انطلقت الدورة الخامسة والستون لمهرجان "كان" السينمائي أول من أمس بفيلم الأميركي ويس آندرسون "مملكة مونرايز"، وشاهد جمهور المهرجان ضمن المسابقة الرسمية فيلم "بعد الموقعة" للمخرج المصري يُسري نصرالله. ومنذ الوهلة الأولى يضع ويس آندرسون المشاهد في حالة الإحساس بكونه مثل العملاق "غوليفير" في مملكة للشخصيات الصغيرة، وأن كل ما يحدث على الشاشة إنما يجري في مجسّم شبيه بمنزل الدمية باربي، وجاء استخدامه للمشاهد (الطبيعية والديكورات) المبنية على شكل مُجسّمات تصاميم ترسيخاً لحالة القصة الخيالية "الفيري تيل" وتحرّكت الشخصيات أمام الكاميرا وكأنها من صنع خيال خصب، يقرب من خيال كتّاب ومخرجي أفلام الصور المتحرّكة، حتى أن دمية ورقية وضعت في سرير بدت أكثر واقعية من الشخصيات الآدمية، التي كانت تبدو وكأنها رسوم لُوّنت بأقلام الباستيل. شاعرية مراهقين ورغم خيالية القصة ظاهرياً، فإن ما يعرضه المتميّز ويس آندرسون ليس خيالاً، بل هو يمس، عبر قصة حب بريئة وشاعرية بين مراهقين، سلسلة من القضايا تمس عمق المجتمعات المتطوّرة، إضافة إلى قضايا التبنّي والأجواء العائلية المتوتّرة. تنطلق أحداث الفيلم في يوم اعتيادي للغاية لسكان جزيرة قصيّة وهادئة في نيو إنغلاند، عندما يقرر المراهق ذي الاثني عشر عاماً "سام" الهرب من المخيّم الكشفي الذي يدار بصرامة من قبل قبطانه وارد (إدوارد نورثون). يُوقع هذا الحدث الجزيرة الهادئة في حالة من التوتّر نكتشف بعد ساعات قليلة أن هناك هاربة أخرى، هي بنت الثانية عشرة "سوزي" التي ملّت الحياة مع والديها وأشقائها الصغار الثلاثة. يلجأ الاثنان إلى منطقة قصيّة من الجزيرة ويعلنانها مملكتهم الخاصة ويقيمان فيها الخيمة الأولى، لكنهما يُفاجآن في الصباح التالي بنقيب الشرطة "شارب"- أدّاه بشكل ممتع بروس ويليس- ووالدي الفتاة السيد والسيدة بيشوب (وأدّاهما بيل مورّي وفرانسيس ماكدورماند) وقبطان فرقة الكشافة، وهم يحاصرون الخيمة الصغيرة ويُجبرانهما على العودة، هي إلى منزل والديها، وهو الى حماية نقيب الشرطة لحين تستلمه من قبل عائلته، باعتبار كونه "غير ملائم للبقاء في المخيم الكشفي". ذبذبات كهربائية وحين يكتشف الجميع أن الصبي مهدّد بالادخال إلى ملجأ للايتام واحتمال تعرّضه إلى الذبذبات الكهربائية لعلاج مشاكل عصبية لديه، كما تقرّر المساعدة الاجتماعية (تؤدّيها النجمة البريطانية تيلدا سوينتين)، يلتف حوله أهل الجزيرة، بمن فيهم زملاء الصبي الذين ناصبوه العداء في السابق وحاكوا له المصائب، وتصل الحالة بنقيب الشرطة أن يرفع في وجه المساعدة الاجتماعية هراوة غُرزت فيها مسامير عديدة للحيلولة دون تسلمها الصبي. بعد الموقعة مصر تعود إلى المهرجان بعد سنة من احتفاء مهرجان كان بثورة ميدان التحرير التي أطاحت بحكم الرئيس المصري السابق، وتأتي هذه العودة من خلال شريط المخرج يُسري نصرالله "بعد الموقعة" الذي يحاول أن يروي خلفيات حياة الناس إثر تلك الأحداث، وبالذات التمزّق المقصود الذي أحدثه النظام بسبب دفع البلطجية إلى مهاجمة ميدان التحرير وهم على ظهور الجياد والجمال. وينطلق نصرالله من منطق أن هناك ضحايا سقطوا في تلك الموقعة التي سُمّيت ب"موقعة الجمل"، ومن الطبيعي أن يسود الاعتقاد بأن الضحايا هم أولئك الذين تعرّضوا إلى هجوم البلطجية وسقطوا جرحى وقتلى. لكنه يقلب زاوية الرؤية ويجعل ناظره يُحدّق من الطرف الآخر، أي من شارع فرسان الجياد من الأدلاء السياحين عند الأهرامات، ومن خلال محمود "يؤدّيه باسم سمرة، الممثل المفضّل لدى يسري نصرالله"، الذي نزل ميدان التحرير على ظهر فرسه واعتدى على المتظاهرين وأُوقع عن ظهر الفرس وأشبع ضرباً من قبل المتظاهرين . حضور كورالي كعادته، في جميع أفلامه، لا يترك ويس آندرسون الشاشة لبطل واحد بعينه، وبرغم أهمية الأسماء التي تؤدي معه، فهو يملأ الشاشة بحضور كورالي محتشد، ويبدو العمل مثل أوركسترا سيمفونية لا يمكن لها أن تستغني عن أي من آلاتها، بصرف النظر عن أهمية وحجم المساهمة في السيمفونية. وهنا، كما في افلامه السابقة، يقارب آندرسون بين نجوم من عيار بروس ويليس وإدوارد نورثن وتيلدا سوينتين ومورّي، وممثلين في عمر المراهقة الذين يؤدون أدوارهم بقدرات عالية وحاضرة.