موعد إعلان نتيجة ال19 دائرة الملغاة بالمرحلة الأولى لانتخابات مجلس النواب    حادث في بنها.. صبة خرسانية تسفر عن 8 مصابين بمبنى تحت الإنشاء    قرار هام من القضاء الإداري بشأن واقعة سحب مقررين من أستاذ تربية أسيوط    قصة البابا ثاؤفيلوس البطريرك ال23 المثيرة للجدل    رئيس جامعة سوهاج يتحدث عن المبادرة الرئاسية "تمكين" لدعم الطلاب ذوي الهمم    استقرار أسعار الخضراوات داخل الأسواق والمحلات بالأقصر اليوم 7 ديسمبر 2025    وزير المالية مع طلاب جامعة النيل: شغلنا الشاغل زيادة موارد الدولة لتحسين حياة الناس «بقدر المستطاع»    هيئة الرقابة المالية تلزم شركات التأمين بإمساك بعض السجلات    وزير الاتصالات: إطلاق خدمة التحقق الإلكترونى من الهوية يناير المقبل    «زكي»: 40.614 مليار دولار صادرات مصر من السلع غير البترولية خلال 10 أشهر    تحديد مستندات صرف تعويضات الصندوق الحكومي لتغطية أضرار حوادث مركبات النقل السريع    وزير الصحة يستعرض تطوير محور التنمية البشرية ضمن السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية    وزير الخارجية يبحث تطورات الأوضاع في منطقة القرن الأفريقي    هزتان ارتداديتان قويتان تضربان ألاسكا وكندا بعد زلزال بقوة 7 درجات    سحب الجنسية الكويتية من الداعية طارق السويدان    تقارير: الدورى السعودي يستعد لاستقطاب محمد صلاح براتب أكبر من رونالدو    جيش الاحتلال يكثف عمليات هدم الأحياء السكنية ويوسع "الخط الأصفر" في قطاع غزة    القوات الروسية تسقط 77 طائرة مسيرة أوكرانية الليلة الماضية    ارتفاع عدد قتلى حريق بملهى ليلي إلى 25 بينهم 4 سائحين بالهند    الحضري: تأهل مصر في يدها.. وجميع الحراس على أعلى مستوى    محمد السيد يتوج بذهبية كأس العالم للسلاح بعد اكتساحه لاعب إسرائيل 15-5    موعد مباراة ريال مدريد أمام سيلتا فيجو في الدوري الإسباني.. والقنوات الناقلة    تعرف علي تشكيل ريال مدريد المتوقع أمام سيلتا فيجو في الدوري الإسباني    الإدارية العليا تبدأ نظر 300 طعن على نتائج المرحلة الثانية لانتخابات النواب    كثافات مرورية للقادم من هذه المناطق باتجاه البحر الأعظم    طقس الإسكندرية اليوم.. انخفاض في درجات الحرارة والعظمى 20 درجة    ضبط 16 طن زيت طعام في 5 مصانع غير مرخصة ب3 محافظات    الأمن يضبط 7 أطنان دقيق مدعم قبل ترويجها بالسوق السوداء    اليوم.. مي عمر في جلسة حوارية ب مهرجان البحر الأحمر 2025    التضامن: فريق التدخل السريع تعامل مع 519 بلاغا بمحافظات الجمهورية خلال نوفمبر الماضي    محمد قناوي يكتب: فيلم «الست»..تفكيك أسطورة أم كلثوم    بسام راضي، الأكاديمية المصرية للفنون بروما تحتفل بيوم الخط العربي    روجينا تبدأ تصوير مسلسل "حد أقصى" وتحتفل بأولى تجارب ابنتها في الإخراج    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 7 ديسمبر 2025 فى محافظة المنيا    وزير الصحة يعلن اليوم الوضع الوبائى لإصابات الأمراض التنفسية    مستشفى كرموز تجح في إجراء 41 عملية لتغيير مفصل الركبة والحوض    وزارة الصحة توضح أعراض هامة تدل على إصابة الأطفال بالاكتئاب.. تفاصيل    تعليمات من قطاع المعاهد الأزهرية للطلاب والمعلمين للتعامل مع الأمراض المعدية    هل تعلم أن تناول الطعام بسرعة قد يسبب نوبات الهلع؟ طبيبة توضح    الخشت: تجديد الخطاب الديني ضرورة لحماية المجتمعات من التطرف والإلحاد    النشرة المرورية.. زحام على الطرق الرئيسية فى القاهرة والجيزة    الشرع: إقامة إسرائيل منطقة عازلة تهديد للدولة السورية    نائب ينتقد التعليم في سؤال برلماني بسبب مشكلات نظام التقييم    وزير الرياضة يهنئ محمد السيد بعد تتويجه بذهبية كأس العالم للسلاح    نظر الطعون على نتيجة المرحلة الثانية لانتخابات النواب    المتهم بقتل زوجته فى المنوفية: ما كنش قصدى أقتلها والسبب مشاده كلامية    رئيس جامعة حلوان: منتدى اتحاد رؤساء الجامعات الروسية والعربية منصة لتبادل الخبرات    نظر محاكمة 9 متهمين بقضية خلية داعش عين شمس اليوم    محمد عشوب: نتمنى تنفيذ توجيهات الرئيس نحو دراما تُعبّر عن المواطن المصري    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الأحد 7 ديسمبر    دعاء الفجر| اللهم ارزقنا نجاحًا في كل أمر    "ولنا في الخيال حب" يفاجئ شباك التذاكر... ويُحوِّل الرومانسية الهادئة إلى ظاهرة جماهيرية ب23 مليون جنيه    كأس العرب.. مدرب الإمارات: أنا محبط    محسن صالح: توقيت فرح أحمد حمدى غلط.. والزواج يحتاج ابتعاد 6 أشهر عن الملاعب    محمد صلاح يفتح النار على الجميع: أشعر بخيبة أمل وقدمت الكثير لليفربول.. أمى لم تكن تعلم أننى لن ألعب.. يريدون إلقائي تحت الحافلة ولا علاقة لي بالمدرب.. ويبدو أن النادي تخلى عنى.. ويعلق على انتقادات كاراجر    خالد الجندي: الفتوحات الإسلامية كانت دفاعا عن الحرية الإنسانية    الأزهري يتفقد فعاليات اللجنة الثانية في اليوم الأول من المسابقة العالمية للقرآن الكريم    مفتي الجمهورية: التفاف الأُسر حول «دولة التلاوة» يؤكد عدم انعزال القرآن عن حياة المصريين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإيمان بالقدر.. راحة وطمأنينة
نشر في الفجر يوم 10 - 07 - 2015

إن هذه الدنيا دار بلاء واختبار، وليست دار راحة وقرار، والمنغصات فيها كأمواج البحر المتلاطمة، ولا ينجو من ذلك إنسان، يقول تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].
ولا تجد إنسانًا كامل السعادة، فالغني يؤرقه خوفه على ضياع ماله، والسلطان يخشي زوال ملكه، والفقير يشقى بفقره... إلخ.
وكثير من البشر لا يدرك قيمة ما حازه ويتطلع إلى ما يفتقده؛ لذلك تجد حياته بائسة لعدم رضاه وقناعته؛ فالغني -مثلاً- قد يحسد الفقير على راحة البال، وفي المقابل يحسد الفقيرُ الغنيَّ على رغد العيش.
وهذه الدنيا لا تهدأ فيها الصراعات بين بني البشر، فنجد الظالم والمظلوم، وقد تدور الأيام وتتبدل الأحوال فنجد مظلومَ اليوم ظالمًا الغد.
ولكن مَنْ صاحَبَتْهُ معية الله يكون يوم ضعفه ومظلوميته مع الله بالدعاء والاستغفار والصبر.. إلخ، ويوم قوَّته لا ينساق خلف نفسه المنتقمة الباطشة، ويتذكَّر أن العفو أقرب إلى التقوى، وقليل مَنْ يفعل ذلك..
والمصائب تنزل بالإنسان ليظهر جوهره ومعدنه؛ فمنهم من تزيده المصائب قربًا من الله، ومنهم من يجزع ويطيش عقله، ولا يهتدي إلى اللجوء لربه الذي بيده كشف الضر وتحويل المحن إلى منح.
وقد كان من أركان الإيمان الستة: "الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره".
وهذه هي الدنيا يوم حلو ويوم مُرٌّ، فلا الحلاوة تبقى، ولا المرارة تدوم. قال أوس بن حارثة جدُّ الأنصار لبنيه حين حضرته الوفاة: "الدهر يومان: فيوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصطبر، وكلاهما سينحسر".
وهذا الركن أرى أننا نقرؤه ونعرفه؛ ولكن قلما مَنْ يعيشه: فهذا الركن ركن عملي وليس نظريًّا: ففيه الرضا بالقضاء والتسليم له، والثقة في موعود الله بالفرج، والصبر على أمر الله، وغيره من القيم التي تتجلى للإنسان في هذه الأحوال.
قال بعض الحكماء: رُبَّ محبوبٍ في مكروهٍ، ومكروهٍ في محبوبٍ، وكم مغبوطٍ في نعمة هي داؤهُ، ومرحوم في داء هو شفاؤه، وربَّ خيرٍ من شرٍّ ونفع من ضرٍّ.
وأنشد أمية بن أبي الصلت في معناه:
تجري الأمور على وفق القضاء وفي ... طيِّ الحوادث محبوب ومكروه
فربما سرني ما بتُّ أحذره ... وربما ساءني ما بتُّ أرجوه
إلا أن ضعف النفس البشرية تؤدي بصاحبها إلى أن لا يرضى بقضاء الله، فيظهر الاعتراض على هذا القضاء، أو يحمله الجزع وعدم الصبر على قول ما لا يرضى الله عنه..
لذلك حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يجزعون عند حلول المصائب بهم، ولا سيما عند مصيبة الموت؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ".
وهذا كثيرًا ما يقع من النساء؛ فيُكثرن من الصياح والعويل، والندب والنياحة، وإظهار الجزع والتبرم بتقطيع الثياب، وخمش الوجوه، "قال الحسن في قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12]؛ أي: لا ينحن، ولا يشققن، ولا يخمشن، ولا ينشرن شعرًا، ولا يدعون ويلاً.
وقد نسخ الله ذلك بشريعة الإسلام، وأمر بالاقتصاد في الحزن والفرح، وترك الغلو في ذلك، وحَضَّ على الصبر عند المصائب، واحتساب أجرها على الله، وتفويض الأمور كلها إليه".
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، فهو المركب الذي لا يغرق أبدًا، مَنْ ركبه فقد نجا؛ فقد مرَّ بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى".
قالت: إليك عني، فإنك لم تُصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم. فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك.
فقال: "إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى".
فالمصائب مهما عظمت فإن أثرها لا يلبث أن يضعف بمرور الوقت، وقد ينمحي أثرها بالكلية؛ لذلك قال وهب بن منبه: "ما من شيء إلا يبدو صغيرًا ثم يكبر، إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر".
لذلك فالإنسان لا يخلو من حالين بينه وبين ربه؛ فشكر المنعم حال النعمة، والصبر على أمره وقضائه حال الضراء.
وقد قيل: المحنة إذا تُلقيت بالرضا والصبر كانت نعمة دائمة، والنعمة إذا خلت من الرضا والشكر كانت نقمة قائمة.
فوجب التنبيه على العبد أن لا يغفل "في أوقات النعمة والرخاء عن الاعتداد بالشكر، فلا يُقابل فضل المنعم -تعالى شأنه- بالكفران والنكر، كما أنه إذا ابتلي بمصيبة فلا يُقابلها بالسخط والضجر؛ بل يكون صابرًا عند البلاء، شاكرًا وقت النعماء".
لذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ، وَالْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ".
وقال أبو الدرداء: ذِرْوَةُ الْإِيمَانِ الصَّبْرُ لِلْحُكْمِ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ.
قال أبو الحسين بن أبي البغل:
فصبرًا على حلو القضاء ومره ... فإن اعتياد الصبر أدعى إلى اليسر
وخير القضايا خيرهن عواقبًا ... وكم قد أتاك النفع من جانب الضر
ومن عصمة الله الرضا بقضائه، ومن لطفه توفيقه العبد للصبر، والصابر على بلاء الله يناله من الأجر ما لا يقدر أحد على وصفه، أو الإتيان على كنهه؛ فعن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟
فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.
فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟
فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.
فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟
فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ.
فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ".
فالتسليم والإذعان لحكم الله، والرضا بما قضاه هو تسليم بالربوبية، واستمساك بالعبودية، فالعبد الصالح لا يشغب على سيده، ولا يسخط بحكمه، فهو يعلم أن اختيار الله له خير من اختياره لنفسه، "وإن كان ذلك الخير مستورًا عن إدراكه وحدسه".
ومن وصل إلى هذه الدرجة فقد وصل إلى حقيقة الإيمان؛ حيث ترسَّخ في يقينه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ.. وَلَوْ رَحِمَهُمْ، كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ.. وَلَوْ كَانَ لَكَ جَبَلُ أُحُدٍ -أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ- ذَهَبًا، أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا، دَخَلْتَ النَّارَ".
وقال ابن مسعود: "يَنْتَهِي الْإِيمَانُ إِلَى الْوَرَعِ، وَمِنْ أَفْضَلِ الدِّينِ أَنْ لَا يَزَالَ بَالُهُ غَيْرُ خَالٍ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ رَضِيَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَنْ أَرَادَ الْجَنَّةَ لَا شَكَّ فِيهَا فَلَا يَخْفَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ".
وما كبيرة إبليس إلا لعصيانه حكم ربه، والتمرد على قضائه، وإعجابه بنفسه، فأين هو والجنة، وقد أعلن العصيان، وناصب ربه العداء؟!
وانظر إلى سياق القصة: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 71-85].
لذلك على المؤمن الفطن أن يُوَطِّن نفسه على ما يقضي الله له، وأن يرضى به اختيارًا، وإلا رضي به اضطرارًا.
قال الشاعر:
ما سَلَّم الله هو السالم ... ليس كما يزعمه الزاعم
تجري المقادير التي قُدِّرَتْ ... وأنف مَنْ لا يرتضي راغم
والإيمان بالقدر ليس جبرًا أو سلبًا للإرادة؛ وإلا بطل التكليف وسقط الثواب والعقاب؛ إذ كيف يُثيب الله أو يُعاقب مَنْ هو مضطر إلى فعل الشيء، ولا مدخل له في الفعل أو الترك، وإنما يعني التكليف الاختيار.
وقد احتج الكفار بعقيدة الجبر، وادعوا أن الله هو الذي أمرهم بالكفر، وقالوا: إن إرادة الله هي التي قضت عليهم بالكفر فصاروا من الكافرين، ولو قضت إرادته بالإيمان لكانوا مؤمنين. وما تلك الحجج إلا ليبرروا كفرهم لأنفسهم ولأقوامهم..
قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]
وقال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
وقد شنع المستشرقون على المسلمين في تلك العقيدة، وادعوا أن سبب تخلف المسلمين وتأخرهم مرجعه إلى إيمانهم بها، فهم مستسلمون خانعون خاضعون لا يغيرون أحوالهم البئيسة، ولا يريدون أن يواجهوا أعداءهم؛ لأن الله سلطهم عليهم بذنوبهم، وأنه لا مجال للاعتراض على حكم الله.. إلخ.
وهذا لعمري فرية عظيمة على المسلمين وعلى عقيدة القدر.
التوكل يلزمه رفع الهمة
وإن قلنا: إن التوكل يلزمه رفع الهمة، والاطمئنان بحصول القسمة، فإن المؤمن إذا كان صادقًا في توكله، واثقًا بكرم الله تعالى وتفضله، معتقدًا بأنه سبحانه المتكفِّل بالأرزاق، وأنه المسبب المانح على الإطلاق، كان رفيع الهمَّة عن الخلق وأسبابهم، والتذلل في الترداد إلى أبوابهم، مطمئن النفس بحصول المقسوم على أي طريق كان مجهول هو أو معلوم.
تارة يبلغه الله ذلك من فضله مبادأة، وتارة بطريق الكسب معاوضة، وأخرى من جهة الخلق ابتلاء.
فلا معني -حينئذ- أن يستفز العبد كدٌّ وطلب، ولا يزعجه تعذُّر كسب وسبب، لا بمعنى أن يترك الأسباب، ويتفرغ عن السعي والاكتساب؛ بل بمعنى تعلق النفس بالعلائق والاتكال على الخلق دون الخالق، وإلا فالكسب على الطريق المشروع مندوب إليه، خصوصًا في زماننا هذا، ولا ينافي التوكل؛ لأن التوكل محله القلب، والكسب محله الجوارح؛ فمن ظن أن الطلب يضادد التوكل حتى يترك أسبابه، ويغلق عليه بابه، كان عن العقل خارجًا، وفي تيه الضلالة والجًا.
قال أبو طالب المكي في كتابه "قوت القلوب": لا يضر التصرف والتكسب ممن صح توكله، ولا يقدح في مقامه، ولا ينقص من حاله إذا أحكم بمعنيين: النظر إلى الوكيل في أول الحركة فيكون متحركًا به، والرضا بالحكم بعد التصرف فيكون مطمئنًا به. اه.
جلب المنفعة ودفع المضرة من التوكل
إذا عرفت هذا، فاعلم أن المتوكل إذا سعى في جلب منفعة له أو دفع مضرة عنه وكان نظره في ذلك إلى الله، وراضيًا بما يؤدي إليه سعيه مما قدَّره عليه مولاه؛ فقد حصل له الأجر من وجهين، وكان فعله موافقًا (لكتاب الله وسنة) سيد الكونين.
أما الكتاب فإن الله يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، وقال -عز شأنه- لمريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25].
وفي التوراة: امدد يدك لباب من العمل أفتح لك بابًا من الرزق.
وأما السنة في الكسب والسبب فقوله صلى الله عليه وسلم لأعرابي: "اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ".
وقوله عليه السلام: "إن الله يبغض العبد الصحيح الفارغ".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.