باكستان تعلن استهداف الهند ل3 قواعد جوية بصواريخ    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه اليوم بعد انخفاضه في البنوك    المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يعلن اليوم معدل التضخم لشهر أبريل    د. حسين خالد يكتب: جودة التعليم العالى (2)    ذهب وشقة فاخرة وسيارة مصفحة، كيف تتحول حياة البابا ليو بعد تنصيبه؟    جوجل توافق على دفع أكبر غرامة في تاريخ أمريكا بسبب جمع بيانات المستخدمين دون إذن    الرئيس السيسي يعود إلى أرض الوطن بعد مشاركته في احتفالات عيد النصر في موسكو    بعد 8 ساعات.. السيطرة على حريق شونة الكتان بشبرا ملس    نشرة التوك شو| البترول تعلق على أزمة البنزين المغشوش.. وتفاصيل جديدة في أزمة بوسي شلبي    طحالب خضراء تسد الفجوة بنسبة 15%| «الكلوريلا».. مستقبل إنتاج الأعلاف    الشعب الجمهوري بالمنيا ينظم احتفالية كبرى لتكريم الأمهات المثاليات.. صور    شعبة الأجهزة الكهربائية: المعلومات أحد التحديات التي تواجه صغار المصنعين    مدير مدرسة السلام في واقعة الاعتداء: «الخناقة حصلت بين الناس اللي شغالين عندي وأولياء الأمور»    برلمانية: 100 ألف ريال غرامة الذهاب للحج بدون تأشيرة    جيش الاحتلال يصيب فلسطينيين بالرصاص الحي بالضفة الغربية    طريقة عمل الخبيزة، أكلة شعبية لذيذة وسهلة التحضير    عقب الفوز على بيراميدز.. رئيس البنك الأهلي: نريد تأمين المركز الرابع    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن بعد آخر تراجع بمستهل تعاملات السبت 10 مايو 2025    الشقة ب5 جنيهات في الشهر| جراحة دقيقة بالبرلمان لتعديل قانون الإيجار القديم    استشهاد قائد كتيبة جنين في نابلس واقتحامات تطال رام الله    العثور على جثة متفحمة داخل أرض زراعية بمنشأة القناطر    زعيم كوريا الشمالية: مشاركتنا في الحرب الروسية الأوكرانية مبررة    هل تجوز صلاة الرجل ب"الفانلة" بسبب ارتفاع الحرارة؟.. الإفتاء توضح    الهند تستهدف 3 قواعد جوية باكستانية بصواريخ دقيقة    الترسانة يواجه «وي» في افتتاح مباريات الجولة ال 35 بدوري المحترفين    ملك أحمد زاهر تشارك الجمهور صورًا مع عائلتها.. وتوجه رسالة لشقيقتها ليلى    «زي النهارده».. وفاة الأديب والمفكر مصطفى صادق الرافعي 10 مايو 1937    تكريم منى زكي كأفضل ممثلة بمهرجان المركز الكاثوليكي للسينما    «ليه منكبرش النحاس».. تعليق مثير من سيد عبدالحفيظ على أنباء اتفاق الأهلي مع جوميز    «غرفة السياحة» تجمع بيانات المعتمرين المتخلفين عن العودة    «زي النهارده».. وفاة الفنانة هالة فؤاد 10 مايو 1993    «صحة القاهرة» تكثف الاستعدادات لاعتماد وحداتها الطبية من «GAHAR»    حريق ضخم يلتهم مخزن عبوات بلاستيكية بالمنوفية    عباسى يقود "فتاة الآرل" على أنغام السيمفونى بالأوبرا    ستاندرد آند بورز تُبقي على التصنيف الائتماني لإسرائيل مع نظرة مستقبلية سلبية    حدث في منتصف الليل| ننشر تفاصيل لقاء الرئيس السيسي ونظيره الروسي.. والعمل تعلن عن وظائف جديدة    تعرف على منافس منتخب مصر في ربع نهائي كأس أمم أفريقيا للشباب    رايو فاليكانو يحقق فوزا ثمينا أمام لاس بالماس بالدوري الإسباني    الأعراض المبكرة للاكتئاب وكيف يمكن أن يتطور إلى حاد؟    البترول: تلقينا 681 شكوى ليست جميعها مرتبطة بالبنزين.. وسنعلن النتائج بشفافية    متابعة للأداء وتوجيهات تطويرية جديدة.. النائب العام يلتقي أعضاء وموظفي نيابة استئناف المنصورة    عمرو أديب بعد هزيمة بيراميدز: البنك الأهلي أحسن بنك في مصر.. والزمالك ظالم وليس مظلومًا    «بُص في ورقتك».. سيد عبدالحفيظ يعلق على هزيمة بيراميدز بالدوري    يسرا عن أزمة بوسي شلبي: «لحد آخر يوم في عمره كانت زوجته على سُنة الله ورسوله»    انطلاق مهرجان المسرح العالمي «دورة الأساتذة» بمعهد الفنون المسرحية| فيديو    أسخن 48 ساعة في مايو.. بيان مهم بشأن حالة الطقس: هجمة صيفية مبكرة    أمين الفتوى: طواف الوداع سنة.. والحج صحيح دون فدية لمن تركه لعذر (فيديو)    بسبب عقب سيجارة.. نفوق 110 رأس أغنام في حريق حظيرة ومزرعة بالمنيا    النائب العام يلتقي أعضاء النيابة العامة وموظفيها بدائرة نيابة استئناف المنصورة    هيثم فاروق يكشف عيب خطير في نجم الزمالك.. ويؤكد: «الأهداف الأخيرة بسببه»    جامعة القاهرة تكرّم رئيس المحكمة الدستورية العليا تقديرًا لمسيرته القضائية    «لماذا الجبن مع البطيخ؟».. «العلم» يكشف سر هذا الثنائي المدهش لعشاقه    ما حكم من ترك طواف الوداع في الحج؟.. أمين الفتوى يوضح (فيديو)    خطيب الجامع الأزهر: الحديث بغير علم في أمور الدين تجرُؤ واستخفاف يقود للفتنة    ضبط تشكيل عصابي انتحلوا صفة لسرقة المواطنين بعين شمس    البابا لاون الرابع عشر في قداس احتفالي: "رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع العجائب"    هل يجوز الحج عن الوالدين؟ الإفتاء تُجيب    رئيس الوزراء يؤكد حِرصه على المتابعة المستمرة لأداء منظومة الشكاوى الحكومية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مواطنون علي هامش الحياة: »رملة بولاق« في قبضة الإهمال

ثورة الجىاع قادمة تحديد المكان ليس مشكلة؛ فخلف أبراج ساويرس العملاقة التي تطل بتعالٍ علي نيل القاهرة تقع " عشش رملة بولاق".. بينما تحديد الزمان الذي يعيش فيه سكانها هو الصعوبة التي قد تواجهك، فربما كان عليك أن ترجع بالزمن لقرون طويلة مضت حتي تصدق أن ما تشاهده بعينيك حياة طبيعية لبشر من المفترض أنهم يعيشون داخل قلب القاهرة.. لكن القاهرة بلا قلب(!)، والمسئولون فيها لم يأتوا إلي هنا ليروا بيواتا مصنوعة من القش أشبه بعلب صغيرة، كل علبة يعيش فيها أكثر من أسرة، بينما الشوارع التي يصل عرضها في بعض الأحيان إلي نصف متر تسمح لك بتخيل أنك داخل فيلم كارتوني رسمه طفل لا يجيد الرسم!
لا يوجد هنا صرف صحي، ولا مياه، بينما الظلام الذي يغرق الطرق الضيقة جعل الشعور بالخوف يلازمنا طيلة رحلة قادنا فيها الفضول لمعرفة كيف يحيا هؤلاء البشر بلا حياة!
"ده بيتي"، تشير نجوي أبو المجد إلي إحدي العشش، وتقول: إحنا غلابة.. مدفونين بالحيا.. سامعني.. أنا مش خايفة(!).. معندناش حمام.. بيسمونا منطقة الصفيح عشان بنقضي حاجتنا - لامؤاخذة - في صفيحة!
عدم الترحيب بالكاميرا وجدناه من شاب صغير عرفنا فيما بعد أن اسمه "شريف"، اعترض طريقنا وهو يحذرنا من تصوير أحوالهم والتعامل معهم وكأنهم كائنات منقرضة، نظراته الآمرة، وصوته المنفعل جعلتنا نواجه ثورته الصغيرة بحذر، كان علينا أن نقنعه بضرورة نقل الصورة القاتمة التي نراها إلي من يهمه الأمر.. سخر شريف مما نقول وأخبرنا بزملاء لنا من الصحافة والإعلام أتوا إلي هنا من قبل..
ما الذي حدث، هل اهتم بنا أحد؟.. أو أشفق علينا؟.. أو تطوع بمد ماسورة صرف صحي تنقذنا مما نحن فيه؟.. أو قام بتوصيل الماء إلي بيوتنا الفقيرة؟
أسئلة شريف التي لم ينتظر إجابتها أجبرتنا علي الصمت، في الوقت الذي لم تمنعنا فيه من توجيه دعوة مفتوحة إلي محافظ القاهرة ورئيس الحي لزيارة الناس هنا والتعرف علي أحوالهم..
فهل يقبل السيد المحافظ أن يقيم مع أسرته لمدة يوم واحد في إحدي هذه البيوت!؟..
خرطوم موصول بحنفية عمومية يمر علي البيوت يتناوب الأهالي استعماله ليسدوا حاجتهم من الماء، بينما كشافات الإنارة المعطلة تجعل الليل لا يطاق أو علي حسب تعبير أحمد عبد العال أحد سكان المنطقة "ضلمة كُحل".
عبد العال الذي قال إنه ولد هنا في هذه المنطقة يطالب بتوفير الحد الأدني من الحياة الكريمة لأهل منطقته، ويقول بأنهم قبلوا إخلاء بيوتهم كما طلب منهم بشرط أن يحصلوا علي مبلغ من المال يضمن لهم الحياة في مكان آخر لكن أحدا لم يلتفت إليهم.
ينظر شريف إلي أبراج ساويرس التي تنطح السحاب بقبابها وهو يحدثنا عن القضايا التي رفعها رجل الأعمال ليتمكن من طرد سكان العشش وتمكينه من الأرض. أما ماجد إسماعيل المحامي أحد أعضاء "اللجنة الشعبية لحماية أهالي بولاق" فيتحدث عن إهمال تحظي به منطقة العشش من الدولة التي لم تراع حال البسطاء وتخصص للأهالي شققا تحميهم من خطر الموت الذي يهدد حياتهم في كل لحظة، مشيراً إلي عجز الحكومة عن تهجير السكان لأنها ستواجه مشكلة أكبر وهي "البطالة" لعدم تفكيرها عن مصادر رزقهم وأكل عيشهم خاصة أن 90٪ من سكان رملة بولاق عاطلون وبدون عمل.
ويتطرق إلي مشروع القاهرة 2050 - الذي أعده الحزب الوطني المنحل عام 2008 - الهادف لتهجير سكان 29 منطقة في القاهرة إلي خارجها خاصة المناطق المطلة علي كورنيش النيل وتحويلها إلي متنزهات وفنادق عالمية وحدائق عامة، وإزالة مساكنها لإقامة أبراج إدارية وخدمية علي أنقاضها، وذلك بدلا من تطوير المنطقة وتنفيذ احتياجات ومطالب سكان العشش، وقال إن لجنتهم ترفع شعار "نعم للتطوير..لا للتهجير".
ويهاجم حاتم عبد الرحمن - مدرس من أهالي المنطقة النظام السابق الذي نجح في تشتيت الناس بين حلم التطوير والبقاء وبين الرغبة في الانتقال لمكان جديد، ويضيف: لا بد أن يكون للحي دور في إنقاذ هؤلاء البشر بتقديم أدني الخدمات لهم كتوفير حنفية في كل مسكن بدلا من الطوابير الطويلة التي لا تنتهي أمام حنفية مياه الشرب العمومية، فضلا عن إزالة القمامة من الشوارع، وإصلاح الشوارع التي لا يتعدي عرضها مترا واحدا، وعلي الدولة أن تضع مواطنيها في الحسبان ولا تلهث خلف مستثمرين يعرضون أموالا باهظة في مقابل هجرة الأهالي.
قلوب خضراء علي حائط
لم نذهب إلي السيدة دولت رضوان محمد لننقل صورة أخري لفقراء المنطقة، فمن قادنا إليها قال إنها تعرف الكثير عن أحوال المنطقة وطبيعة أهلها، كما أن جيرانها رشحوها لتنوب عنهم في الحديث.
وداخل بيتها المتواضع تقيم دولت مع أسرتها، صوتها الهادئ ينم عن شخصية لديها خبرة بأمور الحياة، بينما طريقة كلامها توحي بثقافة حياة أكسبها لها المكان بما يشمله من أحداث درامية تصلح لأن تكون موضوعات لعشرات الأفلام والمسلسلات.
تعترف دولت بأنها تحب هذا المكان وتستدرك: "بس نفسي يبقي حاجة جميلة.. غير اللي احنا فيها دي" وتعد 50 أسرة من جيرانها ليس لهم مصدر رزق إلا من خلال معاش التضامن الاجتماعي الذي يتقاضاه المسنون، وتأسف لحال أغلب الشباب الذين أضاعتهم الشرطة ولفقت لهم القضايا ليصبحوا مسجلين خطر: نفسي حد يقف جنبهم وينهضوا.. ميبقوش دول عقبة مصر".. وتقسم:" والله دول مش هما البلطجية اللي بيقولوا عليهم.. البلطجية هما اللي مطلعين لهم فلوس من فلوس الدولة وبينزلوهم يحاربوا بيهم الفقرا"
في يوم 28 يناير قبل الماضي خرجت دولت من منزلها مع ابنتها لتشارك الثوار طموحهم نحو الحرية.. وتقول" كنت عايزة أوصل صوتنا للناس.. علي الأقل الميتين بيتحاسبوا عند ربنا .. إنما احنا بنتحاسب حساب العبد للعبد".
حوائط بيتها التي تتزين بقلوب خضراء تشبه في لونها الأحلام البسيطة لدولت" أنا لما قالولي روحي انتخبي الإخوان .. عايزة أنتخب الإخوان.. لا والله.. أنا عايزة أنتخب اللي يحافظ علينا.. يعني الأزمات اللي انت فيها حاليا؛ الجاز والأنابيب.. هو الرئيس لما اتحبس البنزين قل ليه؟... هما بيدوا فلوس للبلطجية تفضي البنزين في المجاري والترع عشان يمنعوا دخولها للناس، واحنا نفضل علي كده.. وروحوا شوفوا التحرير.. لأ محمد محمود.. لأ مصطفي محمود.. اللي احنا فيه مش الثورة اللي عملته.. كل اللي بيحصل عشان نقول إن الرئيس مفيش أحسن منه.. وعلي فكرة مش هيتغيروا.. والمجلس العسكري مش هيمشي.
نفسي رملة بولاق يبقي فيها فرن.. مفيش فرن إلا في السبتية.. مفيش هنا صرف صحي .. ربنا يكرم جمعية الرسالة وقفوا معانا ودخلوا مواسير مجاري بس ملقناش حد يساعدنا ويكمل المشروع..
وتتمني أن يصل الحكم لشباب الثورة: أنا عايزة حد ينهض بينا .. يوصلنا.. عشان منفضلش طول عمرنا عايشين تحت رحمة حد"
وتحكي قصة ابنها" عندي ولد.. اعتقلوه من شغله.. عشان سمع أخوه بيتخانق.. وكتب عليه بلطجي بياكل من كد النسوان.. والوزير صدق علي الجواب وهو قاعد في مكتبه.. انت لو رحت شفت الشباب اللي اعتقلوهم هتلاقي منهم اللي عمره ما دخل قسم.. مرة ظابط جه البيت وزق جوزي العاجز ابني مرضيش..قال للظابط: انت عايز أيه.. سيادتك خدني أنا.. أقسم بأيمانات الله عمله قضية بانجو وسلاح وكان ابني لسه جاي من أسوان وفرحانين بيه وبناكل محشي، خلي بالك تذكرة السفر خلته ياخد براءة بعد 11 شهر تحقيق!"
حكاية فرغلي
خلف باب خشبي متهالك تستقبلنا رائحة ظلم سكنت صدور غلابة اعتادوا علي الفقر بين أربعة جدران يطلقون عليها من باب الرضا "عشة".
فحصنا محتويات مسكنهم المكون من غرفتين ضيقتين تحتويان علي أجزاء بسيطة من أثاث أي بيت؛ استقبلتنا ثلاجة يعلوها تليفزيون يطل علي كنبة تتحول ليلاً إلي سرير، لتصطدم بخزانة ملابس تنبهك بوجود باب لغرفة صغيرة تكفي لامرأة عجوز يقوم برعايتها ابنها فرغلي شوقي - مسجل خطر- والذي يخبرنا بعدم وجود مرحاض داخل مسكنهم مما يدفعهم لقضاء حاجتهم في "علب بلاستيك أو أكياس".
ويحكي فرغلي حكايته: الفقر تحالف مع الظلم لتوقع بي في مصيدة يملكها ضابط المباحث الذي هددني إما أن أكون مرشداً لهم وأدلهم علي تجار المخدرات أو يلفق لي قضية واتحبس، فلم يكن أمامي سوي الخضوع الذي رسم علي ملامحي قسمات تناسب عمل بلطجي يقوم بترويع الناس والتعدي عليهم بالسب والضرب.
يضيف: "حياتي ادمرت بعد دخولي السجن، فطلبت مراتي الطلاق رغماً عني، لتتزوج من رجل آخر، ولم تسمح لي بتربية أولادي ليكونا قريبين من جدتهم .. لكن.. الحمد لله إنهم بعيدون عني "لأنهم مش هيقدروا يعيشوا في خرابة.. أنا مش عايز أخل السجن تاني .. وكل اللي نفسي فيه مكان آدمي يسترني أنا وأمي"
بجواره أمه التي امتلأ وجهها بتجاعيد تعكس سنوات عمرها وتخبر من يراها بحجم معاناتها، يتطوع فرغلي بأن يعيد علي مسامعها بصوت عال الأسئلة التي نوجهها لها فنبدأ في سماع صوتها الواهن: "فرغلي اتشرد اونطة، لا بيشرب ولا بيتاجر في المخدرات، وبقي مسجل خطر بسبب الحكومة اللي هجمت علينا وأخدته بالعافية".
وتحكي العجوز التي اكتسبت الرضا من اسمها (رضا توفيق عبد الهادي) عن طفولة فرغلي الذي نشأ مع ثمانية إخوة في بيئة يعمها قسوة مارسها الأب معهم بإتقان فكان ينهال عليهم ضرباً حتي يخرجوا للعمل ليأتي له الواحد منهم بخمسة جنيهات في اليوم أفضل من تعليمه في المدارس(!)، وتستطرد: "كنت بخبي فرغلي في ديل الجلابية عشان أبوه مايضربهوش، وقررت اشتغل علشان أحميهم، كنت بعمل "محشي ومخلل" وأبيعه في سوق العبور، وبالليل أبيع لب وسوداني علي فرشة في بولاق، ولما كبر فرغلي اشتغل مع أبوه في الأقفاص، وبعدين طلبت من نجار يعلمه الصنعة تفيده بدل الشحططة في الشوارع".
وتضيف الأم البالغة من العمر ثمانين عاماً: "عمري ماكلت حاجة حرام ولا أحب حرامي يعيش في بيتي، وياما نصحت فرغلي إنه يبعد عن اي شبهة خصوصا المخدرات والسرقة، لكن ربنا يجازي الحكومة اللي فسدته بعد ما لفقت ليه القضايا، ولم يكن لدينا مال لدفع نفقات المحامي التي بلغت 2000 جنيه كي يحصل علي براءة، وفي النهاية ابني بقي مسجل خطر".
كشك صغير
قبل أن نصعد معه إلي شقته التي يسكنها في إحدي عمارات " الرملة" يصف وليد عبد المجيد حاله بالأفضل من زميله فرغلي حيث يسكن في شقة من غرفتين وصالة تعيش فيها ست أسر ينفرد فيها بواحدة يعدها لعروسه التي خطبها منذ ست سنوات، بينما يختصر أحلامه في الحصول علي كشك صغير يطعمه لقمة حلالا ويحميه من شر نفسه، ويضيف: حصلت علي تصريح له برقم 3947 بتاريخ 21 سبتمبر 2011 بمساعدة أحد محامين الحق المدني لكن المحافظة خيبت ظني ولم تعطني إياه.
"أنا مسجل خطر تائب، هل من مساعدة؟" يستغيث وليد علي صفحات الإنترنت بالحكومة كي يحصل علي وظيفة تعوضه عما لحق به من أذي علي أيدي رجال الشرطة الذين جعلوه مسجل خطر في الرابعة عشرة من عمره، ليصل عدد القضايا الملفقة له إلي ثلاثين قضية حصل فيها علي براءة دون رد شرف، مضيفاً: " لما المسجل يعمل حاجة غلط حاسبوه، لكن لما يتوب شجعوه، عشان يكمل في الطريق الصح".
يواصل: "بحاول أساعد الناس البسيطة اللي مالهاش حد غير ربنا، وممكن أتشاجر مع أمين شرطة يعتدي علي مظلوم، فهم لا يعرفون الرحمة، وعندما كنت بالسجن شاهدت أقسي أنواع العذاب الجسدي والنفسي، فكانت السجون تحت الأرض، والزنزانة الواحدة بها عدد كبير من المساجين، فكنا ننام واحنا واقفين، ولو أولاد المخلوع عدوا علي سجن الاستئناف كنا عرفنا فلوسنا راحت فين!
لا يوجد هنا صرف صحي، ولا مياه، بينما الظلام الذي يغرق الطرق الضيقة جعل الشعور بالخوف يلازمنا طيلة رحلة قادنا فيها الفضول لمعرفة كيف يحيا هؤلاء البشر بلا حياة!
"ده بيتي"، تشير نجوي أبو المجد إلي إحدي العشش، وتقول: إحنا غلابة.. مدفونين بالحيا.. سامعني.. أنا مش خايفة(!).. معندناش حمام.. بيسمونا منطقة الصفيح عشان بنقضي حاجتنا - لامؤاخذة - في صفيحة!
عدم الترحيب بالكاميرا وجدناه من شاب صغير عرفنا فيما بعد أن اسمه "شريف"، اعترض طريقنا وهو يحذرنا من تصوير أحوالهم والتعامل معهم وكأنهم كائنات منقرضة، نظراته الآمرة، وصوته المنفعل جعلتنا نواجه ثورته الصغيرة بحذر، كان علينا أن نقنعه بضرورة نقل الصورة القاتمة التي نراها إلي من يهمه الأمر.. سخر شريف مما نقول وأخبرنا بزملاء لنا من الصحافة والإعلام أتوا إلي هنا من قبل..
ما الذي حدث، هل اهتم بنا أحد؟.. أو أشفق علينا؟.. أو تطوع بمد ماسورة صرف صحي تنقذنا مما نحن فيه؟.. أو قام بتوصيل الماء إلي بيوتنا الفقيرة؟
أسئلة شريف التي لم ينتظر إجابتها أجبرتنا علي الصمت، في الوقت الذي لم تمنعنا فيه من توجيه دعوة مفتوحة إلي محافظ القاهرة ورئيس الحي لزيارة الناس هنا والتعرف علي أحوالهم..
فهل يقبل السيد المحافظ أن يقيم مع أسرته لمدة يوم واحد في إحدي هذه البيوت!؟..
خرطوم موصول بحنفية عمومية يمر علي البيوت يتناوب الأهالي استعماله ليسدوا حاجتهم من الماء، بينما كشافات الإنارة المعطلة تجعل الليل لا يطاق أو علي حسب تعبير أحمد عبد العال أحد سكان المنطقة "ضلمة كُحل".
عبد العال الذي قال إنه ولد هنا في هذه المنطقة يطالب بتوفير الحد الأدني من الحياة الكريمة لأهل منطقته، ويقول بأنهم قبلوا إخلاء بيوتهم كما طلب منهم بشرط أن يحصلوا علي مبلغ من المال يضمن لهم الحياة في مكان آخر لكن أحدا لم يلتفت إليهم.
ينظر شريف إلي أبراج ساويرس التي تنطح السحاب بقبابها وهو يحدثنا عن القضايا التي رفعها رجل الأعمال ليتمكن من طرد سكان العشش وتمكينه من الأرض. أما ماجد إسماعيل المحامي أحد أعضاء "اللجنة الشعبية لحماية أهالي بولاق" فيتحدث عن إهمال تحظي به منطقة العشش من الدولة التي لم تراع حال البسطاء وتخصص للأهالي شققا تحميهم من خطر الموت الذي يهدد حياتهم في كل لحظة، مشيراً إلي عجز الحكومة عن تهجير السكان لأنها ستواجه مشكلة أكبر وهي "البطالة" لعدم تفكيرها عن مصادر رزقهم وأكل عيشهم خاصة أن 90٪ من سكان رملة بولاق عاطلون وبدون عمل.
ويتطرق إلي مشروع القاهرة 2050 - الذي أعده الحزب الوطني المنحل عام 2008 - الهادف لتهجير سكان 29 منطقة في القاهرة إلي خارجها خاصة المناطق المطلة علي كورنيش النيل وتحويلها إلي متنزهات وفنادق عالمية وحدائق عامة، وإزالة مساكنها لإقامة أبراج إدارية وخدمية علي أنقاضها، وذلك بدلا من تطوير المنطقة وتنفيذ احتياجات ومطالب سكان العشش، وقال إن لجنتهم ترفع شعار "نعم للتطوير..لا للتهجير".
ويهاجم حاتم عبد الرحمن - مدرس من أهالي المنطقة النظام السابق الذي نجح في تشتيت الناس بين حلم التطوير والبقاء وبين الرغبة في الانتقال لمكان جديد، ويضيف: لا بد أن يكون للحي دور في إنقاذ هؤلاء البشر بتقديم أدني الخدمات لهم كتوفير حنفية في كل مسكن بدلا من الطوابير الطويلة التي لا تنتهي أمام حنفية مياه الشرب العمومية، فضلا عن إزالة القمامة من الشوارع، وإصلاح الشوارع التي لا يتعدي عرضها مترا واحدا، وعلي الدولة أن تضع مواطنيها في الحسبان ولا تلهث خلف مستثمرين يعرضون أموالا باهظة في مقابل هجرة الأهالي.
قلوب خضراء علي حائط
لم نذهب إلي السيدة دولت رضوان محمد لننقل صورة أخري لفقراء المنطقة، فمن قادنا إليها قال إنها تعرف الكثير عن أحوال المنطقة وطبيعة أهلها، كما أن جيرانها رشحوها لتنوب عنهم في الحديث.
وداخل بيتها المتواضع تقيم دولت مع أسرتها، صوتها الهادئ ينم عن شخصية لديها خبرة بأمور الحياة، بينما طريقة كلامها توحي بثقافة حياة أكسبها لها المكان بما يشمله من أحداث درامية تصلح لأن تكون موضوعات لعشرات الأفلام والمسلسلات.
تعترف دولت بأنها تحب هذا المكان وتستدرك: "بس نفسي يبقي حاجة جميلة.. غير اللي احنا فيها دي" وتعد 50 أسرة من جيرانها ليس لهم مصدر رزق إلا من خلال معاش التضامن الاجتماعي الذي يتقاضاه المسنون، وتأسف لحال أغلب الشباب الذين أضاعتهم الشرطة ولفقت لهم القضايا ليصبحوا مسجلين خطر: نفسي حد يقف جنبهم وينهضوا.. ميبقوش دول عقبة مصر".. وتقسم:" والله دول مش هما البلطجية اللي بيقولوا عليهم.. البلطجية هما اللي مطلعين لهم فلوس من فلوس الدولة وبينزلوهم يحاربوا بيهم الفقرا"
في يوم 28 يناير قبل الماضي خرجت دولت من منزلها مع ابنتها لتشارك الثوار طموحهم نحو الحرية.. وتقول" كنت عايزة أوصل صوتنا للناس.. علي الأقل الميتين بيتحاسبوا عند ربنا .. إنما احنا بنتحاسب حساب العبد للعبد".
حوائط بيتها التي تتزين بقلوب خضراء تشبه في لونها الأحلام البسيطة لدولت" أنا لما قالولي روحي انتخبي الإخوان .. عايزة أنتخب الإخوان.. لا والله.. أنا عايزة أنتخب اللي يحافظ علينا.. يعني الأزمات اللي انت فيها حاليا؛ الجاز والأنابيب.. هو الرئيس لما اتحبس البنزين قل ليه؟... هما بيدوا فلوس للبلطجية تفضي البنزين في المجاري والترع عشان يمنعوا دخولها للناس، واحنا نفضل علي كده.. وروحوا شوفوا التحرير.. لأ محمد محمود.. لأ مصطفي محمود.. اللي احنا فيه مش الثورة اللي عملته.. كل اللي بيحصل عشان نقول إن الرئيس مفيش أحسن منه.. وعلي فكرة مش هيتغيروا.. والمجلس العسكري مش هيمشي.
نفسي رملة بولاق يبقي فيها فرن.. مفيش فرن إلا في السبتية.. مفيش هنا صرف صحي .. ربنا يكرم جمعية الرسالة وقفوا معانا ودخلوا مواسير مجاري بس ملقناش حد يساعدنا ويكمل المشروع..
وتتمني أن يصل الحكم لشباب الثورة: أنا عايزة حد ينهض بينا .. يوصلنا.. عشان منفضلش طول عمرنا عايشين تحت رحمة حد"
وتحكي قصة ابنها" عندي ولد.. اعتقلوه من شغله.. عشان سمع أخوه بيتخانق.. وكتب عليه بلطجي بياكل من كد النسوان.. والوزير صدق علي الجواب وهو قاعد في مكتبه.. انت لو رحت شفت الشباب اللي اعتقلوهم هتلاقي منهم اللي عمره ما دخل قسم.. مرة ظابط جه البيت وزق جوزي العاجز ابني مرضيش..قال للظابط: انت عايز أيه.. سيادتك خدني أنا.. أقسم بأيمانات الله عمله قضية بانجو وسلاح وكان ابني لسه جاي من أسوان وفرحانين بيه وبناكل محشي، خلي بالك تذكرة السفر خلته ياخد براءة بعد 11 شهر تحقيق!"
حكاية فرغلي
خلف باب خشبي متهالك تستقبلنا رائحة ظلم سكنت صدور غلابة اعتادوا علي الفقر بين أربعة جدران يطلقون عليها من باب الرضا "عشة".
فحصنا محتويات مسكنهم المكون من غرفتين ضيقتين تحتويان علي أجزاء بسيطة من أثاث أي بيت؛ استقبلتنا ثلاجة يعلوها تليفزيون يطل علي كنبة تتحول ليلاً إلي سرير، لتصطدم بخزانة ملابس تنبهك بوجود باب لغرفة صغيرة تكفي لامرأة عجوز يقوم برعايتها ابنها فرغلي شوقي - مسجل خطر- والذي يخبرنا بعدم وجود مرحاض داخل مسكنهم مما يدفعهم لقضاء حاجتهم في "علب بلاستيك أو أكياس".
ويحكي فرغلي حكايته: الفقر تحالف مع الظلم لتوقع بي في مصيدة يملكها ضابط المباحث الذي هددني إما أن أكون مرشداً لهم وأدلهم علي تجار المخدرات أو يلفق لي قضية واتحبس، فلم يكن أمامي سوي الخضوع الذي رسم علي ملامحي قسمات تناسب عمل بلطجي يقوم بترويع الناس والتعدي عليهم بالسب والضرب.
يضيف: "حياتي ادمرت بعد دخولي السجن، فطلبت مراتي الطلاق رغماً عني، لتتزوج من رجل آخر، ولم تسمح لي بتربية أولادي ليكونا قريبين من جدتهم .. لكن.. الحمد لله إنهم بعيدون عني "لأنهم مش هيقدروا يعيشوا في خرابة.. أنا مش عايز أخل السجن تاني .. وكل اللي نفسي فيه مكان آدمي يسترني أنا وأمي"
بجواره أمه التي امتلأ وجهها بتجاعيد تعكس سنوات عمرها وتخبر من يراها بحجم معاناتها، يتطوع فرغلي بأن يعيد علي مسامعها بصوت عال الأسئلة التي نوجهها لها فنبدأ في سماع صوتها الواهن: "فرغلي اتشرد اونطة، لا بيشرب ولا بيتاجر في المخدرات، وبقي مسجل خطر بسبب الحكومة اللي هجمت علينا وأخدته بالعافية".
وتحكي العجوز التي اكتسبت الرضا من اسمها (رضا توفيق عبد الهادي) عن طفولة فرغلي الذي نشأ مع ثمانية إخوة في بيئة يعمها قسوة مارسها الأب معهم بإتقان فكان ينهال عليهم ضرباً حتي يخرجوا للعمل ليأتي له الواحد منهم بخمسة جنيهات في اليوم أفضل من تعليمه في المدارس(!)، وتستطرد: "كنت بخبي فرغلي في ديل الجلابية عشان أبوه مايضربهوش، وقررت اشتغل علشان أحميهم، كنت بعمل "محشي ومخلل" وأبيعه في سوق العبور، وبالليل أبيع لب وسوداني علي فرشة في بولاق، ولما كبر فرغلي اشتغل مع أبوه في الأقفاص، وبعدين طلبت من نجار يعلمه الصنعة تفيده بدل الشحططة في الشوارع".
وتضيف الأم البالغة من العمر ثمانين عاماً: "عمري ماكلت حاجة حرام ولا أحب حرامي يعيش في بيتي، وياما نصحت فرغلي إنه يبعد عن اي شبهة خصوصا المخدرات والسرقة، لكن ربنا يجازي الحكومة اللي فسدته بعد ما لفقت ليه القضايا، ولم يكن لدينا مال لدفع نفقات المحامي التي بلغت 2000 جنيه كي يحصل علي براءة، وفي النهاية ابني بقي مسجل خطر".
كشك صغير
قبل أن نصعد معه إلي شقته التي يسكنها في إحدي عمارات " الرملة" يصف وليد عبد المجيد حاله بالأفضل من زميله فرغلي حيث يسكن في شقة من غرفتين وصالة تعيش فيها ست أسر ينفرد فيها بواحدة يعدها لعروسه التي خطبها منذ ست سنوات، بينما يختصر أحلامه في الحصول علي كشك صغير يطعمه لقمة حلالا ويحميه من شر نفسه، ويضيف: حصلت علي تصريح له برقم 3947 بتاريخ 21 سبتمبر 2011 بمساعدة أحد محامين الحق المدني لكن المحافظة خيبت ظني ولم تعطني إياه.
"أنا مسجل خطر تائب، هل من مساعدة؟" يستغيث وليد علي صفحات الإنترنت بالحكومة كي يحصل علي وظيفة تعوضه عما لحق به من أذي علي أيدي رجال الشرطة الذين جعلوه مسجل خطر في الرابعة عشرة من عمره، ليصل عدد القضايا الملفقة له إلي ثلاثين قضية حصل فيها علي براءة دون رد شرف، مضيفاً: " لما المسجل يعمل حاجة غلط حاسبوه، لكن لما يتوب شجعوه، عشان يكمل في الطريق الصح".
يواصل: "بحاول أساعد الناس البسيطة اللي مالهاش حد غير ربنا، وممكن أتشاجر مع أمين شرطة يعتدي علي مظلوم، فهم لا يعرفون الرحمة، وعندما كنت بالسجن شاهدت أقسي أنواع العذاب الجسدي والنفسي، فكانت السجون تحت الأرض، والزنزانة الواحدة بها عدد كبير من المساجين، فكنا ننام واحنا واقفين، ولو أولاد المخلوع عدوا علي سجن الاستئناف كنا عرفنا فلوسنا راحت فين!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.