إذا تنصتم فاستتروا فى كل دولة وكل نظام هناك وثائق وتسجيلات بالصوت والصورة، وثائق وتسجيلات مختومة بأختام سرى للغاية ومحفوظة فى خزائن، ولا يملك مفاتيحها أو أرقامها السرية سوى عدد محدود جدا ويعد على أصابع اليد الواحدة، فى أمريكا تسمى التسجيلات السرية بجواهر الدولة، الجواهر التى لا تمتد إليها الأيدى لو تغيرت الأنظمة والرؤساء والمديرين. هذه التسجيلات والوثائق لها قوانين للكشف عن بعضها فقط، وهذه القوانين تحدد مدداً زمنية لفتح خزائن الأسرار ربما عشرين عامًا وفى دول وحالات أخرى 30 عاما وخمسين عاما، وأحيانا لا ترى هذه التسجيلات النور ولا تعرف طريقها له فضلا عن العرض على شاشات التليفزيون. حتى وقت قريب لم تكن مصر بعيدة عن قواعد لعبة الكشف عن الجواهر الأمنية وحفظها وصيانتها. حتى وقت قريب كانت الدولة المصرية قادرة على حماية أسرار أمنها القومى من كل الأيادى بل وكانت تفتخر بأن خزائن أسرارها مثل القبور لا يمكن النبش فيه وأن كل من يفتحه لم يجد أمامه سوى الموت. ذات مرة طلبت شخصية عربية نافذة وحاكمة الحصول على شريط، وأعرف أن تعبير شريط الآن يبدو غريبًا على الأسماع والأعين، ولكن القصة تعود إلى عصر ما قبل السيديهات، وكان فى الشريط ما يقلق الرجل ويطير النوم من عينيه، لأنه كان يخشى أن يقع المحظور أو بالأحرى أن يقع الشريط فى إيدى خارج ايد الجهاز الذى يملكه، وقد بلغ من رعب الرجل أن عرض شراء الشريط مهما كان المبلغ ومهما كان عدد الأصفار التى ستوضع فى شيك خاص جدًا، وكان رد الجهة المصرية أنه لا مبرر لأى خوف وأن مصر تستطيع أن تحافظ على أسرارها وأسرار الآخرين، وأنه يستحيل أن يتسرب أو يخرج من دارها مثل هذه الوثائق، فهى فى الحفظ والصون، ولا يمكن تحت أى ظرف من الظروف أن تقع فى أيد غير أمنية. وتفسر هذه القصة سر عدم تسرب أى تسجيلات فى أى عصر من العصور ولا محتوى شرائط أو مكالمات أو غيرها، فالحقيقة أن التسجيلات كانت ظاهرة عابرة للأنظمة فى مصر، ومع تغير العصور والأنظمة لم تتسرب أى شرائط أو تسجيلات لمكالمات أو جلسات، كان هناك حديث عن وجودها وحديث آخر فى جلسات النميمة عن محتواها، ولكن ظلت الأسرار فى بير عميق جدًا. فنحن نسمع كثيرًا عن تسجيلات فى عصر عبدالناصر ومدير مخابراته الراحل صلاح نصر، ولكننا لن ولم نشاهد أيًا منها، وذلك على الرغم من قيام السادات بحرق بعض الشرائط فى مشهد سينمائى، ولكن الاعتراف بوجود شرائط وتنصت وتسجيلات كوم ونشر محتوى هذه الشرائط أو تسريبها كوم. ولكن بعد ثورة 25 يناير وتحديدًا بعد اقتحام مبنى أمن الدولة خرجت بعض الوثائق للصحافة والتليفزيونات، تفجرت شهوة لدى الكثيرين لكشف المستور، وأعتقد أنه يمكن تفهم ما حدث أو هذه الشهرة بعد ثورة بدأت بغضب شديد على ضياع الحريات والتعذيب وسطوة الدولة الأمنية. ولكن الظاهرة لن تتوقف حتى بعد قيام ثورة 30 يونيو فمنذ ثورة 25 يناير لم تتوقف التسريبات للتسجيلات والمكالمات، تسجيلات للإخوان وأخرى للثوار، بعضها سياسى والآخر شخصى. تحدث الجميع فى هذه القضية عن انتهاك حقوق الإنسان والمواطنين، عن تعريض حياة الأشخاص للانتهاك وأحيانا للاحتقار. تحدث الجميع إلا بعض الجهات الأصيلة فى هذه القضية، لم نسمع صوتا للجهات المالكة الأصيلة للشرائط والتسجيلات؟ لم تنجزع الجهات صاحبة التوكيل لأن بعضا من جواهرها خرج من خزائنها ولم يعد، ودون أن نعرف حتى هل جرى تحقيق ولو سرى حول الطريقة التى تنساب بها التسجيلات والتسريبات مثلما تنساب السكين فى الزبدة. لم أشغل بالك بطرح أسئلة انهكت من كثرة طرحها وتناولها، أسئلة عن مشروعية طرح التسجيلات والتسريبات. ولكن أريد أن نشغل بالنا بمحاولة الإجابة عن أسئلة أخرى، أسئلة من نوع ما هى ضمانات أن تتوقف حركة التسجيلات قبل التسريبات؟ وكم جهة فى مصر لديها حق انتهاك خصوصيتنا والتسجيل لنا؟ وهل ينتهى عصر ركوب التليفونات؟ إجابات هذه الأسئلة ترسم مستقبل بدون خوف وبدون انتهاك لخصوصيات المصريين وحقوقهم. أعتقد أن سقف تطلعنا قد انخفض كثيرًا عندما تصبح كل أحلامنا وقف سيل التسريبات على الفضائيات. بعد «ثورة 25» عضو المجلس العسكرى اكتشف أن مكالماته مسجلة فى مبنى أمن الدولة.. وقال لوزير الداخلية «انتو مش هتبطلوا الشغل القذر» ■ رجل أعمال حرّض صحفية لتسجيل «نُكت» وزير عن مبارك للإطاحة به ■ إعداد تسجيل ليوسف والى لإثبات ما قاله فى جلسة خاصة ■ تسجيل مكالمات زوجة سياسى لتأديبه وكلمة لرئيس حزب معارض تطرده من مجلس الشعب ■ أجهزة التنصت كانت تملأ مبنى الحزب الوطنى وقياداته كانوا يتحدثون فى الموبايل فى الحمامات ■ الجنزورى كان يعلم بأمر التنصت على بيوت وجلسات الكبار.. وهذا هو سر اعتزاله الحياة الاجتماعية بعد تركه رئاسة الحكومة أول مرة صراع الأجهزة ولكن من أخطر ما فعله العادلى فى ملف التنصت والتسجيلات كان التوغل على أجهزة أخرى أمنية ورفيعة المستوى، وكانت قيادات هذه الأجهزة والمؤسسات تتصور أنها بعيدة كل البعد عن الخضوع للتنصت والتسجيلات، وبعد ثورة 25 يناير تسلمت هذه الأجهزة ملفات ومستندات أمن الدولة والأوراق والمستندات الخاصة جدا لحبيب العادلى، وذهبت نسخة من كل هذا الكنز إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة أيام المشير طنطاوى خلال الفترة الانتقالية الأولى، واكتشف بعض أعضاء المجلس أن العادلى أمر بالتنصت على مكالماتهم الهاتفية وأن هناك تسجيلات تليفونية تخصهم، وفى لقاء مع وزير الداخلية فى ذلك الوقت فتح هذا الملف، وقال أحد قيادات المجلس الأعلى للوزير غاضبًا: «هو انتو ما بطلتوش الشغل القذر ده». وكان من بين التسجيلات التى سببت الغضب واعتبرت حلقة من الصراع بين الأجهزة الأمنية تسجيلات هاتفية تخص بعض أفراد أسر قيادة مهمة بالمخابرات، ولم تكن هذه التسجيلات سوى حفل أقامته ابنة القيادى فى فيللتها بالساحل، كان حفلاً عادياً، ولكن التجرؤ على وصول قطار التسجيلات لهذا المستوى كان مثيرًا للغضب، وفضلا عن ذلك فهو إشارة لا يمكن إغفالها عن قوة أمن الدولة فى نهاية دولة فساد مبارك، ورسالة غير مباشرة لكل أجهزة الدولة وكل المؤسسات حتى الخطيرة منها، رسالة مفادها «لا أحد فوق قانون التسجيلات والكل تحت السيطرة»، فقد كان الهدف من تسجيل حفل عادى فى بيت ابنة قيادى بالمخابرات واضحاً، كان الهدف الإعلان أن يد التسجيلات تصل لكل الأماكن. وتكشف هذه القصة أن شهوة التنصت والتسجيلات وتوغلها فى المجمتع لم تكن من أجل حماية الأمن القومى، أو مواجهة الإرهاب ولكنها امتدت إلى صراع الأجهزة على النفوذ، وصراع السياسيين، ولم يكن التجرؤ على التسجيل لمستويات ومؤسسات نافذة سوى محصلة أو نتيجة للنفوذ الهائل الذى تمتعت به وزارة الداخلية بسبب ملف التوريث، فمنذ أن تحول العادلى إلى أحد أركان عملية توريث جمال مبارك حتى تضخم نفوذ الداخلية كرد فعل طبيعى لتضخم نفوذ العادلى، وربما يكون التسجيلات لبعض الفئات رفيعة المستوى انعكاساً للخوف من هذه الفئات، فقد كان هناك اعتقاد أن بعض المؤسسات داخل الدولة لا ترضى عن مشروع التوريث، وأنها لم تكن داعمة للتوريث، ولذلك توغل التنصت والتسجيلات إلى هذا المستوى. ولكن المثير أن شهوة التنصت والتسجيلات قد وصلت لبيت مبارك نفسه، وفى إطار صراعات السلطة دفع أحد رؤساء جهاز أمن الدولة منصبه ثمنًا لخطيئة فى عالم التنصت والتسجيلات، فقد وصل لمبارك أن هناك تسجيلات لمكالمات وجلسات تخص ولديه علاء وجمال، فى ذلك الوقت لم يكن جمال قد دخل عالم السياسة، وقد اعتبر مبارك ما حدث تجاوزًا لا يمكن السكوت عنه، وقد سمعت هذه القصة قبل ثورة 25 من أكثر من مصدر، ولكن بعض أصدقاء رئيس أمن الدولة المقال دافعوا عنه وأكدوا أن بعض أصدقاء جمال وعلاء كانوا هدف التسجيلات ولم يكن الهدف هو التنصت على أبناء الرئيس، ولكن القصة أزعجت مبارك وأغضبت سوزان مبارك، فلاشك أن مبارك تنبه إلى خطر يحدق به باستمرار، وهذا الخطر هو إمكانية أن جهة ما نافذة تستطيع أن تسجل أنشطته وتحركاته، فإذا كان الأمر وصل للأنجال فليس هناك نظريا ما يمنع تكرار الأمر مع الرئيس أو زوجته. ضحايا التسجيلات فى ظل هذا المناخ يمكن تصور الحجم الهائل للتسجيلات أو بالأحرى الحجم الهائل لانتهاك القانون وحقوق الإنسان، من السياسة للاقتصاد من الحياة العملية للحياة الخاصة جرت تجاوزات يصعب حصرها، وباستيراد أحدث أجهزة التنصت وتطوير نظام التنصت وتسجيل المكالمات انتهت فعليا أهمية المتعاملين من الأفراد مع أمن الدولة، ففى الأزمنة السابقة كانت أجهزة الأمن تعتمد فى عملها على زرع العملاء، وتجند بعض أبناء المؤسسة لنقل أخبار المؤسسة أو بالأحرى أسرارها، وكتابة التقارير للأمن عن كل ما يحدث فى المؤسسة سواء كانت مؤسسة حكومية أو شركة خاصة وبالطبع كانت الأحزاب والقوى السياسية ضمن هذه المؤسسات، ولكن مع تطور أجهزة التنصت والتوسع فى استخدام الأجهزة و«ركوب التليفون المحمول» أو مراقبته تراجعت إلى حد كبير أهمية عميل الأمن، وقد استغرق الأمر فترة قبل أن يدرك الجميع أنهم تحت قبضة التنصت وأحيانا بالصوت والصورة. ولذلك كان بعض السياسيين أو رجال الأعمال يتحدثون مع الأصدقاء أو الزملاء من ذوى الثقة ثم يكتشفون أن حواراتهم بالنص قد وصلت إلى الداخلية أو الحكومة أو مبارك، وكان ذلك بفعل أجهزة التنصت الحديثة التى تنقل المحادثات والحوارات والسيطرة على أجهزة المحمول. ودفع بعض السياسيين ثمنا فادحا لهذه التسجيلات غير القانونية، رئيس الحزب الناصرى السابق الراحل ضياء الدين داود كان من بين الضحايا، الرجل كان نائبا عن إحدى دوائر دمياط وكان محبوبا إلى أقصى درجة فى دائرته، ولكن منذ انتخابات عام 90 وهو يسقط فى الانتخابات بالتزوير، وكانت دائرته تشهد معارك دامية وسقوط قتلى دون أن تتدخل الشرطة، كان واضحًا حتى للأعمى أن هناك قيادات فى النظام قد قررت ألا يرى الرجل المجلس أو يدخله، وكان هذا الموقف يمثل لغزًا، البعض فسره أن النظام يكره الناصريين من حيث المبدأ، ولكن قبل موت الرجل بعام أو عامين عرف أن السبب مجرد جلسة دردشة جرت فى الحزب الناصرى وفى مكتبه، وكانت تضم ثلاثة أو أربعة من قيادات الحزب ذوى الثقة، وقال الرجل رأيًا صريحًا جدًا فى أحد أعمدة نظام مبارك، وكان رأيه أن الرجل عار على مصر وعلى النظام، وكانت الجلسة مسجلة ونقلت للرجل، فأقسم ألا يرى رئيس الحزب الناصرى عضوية المجلس بعد ذلك. وهذه القصة مجرد مثال على تغلغل أجهزة التنصت والتسجيلات فى كل مكان. سياسى آخر لمع نجمه وكان على علاقة قوية بأمن الدولة، ولكنه انقلب على الجهاز وأرادوا تأديبه، ولم تكن مشاغبات السياسى هى أكثر ما يضايقهم، ولكن سر الغضب هو وصوله لأجهزة أخرى نافذة فى الدولة، ولذلك كان التأديب كبيرًا وقذرًا فقد قاموا بتسجيل مكالمات زوجته مع صديق لها، بل زعموا أن لديهم فيديوهات تجمع بين الزوجة والصديق فى أوضاع عاطفية. ولكن هذه الواقعة كانت فى مرحلة يتم التسجيل فيها بحسب الحاجة، وبتعبير أحد السياسيين «بالقطاعى»، فيما بعد أصبح التسجيل بالجملة، الكل يخضع للتسجيل، كل المكالمات مسجلة ويتم الاحتفاظ بها لوقت الحاجة، الحاجة منها قد تكون ابتزازًا أو تخويفًا أو إرهابًا، فى مرحلة التسجيلات أو ركوب كل التليفونات حدثت هذه الواقعة أراد أحد رجال الأعمال أن يُكّون حزبًا ليبراليًا، واستطاع أن يجمع بعض رجال الأعمال والسياسيين حوله، وهنا ظهرت مكالمة شخصية جدًا لرجل الأعمال، وهذه المكالمة كانت بينه وبين أحد الأصدقاء وكان رجل الأعمال يتحدث براحته جدا عن علاقته مع عشيقة أجنبية وبعض المتاعب التى تواجهه فى علاقته بها، وبسبب هذه المكالمة أو بالأحرى بسبب هذا التسجيل قرر رجل الأعمال عدم استكمال مشروع الحزب الليبرالى، وذلك بعد أن وصلت الرسالة، المثير أن هذه المكالمات لا تزال موجودة وفى حوزة أشخاص. فى إطار التسجيلات الجنسية القذرة كان هناك ملف أو مجموعة تسجيلات تخص نواب المعارضة المشاغبين، وكانت أثمن المكالمات هى المكالمات الشخصية والخاصة، وكلما كانت التسجيلات تحتوى على فضائح أو علاقات حميمية تزداد أهميتها. ومن أكثر القصص المحزنة والتى كانت تثير غضبى قصة نائب معارضة محترم جدا، أغروه بالفساد والثروة والفيللات والأراضى، لكنه رفض كل المغريات، كان مناضلاً حقيقيًا يعيش على دخل متواضع، ولكن هذا النائب وقع فى غرام فتاة صغيرة وتزوجها، وسرعان ما تفجرت المشاكل بينهما، وبدأت تطارده بالمكالمات الغاضبة والشتائم، وفى إحدى المكالمات وجهت له الزوجة الشابة اتهامات مسيئة لرجولته وعايرته بكبر سنه.وتم تسجيل المكالمات، وأوصلوا للنائب معرفتهم بهذه المكالمات، وكان الغرض من الرسالة أن يعرف النائب أن المكالمة مسجلة، وفهم الرجل الرسالة وخضع للابتزاز، ولم يستطع نفاق الحكومة والسير فى ركاب النظام، فاتخذ موفقا سلبيا، وقل نشاطه البرلمانى ولم يعد المعارض القوى الشرس، وعلى الرغم من أنه طلق زوجته الثانية، وعاد لزوجته رفيقة الكفاح وأسرته، إلا أنه لم يعد قط إلى حياته السياسية، لم يعد قط ذلك المعارض المناضل الشرس، وحتى بعد أن قامت ثورة 25 يناير لم يشف الرجل من الجرح، فالبعض لا يستطيع تخطى الانكسار الذى يقع فى ظل مهانة الخضوع للابتزاز، وجرح فضح أسرار الناس الشخصية جدا والخاصة جدا لا يلتئم بسهولة. وفى ظل مناخ الخوف والإرهاب كان بعض نواب المعارضة يؤكدون على بناتهم وزوجاتهم الحرص التام فى كل تحركاتهن اليومية، فالأبناء لم يكونوا يوما خارج قبضة التسجيلات، ولا تزال مضابط مجلس الشعب شاهدة على استخدام ورقة الأبناء لابتزاز الآباء، فهناك الواقعة الشهيرة أو بالأحرى الفضيحة التى تفجرت فى عهد وزير الداخلية الراحل زكى بدر، عندما اعترف بطريقة غير مباشرة بالتنصت والتسجيل لبنات زعيم حزب الوفد الجديد الراحل ياسين سراج الدين، وثار أحد الأعضاء من الوفد للأكاذيب الأخلاقية ولمنع وزير الدخلية من الاستمرار فى هذا الابتزاز واعتدى النائب على وزير الداخلية وتفجرت خناقة بالأيدى تحت القبة. ■ تسجيلات لجمال وعلاء مبارك أطاحت بأحد رؤساء جهاز ■ أمن الدولة استغل مكالمة العشيقة ليوقف مشروع الحزب الليبرالى نيران صديقة ربما يتصور البعض أن التسجيلات والتنصت كانت حكرا على المعارضة لكن الأمر تعدى الخصوم إلى الأنصار والأصدقاء، منذ أسابيع رويت قصة موظف الرئاسة فى عهد مبارك الذى طرد بسبب تسجيل المكالمات، فقد تم تسجيل مكالمة له مع صديقته وكان الرجل من قبيل الفخر يؤكد لها أنه يشترى لها الهدايا من نفس المحلات التى تشترى منها سوزان مبارك، ودفع وظيفته ثمنا لهذا التجاوز خاصة أن المكالمة كانت من النوع الساخن. ولكن بعض التسجيلات أطاحت برجال أهم وأقوى كثيرًا من الموظف الرئاسى. هناك تسجيل خطير تم فى مقر الحزب الوطنى وسمعه مبارك، وكان سببا فى التعجيل بالإطاحة بالدكتور يوسف والى. والى كان يوصف بأحد أعمدة نظام مبارك، ولم يكن الوصف فيه أى مبالغة، ظل الرجل فى قمة السلطة لنحو ربع قرن، ونفوذه السياسى كان يتعدى منصبه كوزير للزراعة أو حتى نائب رئيس وزراء، وكان يشغل منصب الأمين العام للحزب الوطنى الحاكم، وكان يوسف والى أبو التطبيع مع إسرائيل، ولذلك كان الرجل مكروها على المستوى الشعبى والسياسى، وطوال توليه وزارة الزراعة اكتشف أكثر من فضيحة فساد بين رجاله، وتفجرت قضية المبيدات المسرطنة، ولكن مكانة الرجل لدى مبارك لم تهتز جراء كل هذه المشكلات أو فضائح الوزارة، أو كراهية المصريين لهرولته للتطبيع مع العدو الإسرائيلى، ومع بدء عجلة التوريث فى الدوران كان من البديهى أن يفقد بعض أركان نظام مبارك من الحرس القديم مكانتهم تدريجيا، إنها لعبة أشبه بلعبة الكراسى الموسيقية، ولكنها لعبة قاسية، وكان الهدف هو ضبط يوسف والى متلبسا فى خطيئة قاتلة من وجهة نظر مبارك، فكل القضايا والتطبيع لم تكن تمثل سببا وجيها لإزاحة والى، الخطيئة كل ما يمس مبارك شخصيا، وفى اجتماع الأمانة العامة للحزب الوطنى داخل مقر الحزب جرى تسجيل لخطيئة والى، إنها الخطيئة التى قطعت كل الخيوط بين مبارك ويوسف والى، ففى الاجتماع فتح زكريا عزمى موضوع تجديد دماء الحزب وانه من غير المقبول أن تظل القيادات فى مواقعها لسنوات طويلة أو للأبد، وفهم والى أنه المقصود بهذا الكلام، وكان يعلم بمحاولات طرده من الحزب، ففقد الرجل أعصابه، وقال إذا كان التغيير مطلوبًا فيجب أن يكون التغيير على كل المستويات، فاحكم عليه زكريا عزمى الخناق وقال له «يا دكتور انتبه لكلامك»، وكان عزمى يعلم بالتأكيد أن الاجتماع مسجلاً، وقد وصل التسجيل لمبارك، وغضب غضبا شديدا مما اعتبره تطاول والى عليه، ودعوته غير المباشرة لأن يشمل التغيير مبارك نفسه. المثير أن مبنى الحزب الوطنى كان يحتوى على أقوى أجهزة التنصت، وكانت الأجهزة منتشرة فى كل غرف المبنى بما فى ذلك غرف السكرتارية، ولذلك فإن بعض قيادات الحزب الوطنى الحاكم كانوا يتحايلون على التسجيل بطرق عديدة، فالاجتماعات المهمة أو الحوارات الخطيرة لا تتم فى مكاتبهم بالحزب، وإذا اضطروا للتكلم داخل الحزب فى موضوعات خطيرة أو مهمة فقد كانوا يتحدثون فى طرقات ودهاليز المبنى، ربما لأنه المكان الوحيد الذى لم يتم تركيب أجهزة تنصت به، وكانت بعض قيادات الحزب الوطنى إذا أرادت التحدث فى التليفون المحمول وكانت المكالمة مهمة أجرت المكالمة فى الحمام، أما أهم طريقة لحماية أنفسهم أو بالأحرى حواراتهم من أجهزة التسجيل فهو الصوت المنخفضة جدا، لأن أجهزة التنصت كانت تعجز عن التقاط الأصوات المنخفضة، ولمزيد من الاحتياط كانت قيادات الوطنى تقوم بتشغيل أجهزة التليفزيون بصوت عالٍ. وبالتأكيد تعكس هذه الاحتياطات الأجواء الخانقة لآخر سنوات دولة الفساد فى عهد مبارك، ولكن على الرغم من تلك الاحتياطات فلم ينج الجميع من قبضة التسجيلات، وكانت النصيحة المهمة لكل وزير خرج من الوزارة أو مسئول ترك منصبه هو أن يمسك لسانه، ولا يحكى أسرار الوزارة خلال الجلسات الخاصة، خوفا من أن يقع فى المحظور ويتم تسجيل حكايات أو بعض أسرار الحكم، مما يجر على الوزير أو المسئول السابق غضب مبارك، ولعل أشهر من عمل بهذه النصيحة هو رئيس الوزراء الأكبر الدكتور كمال الجنزورى، فبعد خروجه من رئاسة الوزراء فى المرة الأولى امتنع الجنزورى عن حضور كل المناسبات الاجتماعية أو المشاركة فى جلسات دردشة حتى لو كان الأمر فى الساحل الشمالى، وكان يفضل الجلوس مع مجموعة صغيرة جدا جدا، وأصدقاؤه يعدون على أصابع اليد الواحدة، فقد كان الجنزورى يخشى أن يقع ضحية فوضى التسجيلات. تسجيلات قطاع الخاص فى عهد مبارك لم تكن التسجيلات حكومية فقط، لم تكن أجهزة الأمن فقط هى التى تقوم بالتسجيل، ولكن دخل القطاع الخاص المجال، وأصبح لدنيا تنصت وتسجيلات حكومة وأهالى. فعندما تفجرت فضيحة سيديهات نائب الوطنى حيدر بغدادى أشارت بعض أصابع الاتهام إلى نائب آخر من رجال الأعمال، وكان مجلس الشعب والمجتمع كله قد فوجئ بسى دى للنائب مع إحدى الفتيات، ولتأكيد تاريخ السى دى وأن الواقعة حديثة، كانت الفتاة تحدث النائب عن مداخلاته فى تعديل قانون الأزهر والذى جرى فى نفس أسلوب ظهور السى دى، واتهم بعض أصدقاء النائب حيدر بغدادى رجل أعمال بأنه وراء تدبير التسجيل للانتقام من النائب. وسواء كان الاتهام صحيحا أم باطلا فإن استخدام التنصت والتسجيلات كان قد انتشر بين بعض كبار رجال الأعمال من قبل هذه الواقعة بسنوات، بل إن رجل أعمال استطاع تدبير عملية تسجيل نادرة لوزير فى مكتبه، وأدى ذلك التسجيل للإطاحة بالوزير، وكان الوزير مشهورًا بأنه ابن نكتة ولا يسلم أحد من تشنيعاته ونكاته بما فى ذلك أكبر رأس فى البلد، وكان مشهورًا عنه أن يروى النكات السياسية فى مجالسه الخاصة، وكان المطلوب أن يتم تسجيل هذه النكات خاصة عن مبارك بصوت الوزير، فالتقارير المكتوبة يمكن الطعن بها أو بالأحرى إنكارها، واتفق رجل الأعمال مع إحدى الصحفيات على إجراء لقاء صحفى بالوزير فى مكتبه، وكالمعتاد بعد الشغل راح الوزير يروى للصحفية آخر النكات والنوادر بما فى ذلك النكات والنوادر الخاصة ب مبارك، ولم يكن الوزير يعلم أن الصحفية تقوم بتسجيل الحوار الخاص من خلال تسجيل فى ساعة فى يدها. وكان كبار رجال الأعمال يستخدمون أجهزة التنصت فى مكاتبهم وكانت الأجهزة على أحدث مستوى، وذلك لتسجيل بعض اللقاءات التى كانوا يريدون توثيقها لأسباب خاصة إما للمنافسة فى البيزنس، أو امتلاك أدوات ابتزاز لاستخدامها وقت الحاجة، ولكن بعضهم كان ينظر إلى تجهيز المكتب بأجهزة التنصت بوصفه أحدث موضة، فى ذلك الوقت انتشر الهوس بأجهزة التسجيل والتنصت فى المجمتع بشكل جنونى، كانت الإعلانات عن أجهزة التسجيل غير التقليدية والسرية يحتل مكانا بارزًا فى الصحف وكانت الإعلانات تتحدث صراحة عن أهمية التسجيل لزوجتك أو أولادك أو موظفيك، وكانت أجهزة التنصت والكاميرات الخفية تحظى بإقبال ضخم، وكانت أجهزة التسجيل والكاميرات الخفية تمثل هدايا لطيفة فى أعياد الميلاد أو بعد العودة من رحلات الخارج. هذا الهوس باختراق خصوصية الآخر وبامتلاك تسجيلات أو سيديهات تحتاج بالتأكيد إلى خبراء علم النفس وعلم الاجتماع، ولاشك أنها من بين التشوهات التى أحدثتها دولة الفساد فى عصر مبارك، فقد كان التنصت بل التسجيلات موجوداً فى كل العصور قبل مبارك، ولكن توحش الظاهرة وتوحش الدولة فى استخدمها بل الافتخار بالتسجيلات على طريقة «اللى بيخاف ما يتكلمش» كان عنوان خاصًا بعهد مبارك. عصر من التسجيلات قبل حكم مبارك كان التنصت موجودا والتسجيلات موجودة، وكانت القضية تطل بوجهها القبيح من حين لآخر، وبعد ثورة 23 يوليو مباشرة ظهرت قصة تسجيلات العصر الملكى، ولم تكن أساليب التنصت والتسجيلات قد تطور بعد ووصل إلى هذا الحد المذهل الذى نعشيه اليوم، ولكن الأمر لم يخل من وجود تسجيلات، وكانت أهم قصة فى العصر الملكى هى قصة تسجيلات صوتية داخل منزل أحد الزعماء السياسيين فى ذلك الوقت، والقصة أن قيادات ثورة 23 يوليو عثروا فى خزانة رئيس البوليس السياسى «أمن الدولة فى ذلك الوقت» على تسجيلات لمكالمات بين زوجة أحد الزعماء وقيادة سياسية شابة فى ذلك الوقت، ويفهم من المكالمات أو الحوارات وجود علاقة غرامية بين الاثنين، ولكن جمال عبد الناصر رفض استخدام هذه الورقة، وذلك على الرغم من أن الصحف بعد ثورة 23 يوليو قامت بحملات واسعة للكشف عن فساد العصر الملكى، وعن فساد السياسيين والأحزاب، إلا أن هذه القصة لم يتم تسربيها، وسرعان ما ماتت ودخلت عالم النسيان. المثير أن عبد الناصر الذى رفض استخدام هذه الورقة أو هذه المكالمات عرف عن عصره وعن نظامه أنه عصر أجهزة التنصت والتسجيلات، وكان من بينها التسجيلات والشرائط الجنسية، ووجهت اتهامات عديدة لمدير المخابرات الراحل صلاح نصر فى هذا الصدد، واتهمت أكثر من فنانة رجال صلاح نصر بمحاولة إجبارها على إقامة علاقات مع بعض ضيوف مصر، ولا يمكن الوقوف على حقيقة هذه الاتهامات وهل هناك مبالغات فى هذا الملف أم لا، وهل كل ما يروى فى هذا المجال حقيقى أم خضع لمبالغات وإضافات، ولكن من المؤكد أن مكالمات كبار المسئولين بالدولة كانت تخضع للتسجيل، وتؤكد أزمة مكالمات جيهان السادات هذه الحقيقة، كانت جيهان السادات قد أصبحت زوجة رئيس الجهورية عندما طلب مدير مكتب الرئيس فى ذلك الوقت الأستاذ سامى شرف لقاء جيهان، ونبهها إلى أن وضعها كزوجة رئيس جمهورية يحتم عليها أن تأخذ بالها من كلامها، ولامها شرف أنها قالت للمطرب عبد الحليم حافظ فى مكالمة تليفون «حليم»، وبحسب رواية الرئيس السادات فإنه اكتشف من هذه القصة أنهم يسجلون له ولأسرته وأنه بعد أن أصبح رئيسًا اكتشف أن مصر كلها تعيش تحت إرهاب التسجيلات، ولذلك بدأ عصره بتمثيلية إحراق شرائط التنصت على المصريين كى يبدأ عصرًا جديدًا، ولكن النكتة التى صدرت عن تمثيلية التسجيلات أن السادات أمر بإعادة تشكيل إدارة التنصت مرة أخرى بعد ساعات من حرق التسجيلات، وكان السادات يشك فى أن بعض العاملين فى رئاسة الجمهورية يسهلون لخصومه فى الدولة تسجيل المكالمات، ولذلك قام بتغييرات واسعة فى الرئاسة لضمان ولاء الرجال والموظفين له، ولكن المؤكد أن التسجيلات لم تتوقف فى عهد السادات وأن السادات الذى بدأ عهده بالدعوة للديمقراطية لم ينس قط أن يذكر شعبه أن الديمقراطية لها أنياب وشلاليت. المؤكد أن كل نظام حكم فى مصر كان يعد التسجيلات إحدى أدوات الحكم أو بالأحرى السيطرة على زمام الأمور، والاختلاف كان فى حجم التسجيلات أو التوسع فيها وتشعبها وانتشارها وتوغلها، إن التسجيلات جريمة تورط فيها الجميع.