسب تعبير أحمد عبد العال أحد سكان المنطقة "ضلمة كُحل".
عبد العال الذي قال إنه ولد هنا في هذه المنطقة يطالب بتوفير الحد الأدني من الحياة الكريمة لأهل منطقته، ويقول بأنهم قبلوا إخلاء بيوتهم كما طلب منهم بشرط أن يحصلوا علي مبلغ من المال يضمن لهم الحياة في مكان آخر لكن أحدا لم يلتفت إليهم.
ينظر شريف إلي أبراج ساويرس التي تنطح السحاب بقبابها وهو يحدثنا عن القضايا التي رفعها رجل الأعمال ليتمكن من طرد سكان العشش وتمكينه من الأرض. أما ماجد إسماعيل المحامي أحد أعضاء "اللجنة الشعبية لحماية أهالي بولاق" فيتحدث عن إهمال تحظي به منطقة العشش من الدولة التي لم تراع حال البسطاء وتخصص للأهالي شققا تحميهم من خطر الموت الذي يهدد حياتهم في كل لحظة، مشيراً إلي عجز الحكومة عن تهجير السكان لأنها ستواجه مشكلة أكبر وهي "البطالة" لعدم تفكيرها عن مصادر رزقهم وأكل عيشهم خاصة أن 90٪ من سكان رملة بولاق عاطلون وبدون عمل.
ويتطرق إلي مشروع القاهرة 2050 - الذي أعده الحزب الوطني المنحل عام 2008 - الهادف لتهجير سكان 29 منطقة في القاهرة إلي خارجها خاصة المناطق المطلة علي كورنيش النيل وتحويلها إلي متنزهات وفنادق عالمية وحدائق عامة، وإزالة مساكنها لإقامة أبراج إدارية وخدمية علي أنقاضها، وذلك بدلا من تطوير المنطقة وتنفيذ احتياجات ومطالب سكان العشش، وقال إن لجنتهم ترفع شعار "نعم للتطوير..لا للتهجير".
ويهاجم حاتم عبد الرحمن - مدرس من أهالي المنطقة النظام السابق الذي نجح في تشتيت الناس بين حلم التطوير والبقاء وبين الرغبة في الانتقال لمكان جديد، ويضيف: لا بد أن يكون للحي دور في إنقاذ هؤلاء البشر بتقديم أدني الخدمات لهم كتوفير حنفية في كل مسكن بدلا من الطوابير الطويلة التي لا تنتهي أمام حنفية مياه الشرب العمومية، فضلا عن إزالة القمامة من الشوارع، وإصلاح الشوارع التي لا يتعدي عرضها مترا واحدا، وعلي الدولة أن تضع مواطنيها في الحسبان ولا تلهث خلف مستثمرين يعرضون أموالا باهظة في مقابل هجرة الأهالي.
قلوب خضراء علي حائط
لم نذهب إلي السيدة دولت رضوان محمد لننقل صورة أخري لفقراء المنطقة، فمن قادنا إليها قال إنها تعرف الكثير عن أحوال المنطقة وطبيعة أهلها، كما أن جيرانها رشحوها لتنوب عنهم في الحديث.
وداخل بيتها المتواضع تقيم دولت مع أسرتها، صوتها الهادئ ينم عن شخصية لديها خبرة بأمور الحياة، بينما طريقة كلامها توحي بثقافة حياة أكسبها لها المكان بما يشمله من أحداث درامية تصلح لأن تكون موضوعات لعشرات الأفلام والمسلسلات.
تعترف دولت بأنها تحب هذا المكان وتستدرك: "بس نفسي يبقي حاجة جميلة.. غير اللي احنا فيها دي" وتعد 50 أسرة من جيرانها ليس لهم مصدر رزق إلا من خلال معاش التضامن الاجتماعي الذي يتقاضاه المسنون، وتأسف لحال أغلب الشباب الذين أضاعتهم الشرطة ولفقت لهم القضايا ليصبحوا مسجلين خطر: نفسي حد يقف جنبهم وينهضوا.. ميبقوش دول عقبة مصر".. وتقسم:" والله دول مش هما البلطجية اللي بيقولوا عليهم.. البلطجية هما اللي مطلعين لهم فلوس من فلوس الدولة وبينزلوهم يحاربوا بيهم الفقرا"
في يوم 28 يناير قبل الماضي خرجت دولت من منزلها مع ابنتها لتشارك الثوار طموحهم نحو الحرية.. وتقول" كنت عايزة أوصل صوتنا للناس.. علي الأقل الميتين بيتحاسبوا عند ربنا .. إنما احنا بنتحاسب حساب العبد للعبد".
حوائط بيتها التي تتزين بقلوب خضراء تشبه في لونها الأحلام البسيطة لدولت" أنا لما قالولي روحي انتخبي الإخوان .. عايزة أنتخب الإخوان.. لا والله.. أنا عايزة أنتخب اللي يحافظ علينا.. يعني الأزمات اللي انت فيها حاليا؛ الجاز والأنابيب.. هو الرئيس لما اتحبس البنزين قل ليه؟... هما بيدوا فلوس للبلطجية تفضي البنزين في المجاري والترع عشان يمنعوا دخولها للناس، واحنا نفضل علي كده.. وروحوا شوفوا التحرير.. لأ محمد محمود.. لأ مصطفي محمود.. اللي احنا فيه مش الثورة اللي عملته.. كل اللي بيحصل عشان نقول إن الرئيس مفيش أحسن منه.. وعلي فكرة مش هيتغيروا.. والمجلس العسكري مش هيمشي.
نفسي رملة بولاق يبقي فيها فرن.. مفيش فرن إلا في السبتية.. مفيش هنا صرف صحي .. ربنا يكرم جمعية الرسالة وقفوا معانا ودخلوا مواسير مجاري بس ملقناش حد يساعدنا ويكمل المشروع..
وتتمني أن يصل الحكم لشباب الثورة: أنا عايزة حد ينهض بينا .. يوصلنا.. عشان منفضلش طول عمرنا عايشين تحت رحمة حد"
وتحكي قصة ابنها" عندي ولد.. اعتقلوه من شغله.. عشان سمع أخوه بيتخانق.. وكتب عليه بلطجي بياكل من كد النسوان.. والوزير صدق علي الجواب وهو قاعد في مكتبه.. انت لو رحت شفت الشباب اللي اعتقلوهم هتلاقي منهم اللي عمره ما دخل قسم.. مرة ظابط جه البيت وزق جوزي العاجز ابني مرضيش..قال للظابط: انت عايز أيه.. سيادتك خدني أنا.. أقسم بأيمانات الله عمله قضية بانجو وسلاح وكان ابني لسه جاي من أسوان وفرحانين بيه وبناكل محشي، خلي بالك تذكرة السفر خلته ياخد براءة بعد 11 شهر تحقيق!"
حكاية فرغلي
خلف باب خشبي متهالك تستقبلنا رائحة ظلم سكنت صدور غلابة اعتادوا علي الفقر بين أربعة جدران يطلقون عليها من باب الرضا "عشة".
فحصنا محتويات مسكنهم المكون من غرفتين ضيقتين تحتويان علي أجزاء بسيطة من أثاث أي بيت؛ استقبلتنا ثلاجة يعلوها تليفزيون يطل علي كنبة تتحول ليلاً إلي سرير، لتصطدم بخزانة ملابس تنبهك بوجود باب لغرفة صغيرة تكفي لامرأة عجوز يقوم برعايتها ابنها فرغلي شوقي - مسجل خطر- والذي يخبرنا بعدم وجود مرحاض داخل مسكنهم مما يدفعهم لقضاء حاجتهم في "علب بلاستيك أو أكياس".
ويحكي فرغلي حكايته: الفقر تحالف مع الظلم لتوقع بي في مصيدة يملكها ضابط المباحث الذي هددني إما أن أكون مرشداً لهم وأدلهم علي تجار المخدرات أو يلفق لي قضية واتحبس، فلم يكن أمامي سوي الخضوع الذي رسم علي ملامحي قسمات تناسب عمل بلطجي يقوم بترويع الناس والتعدي عليهم بالسب والضرب.
يضيف: "حياتي ادمرت بعد دخولي السجن، فطلبت مراتي الطلاق رغماً عني، لتتزوج من رجل آخر، ولم تسمح لي بتربية أولادي ليكونا قريبين من جدتهم .. لكن.. الحمد لله إنهم بعيدون عني "لأنهم مش هيقدروا يعيشوا في خرابة.. أنا مش عايز أخل السجن تاني .. وكل اللي نفسي فيه مكان آدمي يسترني أنا وأمي"
بجواره أمه التي امتلأ وجهها بتجاعيد تعكس سنوات عمرها وتخبر من يراها بحجم معاناتها، يتطوع فرغلي بأن يعيد علي مسامعها بصوت عال الأسئلة التي نوجهها لها فنبدأ في سماع صوتها الواهن: "فرغلي اتشرد اونطة، لا بيشرب ولا بيتاجر في المخدرات، وبقي مسجل خطر بسبب الحكومة اللي هجمت علينا وأخدته بالعافية".
وتحكي العجوز التي اكتسبت الرضا من اسمها (رضا توفيق عبد الهادي) عن طفولة فرغلي الذي نشأ مع ثمانية إخوة في بيئة يعمها قسوة مارسها الأب معهم بإتقان فكان ينهال عليهم ضرباً حتي يخرجوا للعمل ليأتي له الواحد منهم بخمسة جنيهات في اليوم أفضل من تعليمه في المدارس(!)، وتستطرد: "كنت بخبي فرغلي في ديل الجلابية عشان أبوه مايضربهوش، وقررت اشتغل علشان أحميهم، كنت بعمل "محشي ومخلل" وأبيعه في سوق العبور، وبالليل أبيع لب وسوداني علي فرشة في بولاق، ولما كبر فرغلي اشتغل مع أبوه في الأقفاص، وبعدين طلبت من نجار يعلمه الصنعة تفيده بدل الشحططة في الشوارع".
وتضيف الأم البالغة من العمر ثمانين عاماً: "عمري ماكلت حاجة حرام ولا أحب حرامي يعيش في بيتي، وياما نصحت فرغلي إنه يبعد عن اي شبهة خصوصا المخدرات والسرقة، لكن ربنا يجازي الحكومة اللي فسدته بعد ما لفقت ليه القضايا، ولم يكن لدينا مال لدفع نفقات المحامي التي بلغت 2000 جنيه كي يحصل علي براءة، وفي النهاية ابني بقي مسجل خطر".
كشك صغير
قبل أن نصعد معه إلي شقته التي يسكنها في إحدي عمارات " الرملة" يصف وليد عبد المجيد حاله بالأفضل من زميله فرغلي حيث يسكن في شقة من غرفتين وصالة تعيش فيها ست أسر ينفرد فيها بواحدة يعدها لعروسه التي خطبها منذ ست سنوات، بينما يختصر أحلامه في الحصول علي كشك صغير يطعمه لقمة حلالا ويحميه من شر نفسه، ويضيف: حصلت علي تصريح له برقم 3947 بتاريخ 21 سبتمبر 2011 بمساعدة أحد محامين الحق المدني لكن المحافظة خيبت ظني ولم تعطني إياه.
"أنا مسجل خطر تائب، هل من مساعدة؟" يستغيث وليد علي صفحات الإنترنت بالحكومة كي يحصل علي وظيفة تعوضه عما لحق به من أذي علي أيدي رجال الشرطة الذين جعلوه مسجل خطر في الرابعة عشرة من عمره، ليصل عدد القضايا الملفقة له إلي ثلاثين قضية حصل فيها علي براءة دون رد شرف، مضيفاً: " لما المسجل يعمل حاجة غلط حاسبوه، لكن لما يتوب شجعوه، عشان يكمل في الطريق الصح".
يواصل: "بحاول أساعد الناس البسيطة اللي مالهاش حد غير ربنا، وممكن أتشاجر مع أمين شرطة يعتدي علي مظلوم، فهم لا يعرفون الرحمة، وعندما كنت بالسجن شاهدت أقسي أنواع العذاب الجسدي والنفسي، فكانت السجون تحت الأرض، والزنزانة الواحدة بها عدد كبير من المساجين، فكنا ننام واحنا واقفين، ولو أولاد المخلوع عدوا علي سجن الاستئناف كنا عرفنا فلوسنا راحت فين!
لا يوجد هنا صرف صحي، ولا مياه، بينما الظلام الذي يغرق الطرق الضيقة جعل الشعور بالخوف يلازمنا طيلة رحلة قادنا فيها الفضول لمعرفة كيف يحيا هؤلاء البشر بلا حياة!
"ده بيتي"، تشير نجوي أبو المجد إلي إحدي العشش، وتقول: إحنا غلابة.. مدفونين بالحيا.. سامعني.. أنا مش خايفة(!).. معندناش حمام.. بيسمونا منطقة الصفيح عشان بنقضي حاجتنا - لامؤاخذة - في صفيحة!
عدم الترحيب بالكاميرا وجدناه من شاب صغير عرفنا فيما بعد أن اسمه "شريف"، اعترض طريقنا وهو يحذرنا من تصوير أحوالهم والتعامل معهم وكأنهم كائنات منقرضة، نظراته الآمرة، وصوته المنفعل جعلتنا نواجه ثورته الصغيرة بحذر، كان علينا أن نقنعه بضرورة نقل الصورة القاتمة التي نراها إلي من يهمه الأمر.. سخر شريف مما نقول وأخبرنا بزملاء لنا من الصحافة والإعلام أتوا إلي هنا من قبل..
ما الذي حدث، هل اهتم بنا أحد؟.. أو أشفق علينا؟.. أو تطوع بمد ماسورة صرف صحي تنقذنا مما نحن فيه؟.. أو قام بتوصيل الماء إلي بيوتنا الفقيرة؟
أسئلة شريف التي لم ينتظر إجابتها أجبرتنا علي الصمت، في الوقت الذي لم تمنعنا فيه من توجيه دعوة مفتوحة إلي محافظ القاهرة ورئيس الحي لزيارة الناس هنا والتعرف علي أحوالهم..
فهل يقبل السيد المحافظ أن يقيم مع أسرته لمدة يوم واحد في إحدي هذه البيوت!؟..
خرطوم موصول بحنفية عمومية يمر علي البيوت يتناوب الأهالي استعماله ليسدوا حاجتهم من الماء، بينما كشافات الإنارة المعطلة تجعل الليل لا يطاق أو علي حسب تعبير أحمد عبد العال أحد سكان المنطقة "ضلمة كُحل".
عبد العال الذي قال إنه ولد هنا في هذه المنطقة يطالب بتوفير الحد الأدني من الحياة الكريمة لأهل منطقته، ويقول بأنهم قبلوا إخلاء بيوتهم كما طلب منهم بشرط أن يحصلوا علي مبلغ من المال يضمن لهم الحياة في مكان آخر لكن أحدا لم يلتفت إليهم.
ينظر شريف إلي أبراج ساويرس التي تنطح السحاب بقبابها وهو يحدثنا عن القضايا التي رفعها رجل الأعمال ليتمكن من طرد سكان العشش وتمكينه من الأرض. أما ماجد إسماعيل المحامي أحد أعضاء "اللجنة الشعبية لحماية أهالي بولاق" فيتحدث عن إهمال تحظي به منطقة العشش من الدولة التي لم تراع حال البسطاء وتخصص للأهالي شققا تحميهم من خطر الموت الذي يهدد حياتهم في كل لحظة، مشيراً إلي عجز الحكومة عن تهجير السكان لأنها ستواجه مشكلة أكبر وهي "البطالة" لعدم تفكيرها عن مصادر رزقهم وأكل عيشهم خاصة أن 90٪ من سكان رملة بولاق عاطلون وبدون عمل.
ويتطرق إلي مشروع القاهرة 2050 - الذي أعده الحزب الوطني المنحل عام 2008 - الهادف لتهجير سكان 29 منطقة في القاهرة إلي خارجها خاصة المناطق المطلة علي كورنيش النيل وتحويلها إلي متنزهات وفنادق عالمية وحدائق عامة، وإزالة مساكنها لإقامة أبراج إدارية وخدمية علي أنقاضها، وذلك بدلا من تطوير المنطقة وتنفيذ احتياجات ومطالب سكان العشش، وقال إن لجنتهم ترفع شعار "نعم للتطوير..لا للتهجير".
ويهاجم حاتم عبد الرحمن - مدرس من أهالي المنطقة النظام السابق الذي نجح في تشتيت الناس بين حلم التطوير والبقاء وبين الرغبة في الانتقال لمكان جديد، ويضيف: لا بد أن يكون للحي دور في إنقاذ هؤلاء البشر بتقديم أدني الخدمات لهم كتوفير حنفية في كل مسكن بدلا من الطوابير الطويلة التي لا تنتهي أمام حنفية مياه الشرب العمومية، فضلا عن إزالة القمامة من الشوارع، وإصلاح الشوارع التي لا يتعدي عرضها مترا واحدا، وعلي الدولة أن تضع مواطنيها في الحسبان ولا تلهث خلف مستثمرين يعرضون أموالا باهظة في مقابل هجرة الأهالي.
قلوب خضراء علي حائط
لم نذهب إلي السيدة دولت رضوان محمد لننقل صورة أخري لفقراء المنطقة، فمن قادنا إليها قال إنها تعرف الكثير عن أحوال المنطقة وطبيعة أهلها، كما أن جيرانها رشحوها لتنوب عنهم في الحديث.
وداخل بيتها المتواضع تقيم دولت مع أسرتها، صوتها الهادئ ينم عن شخصية لديها خبرة بأمور الحياة، بينما طريقة كلامها توحي بثقافة حياة أكسبها لها المكان بما يشمله من أحداث درامية تصلح لأن تكون موضوعات لعشرات الأفلام والمسلسلات.
تعترف دولت بأنها تحب هذا المكان وتستدرك: "بس نفسي يبقي حاجة جميلة.. غير اللي احنا فيها دي" وتعد 50 أسرة من جيرانها ليس لهم مصدر رزق إلا من خلال معاش التضامن الاجتماعي الذي يتقاضاه المسنون، وتأسف لحال أغلب الشباب الذين أضاعتهم الشرطة ولفقت لهم القضايا ليصبحوا مسجلين خطر: نفسي حد يقف جنبهم وينهضوا.. ميبقوش دول عقبة مصر".. وتقسم:" والله دول مش هما البلطجية اللي بيقولوا عليهم.. البلطجية هما اللي مطلعين لهم فلوس من فلوس الدولة وبينزلوهم يحاربوا بيهم الفقرا"
في يوم 28 يناير قبل الماضي خرجت دولت من منزلها مع ابنتها لتشارك الثوار طموحهم نحو الحرية.. وتقول" كنت عايزة أوصل صوتنا للناس.. علي الأقل الميتين بيتحاسبوا عند ربنا .. إنما احنا بنتحاسب حساب العبد للعبد".
حوائط بيتها التي تتزين بقلوب خضراء تشبه في لونها الأحلام البسيطة لدولت" أنا لما قالولي روحي انتخبي الإخوان .. عايزة أنتخب الإخوان.. لا والله.. أنا عايزة أنتخب اللي يحافظ علينا.. يعني الأزمات اللي انت فيها حاليا؛ الجاز والأنابيب.. هو الرئيس لما اتحبس البنزين قل ليه؟... هما بيدوا فلوس للبلطجية تفضي البنزين في المجاري والترع عشان يمنعوا دخولها للناس، واحنا نفضل علي كده.. وروحوا شوفوا التحرير.. لأ محمد محمود.. لأ مصطفي محمود.. اللي احنا فيه مش الثورة اللي عملته.. كل اللي بيحصل عشان نقول إن الرئيس مفيش أحسن منه.. وعلي فكرة مش هيتغيروا.. والمجلس العسكري مش هيمشي.
نفسي رملة بولاق يبقي فيها فرن.. مفيش فرن إلا في السبتية.. مفيش هنا صرف صحي .. ربنا يكرم جمعية الرسالة وقفوا معانا ودخلوا مواسير مجاري بس ملقناش حد يساعدنا ويكمل المشروع..
وتتمني أن يصل الحكم لشباب الثورة: أنا عايزة حد ينهض بينا .. يوصلنا.. عشان منفضلش طول عمرنا عايشين تحت رحمة حد"
وتحكي قصة ابنها" عندي ولد.. اعتقلوه من شغله.. عشان سمع أخوه بيتخانق.. وكتب عليه بلطجي بياكل من كد النسوان.. والوزير صدق علي الجواب وهو قاعد في مكتبه.. انت لو رحت شفت الشباب اللي اعتقلوهم هتلاقي منهم اللي عمره ما دخل قسم.. مرة ظابط جه البيت وزق جوزي العاجز ابني مرضيش..قال للظابط: انت عايز أيه.. سيادتك خدني أنا.. أقسم بأيمانات الله عمله قضية بانجو وسلاح وكان ابني لسه جاي من أسوان وفرحانين بيه وبناكل محشي، خلي بالك تذكرة السفر خلته ياخد براءة بعد 11 شهر تحقيق!"
حكاية فرغلي
خلف باب خشبي متهالك تستقبلنا رائحة ظلم سكنت صدور غلابة اعتادوا علي الفقر بين أربعة جدران يطلقون عليها من باب الرضا "عشة".
فحصنا محتويات مسكنهم المكون من غرفتين ضيقتين تحتويان علي أجزاء بسيطة من أثاث أي بيت؛ استقبلتنا ثلاجة يعلوها تليفزيون يطل علي كنبة تتحول ليلاً إلي سرير، لتصطدم بخزانة ملابس تنبهك بوجود باب لغرفة صغيرة تكفي لامرأة عجوز يقوم برعايتها ابنها فرغلي شوقي - مسجل خطر- والذي يخبرنا بعدم وجود مرحاض داخل مسكنهم مما يدفعهم لقضاء حاجتهم في "علب بلاستيك أو أكياس".
ويحكي فرغلي حكايته: الفقر تحالف مع الظلم لتوقع بي في مصيدة يملكها ضابط المباحث الذي هددني إما أن أكون مرشداً لهم وأدلهم علي تجار المخدرات أو يلفق لي قضية واتحبس، فلم يكن أمامي سوي الخضوع الذي رسم علي ملامحي قسمات تناسب عمل بلطجي يقوم بترويع الناس والتعدي عليهم بالسب والضرب.
يضيف: "حياتي ادمرت بعد دخولي السجن، فطلبت مراتي الطلاق رغماً عني، لتتزوج من رجل آخر، ولم تسمح لي بتربية أولادي ليكونا قريبين من جدتهم .. لكن.. الحمد لله إنهم بعيدون عني "لأنهم مش هيقدروا يعيشوا في خرابة.. أنا مش عايز أخل السجن تاني .. وكل اللي نفسي فيه مكان آدمي يسترني أنا وأمي"
بجواره أمه التي امتلأ وجهها بتجاعيد تعكس سنوات عمرها وتخبر من يراها بحجم معاناتها، يتطوع فرغلي بأن يعيد علي مسامعها بصوت عال الأسئلة التي نوجهها لها فنبدأ في سماع صوتها الواهن: "فرغلي اتشرد اونطة، لا بيشرب ولا بيتاجر في المخدرات، وبقي مسجل خطر بسبب الحكومة اللي هجمت علينا وأخدته بالعافية".
وتحكي العجوز التي اكتسبت الرضا من اسمها (رضا توفيق عبد الهادي) عن طفولة فرغلي الذي نشأ مع ثمانية إخوة في بيئة يعمها قسوة مارسها الأب معهم بإتقان فكان ينهال عليهم ضرباً حتي يخرجوا للعمل ليأتي له الواحد منهم بخمسة جنيهات في اليوم أفضل من تعليمه في المدارس(!)، وتستطرد: "كنت بخبي فرغلي في ديل الجلابية عشان أبوه مايضربهوش، وقررت اشتغل علشان أحميهم، كنت بعمل "محشي ومخلل" وأبيعه في سوق العبور، وبالليل أبيع لب وسوداني علي فرشة في بولاق، ولما كبر فرغلي اشتغل مع أبوه في الأقفاص، وبعدين طلبت من نجار يعلمه الصنعة تفيده بدل الشحططة في الشوارع".
وتضيف الأم البالغة من العمر ثمانين عاماً: "عمري ماكلت حاجة حرام ولا أحب حرامي يعيش في بيتي، وياما نصحت فرغلي إنه يبعد عن اي شبهة خصوصا المخدرات والسرقة، لكن ربنا يجازي الحكومة اللي فسدته بعد ما لفقت ليه القضايا، ولم يكن لدينا مال لدفع نفقات المحامي التي بلغت 2000 جنيه كي يحصل علي براءة، وفي النهاية ابني بقي مسجل خطر".
كشك صغير
قبل أن نصعد معه إلي شقته التي يسكنها في إحدي عمارات " الرملة" يصف وليد عبد المجيد حاله بالأفضل من زميله فرغلي حيث يسكن في شقة من غرفتين وصالة تعيش فيها ست أسر ينفرد فيها بواحدة يعدها لعروسه التي خطبها منذ ست سنوات، بينما يختصر أحلامه في الحصول علي كشك صغير يطعمه لقمة حلالا ويحميه من شر نفسه، ويضيف: حصلت علي تصريح له برقم 3947 بتاريخ 21 سبتمبر 2011 بمساعدة أحد محامين الحق المدني لكن المحافظة خيبت ظني ولم تعطني إياه.
"أنا مسجل خطر تائب، هل من مساعدة؟" يستغيث وليد علي صفحات الإنترنت بالحكومة كي يحصل علي وظيفة تعوضه عما لحق به من أذي علي أيدي رجال الشرطة الذين جعلوه مسجل خطر في الرابعة عشرة من عمره، ليصل عدد القضايا الملفقة له إلي ثلاثين قضية حصل فيها علي براءة دون رد شرف، مضيفاً: " لما المسجل يعمل حاجة غلط حاسبوه، لكن لما يتوب شجعوه، عشان يكمل في الطريق الصح".
يواصل: "بحاول أساعد الناس البسيطة اللي مالهاش حد غير ربنا، وممكن أتشاجر مع أمين شرطة يعتدي علي مظلوم، فهم لا يعرفون الرحمة، وعندما كنت بالسجن شاهدت أقسي أنواع العذاب الجسدي والنفسي، فكانت السجون تحت الأرض، والزنزانة الواحدة بها عدد كبير من المساجين، فكنا ننام واحنا واقفين، ولو أولاد المخلوع عدوا علي سجن الاستئناف كنا عرفنا فلوسنا راحت فين!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.