■ المهرجان يعرض فيلماً قصيراً لمخرج إخوانى مقيم فى قطر! ■ فاروق الفيشاوى وعمرو واكد يفشلان فى إنقاذ البطوط من السقوط! أفضل ما فى «مهرجان أبى ظبى السينمائى الدولي» هو قدرة منظميه على اختيار مجموعة منتقاة بعناية فائقة من انتاجات السينما العالمية التى فاز معظمها بجوائز المهرجانات الكبرى مثل «برلين» و«كان» و«فينيسيا» وغيرها.
ومع كثرة الأفلام الجيدة التى يعرضها المهرجان إلا أنه غير مزدحم بما ليس له مكان، فالبرامج وعدد الأفلام الإجمالى يكاد يكون أقل من مهرجانات كثيرة أخرى، باستثناء بعض المهرجانات الصغيرة التى تركز عروضها على خمسين أو ثلاثين أو حتى عشرين فيلما فقط.
نقطة ثانية فى صالحه هى أنه محطة التقاء للأفلام العربية البارزة التى ظهرت خلال العام. ومع إضافة مهرجان «دبي» الذى يقام بعده بشهرين، يمكن أن نقول إن المهرجانين أصبحا محطة انطلاق رئيسية لمعظم الأفلام العربية الفنية التى انتهت، أو تحت التشطيب، أو قيد التحضير. ذلك أن المهرجانين لا يكتفيان بعرض الأفلام المنتهية، ولكنه يوفر فرص مساعدات ومنحًا مالية ومعنوية لكثير من الأفلام العربية الجديدة.
على سبيل المثال، فى الدورة الثامنة من مهرجان أبى ظبى التى تعقد حاليا خلال الفترة من 23 أكتوبر إلى 1 نوفمبر، هناك أكثر من عشرة أفلام عربية مشاركة فى المسابقات المختلفة للمهرجان حصلت على دعم من صندوق «سند» هذا العام أو العام السابق، وأضف إليها فيلم الافتتاح «من ألف إلى باء» الذى أنتج بأموال إماراتية بالكامل.
هناك آثار جانبية بالطبع لتصدى أى مهرجان لدعم الأفلام وتمويلها، بدلا من الاكتفاء بعرضها، لأنه يتحول بمرور الوقت إلى مشجع، ومنافس، وطرف فى صراع، بدلا من أن يبقى دوره مقتصرا على التقييم والتحكيم ولفت الانتباه إلى ما هو جيد وجديد.
مع الوقت، يصبح المسئولون عن صناديق الدعم مهووسين بعرض أفلامهم فى المسابقات والحصول على جوائز، على اعتبار أن هذا هو أكبر مؤشر لنجاحهم فى إدارة هذه الصناديق. وبالتالى قد يكون هناك ضغوط، أو انحيازات، أو تفضيلات تدفع مبرمجى المهرجان لاختيار الأفلام التى قاموا بدعمها. وهو ما نجده بالطبع فى مهرجان أبى ظبى ومهرجان دبى ومن قبلهما مهرجان «كان» الذى ينحاز – نسبيا بالطبع- إلى الأفلام التى حصلت على تمويل من صناديق الدعم الفرنسية.
هذا الاشتباك أطرحه للمناقشة، وللتفكير، وللتنبيه، أملا فى أن يتجنب المسئولون هذه الآثار الجانبية السلبية مستقبلا.
وحتى أضرب مثلا واضحا، وحتى لا يفهم من هذا المثل أننى أتهم المسئولين عن المهرجان وصندوق دعمه بالانحياز لبلاد أو أسماء معينة، فسوف أتكلم عن الفيلم المصرى المشارك فى المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، وهو «القط» للمخرج إبراهيم البطوط.
من بين كل الأفلام الروائية المعروضة فى المهرجان فإن «القط» واحد من أسوأها، والأسوأ من ذلك أنه الفيلم المصرى الوحيد المشارك فى المسابقتين الرئيسيتين، «الدولية» و«آفاق» للعمل الأول أو الثانى. خارج المسابقتين يوجد فقط فيلم «أم غايب» للمخرجة نادين صليب فى مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، وفيلم آخر فى مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة اسمه «أنا موجود» يدور عن مخيمات اللاجئين السوريين، لمخرج «إخواني» اسمه أحمد عبد الناصر، يعمل فى قناة «الجزيرة» الرياضية، ويبدو أن له بعض الأقارب، أو أعضاء من الجماعة، فى أمريكا، لأنه عرض بعض أفلامه السابقة هناك. وقد وضع «الأخ» عبد الناصر ثلاث جنسيات لفيلمه هى بالترتيب: قطر، مصر، سوريا. وترجمة هذا تعني: فيلم تمويل وانتاج قطرى، لمخرج مصرى، وموضوع إنسانى ولكنه يهدف إلى الهجوم على نظام بشار الأسد لصالح جبهة النصرة، التى يبدو أنها مولت الفيلم بما أنه يحمل الجنسية السورية أيضا!
على أية حال لا يستحق الفيلم ولا صاحبه أن ننفق عليه مزيدا من الكلمات. لنعد إلى كارثة «القط».
كنت أقول إن مصر ممثلة فى المهرجان بفيلم «القط» الروائى، وفيلم «أم غايب» الذى حصل على دعم أيضا من صندوق دعم «سند»، وهو لم يعرض بعد، لذلك أؤجل الكلام عنه للأسبوع المقبل.
«القط» هو العمل الروائى الخامس للمخرج إبراهيم البطوط الذى بدأ بصناعة فيلمين مستقلين صغيرين هما «إيثاكا» و«عين شمس»، وبعد النجاح الكبير والمستحق ل«عين شمس» لم يعد «مستقلا» تماما، فقد فتحت له أبواب المساعدات والدعم المخصصة للأفلام المستقلة، ولكن الغريب فى الأمر أن البطوط بدلا من تطوير إيجابيات «عين شمس» والتخلص من سلبياته ومنها فقر الانتاج، راحت خطواته تتعثر وتترنح وأكاد أقول تنكفئ على وجهها فى فيلمه الجديد.
فيلم «القط» من بطولة عمرو واكد، الذى عمل مع البطوط من قبل فى فيلمه الأخير «الشتا اللى فات»، وهو ممثل مغامر يهوى التجريب فى أفلام مستقلة بدلا من أن يحصر نفسه فى الأدوار المكررة «البائتة» فى السينما التجارية.
«القط» من بطولة فاروق الفيشاوى أيضا، وهى مفاجأة بالطبع، لأن الفيشاوى ينتمى قلبا وقالبا إلى السينما السائدة ولم يعرف عنه يوما اهتمامه بالتجريب أو بتطوير أدواته كممثل من خلال الدرس أو السفر أو العمل فى أفلام مستقلة، كما فعل محمود حميدة مثلا.
هذه مفاجأة، ولكنها ليست مشكلة بالطبع طالما أن مخرج ومؤلف العمل يرى أن فاروق الفيشاوى أصلح ممثل يناسب هذا الدور، وإن كنت أتصور أن المسألة لا علاقة لها بالصلاحية، وإنما بالبحث عن اسم يعتقد أنه سيرفع أسهم فيلمه فى سوق العرض والتوزيع.
يدور فيلم «القط» فى مصر الآن حول مجرم سابق يتحول إلى «منتقم» على الطريقة الأمريكية من عصابات خطف الأطفال وبيع أعضائهم التى قامت إحداها بخطف ابنته منذ عدة سنوات. ويساعده فى هذا الانتقام «رجل غامض» من الواضح أنه يفعل ذلك لأسباب «وطنية»، فهو دائم الزيارات لآثار الفراعنة ومجمع الأديان بمصر القديمة فى كثير من المشاهد المغلفة بالحنين والموسيقى الرومانتيكية والأغانى الصوفية الروحانية!
على المستوى البصرى يعانى الفيلم من فقر واضح من ناحية الكاميرا المتواضعة التى تم تصوير الفيلم بها، أو تنفيذ مشاهد «الحركة» من خطف وقتل ومطاردات، وهو فقر يمكن قبوله، بل يمكن أن يصبح ميزة أيضا، فى نوعية معينة من الأفلام الواقعية التى ترصد فقر وخشونة البيئة التى تدور فيها الأحداث.
على مستوى التمثيل هناك عدم تجانس شديد بين أداء الفيشاوى وعمرو واكد، وهو أداء نمطى خاصة من الفيشاوى، وبين أداء بقية الممثلين الهواة الذين يتهجون بالكاد قواعد التمثيل فى مثل هذه الأفلام. ومرة أخرى ربما يصلح أداء الهواة، بل قد يصبح ميزة أيضا، فى نوعية فيلم مثل «عين شمس» يعتمد على البساطة والطبيعية والارتجال وأداء «الحياة الطبيعية» أمام الكاميرا.
الأداء التمثيلى فى «القط» كارثة سواء من قبل المحترفين أوالهواة.. ولكن أسوأه هو أداء الممثلات اللواتى يؤدين على طريقة مسلسلات الدرجة الثانية. وواضح أن البطوط لم يهتم بوضع خطة للتمثيل فى الفيلم، ولم يهتم كفاية بتوجيه ممثليه لخدمة المزاج العام للفيلم.
المصيبة أنه لا يوجد مزاج للفيلم، بل تنافر شديد بين عناصره. من ناحية هناك بقايا «الواقعية التسجيلية» التى بنى عليها البطوط شهرته وتميزه، ولكن هناك الميل المتزايد لعمل فيلم «روائى» يحكى قصة وحبكة «خيالية» ويحمل تشويقا وإثارة. ولكن النتيجة أنك لا تحصل هنا على أى من الاثنين.
يفترض أن «القط» يواجه عصابة خطيرة. ويفترض أن يشعر المشاهد بخطورة هذه العصابة، ولكن أفراد هذه العصابة والممثلين الذين يلعبون هذه الشخصيات وسلوكياتهم يدفعونك للرثاء أو السخرية عوضا عن الخوف والذهول.
تخيل أن العصابة تقوم بخطف الأطفال من الشارع وسط المارة ويقومون بتقطيع أوصالهم وقتلهم فى بيت عادى فى حى شعبى ويتخلصون من الجثث فى حفرة فى الحارة ويحتفظون بالأعضاء المبتورة فى «كولدير» بلاستيك يقوم أحدهم بتخبئته تحت حوامل الملابس التى تباع فى الاسعاف قبل أن تقوم البلدية بنقل الباعة إلى حى الترجمان. وتخيل أن القط يأتى مع رجاله لقتل هذا الشخص، وهو ممثل شاب وسيم وحبوب، فى وسط البلد نهارا وسط مئات المارة!
سيقول قائل منهم أنتم تقبلون هذا فى السينما الأمريكية فلماذا ترفضونه فى السينما المصرية؟
الإجابة ببساطة تكمن فى «الأنواع الفنية» يا سادة. فى النوع البوليسى الخيالى تتكفل كل عناصر الفيلم بخلق عالم افتراضى «مواز» للواقع. وحتى أضرب مثلا بسيطا ومصريا إليكم فيلم «ضربة شمس» لمحمد خان. فى هذا الفيلم يقوم خان بعمل مناخ غير واقعى يجعلك تصدق المطاردات والمعارك الدائرة. ويتحقق هذا بداية من اختيار الممثلين وحتى أسلوب التصوير.
فى «القط» كما ذكرت تدفعك مشاهد رجال العصابة إلى الرثاء من أجلهم، خاصة أداء صلاح الحنفى فى دور زعيمهم، فهو أقرب لأداء شخصية بلطجى نواصى منه إلى قاتل أطفال وتاجر فى الأعضاء البشرية. ومن المضحك جدا ذلك المشهد الذى يقوم فيه باستدعاء المأذون ورجل عربى لتزويجه من إحدى الفتيات المختطفات.
حتى شخصية «المنتقم» السوبرمان التى يلعبها عمرو واكد لا تحمل أى صفات تدعو المشاهد للتعاطف معه أو تصديقه. وليس هناك أى شواهد تدل على براعة هذا المنتقم وقدرته على التغلب على عصابة دولية بهذه الخطورة، والشيء الوحيد الذى يوحى بقوته وذكائه هو «التبريق» بالعينين، ويبدو أن عمرو واكد لم يجد شيئا يمكن أن يعتمد عليه فى السيناريو فاكتفى بالتحديق من الدهشة والغيظ!
هناك إفراط فى مشاهد العنف على طريقة فيلم «إبراهيم الأبيض» وهوس بتصوير الأعضاء المبتورة. يبدو أن تمزيق الأجساد وانفجار الدماء أصبحت موضة، ولا ينافسها سوى موضة الموسيقى لأناشيد الصوفية، عمال على بطال، حتى فى المسلسلات والأفلام البوليسية! وطبعا لا يمكن أن نغفل عن موضة التصوير فى الأماكن الأثرية السياحية والاستعانة ببعض النصوص الفرعونية على ترتيلة قبطية على مزمور يهودى ومديح نبوى ونختم بموسيقى صاخبة فى الديسكو.. على طريقة فيلم «الجمال العظيم» الايطالى الذى حصل على أوسكار أفضل فيلم أجنبى هذا العام. وهو نتاج التحالف المثمر بين اثنين من المؤلفين الموسيقيين الشبان!
أعتقد، والله أعلم، أن المخرج والمؤلف كانا يقصدان شيئا من وراء هذا كله، ربما يكون الحديث عن «مصر الممزقة» مثل أسطورة «أوزيريس» الممزق الذى قامت إيزيس بجمع أعضائه. ولكن هذه مجرد فكرة ذهنية لا علاقة لها ببقية عناصر الفيلم أو التأثير الكلى الذى يحدثه فى المشاهد.
ربما لو اكتفى صانع الفيلم بالحديث عن التمزق، بدون تلك الشخصية الغريبة لفاروق الفيشاوى التى تجبر المشاهد على تضييع جهوده وتركيزه فى التساؤل حول هويته والمؤسسة التى يمثلها، وربما لو اكتفى صانع الفيلم بالإيحاء والشعر بدلا من شغل عيون المشاهد بالصورة الواقعية التسجيلية، ربما كان يمكن وقتها أن نستوعب فكرته الجميلة!