«على رأسى ريشة»!! لماذا؟! لأننى قابلت نجيب محفوظ، لأننى حادثته، لأننى حاورته، لأننى استمعت إلى جلجلة ضحكته، لأننى عشت فرحة فوزه بجائزة نوبل وكأنها المرة الأولى التى سمعنا عن نوبل- رغم أننا نعرفها طبعاً- لكن.. ابن مصر.. ابن زقاق المدق «كِسبها» - بكسر الكاف وهى بالعامية- وبالفصيح: فاز بها، الخواجة نوبل يعرفه ويعرفنا، يقدر أدبه وأدبنا، ورغم الفوز لم يسافر العظيم، لم يترك الأرض والبيت والزقاق..، مصرى حتى النخاع، سافرت الابنة: «أم كلثوم نجيب محفوظ» -طبعا لاحظت الاسم «أم كلثوم» وكأنه يجمع إبداع الفن والأدب والشموخ كله، مصر كلها ربما تجدها فى هذا الرجل وفى كل ما يتصل بحياته ويومياته السفر بالنسبة له غربة.. المكان الذى كتب عنه والحارة التى عاش فيها لم يقدر على فراقها ساعات حتى يتسلم الجائزة..، لقد أفلح «نجيب محفوظ» لأنه صدق..، فالإنسان هو الإنسان.. ولذلك رأه العالم وقيم أدبه وترجمه إلى لغات عديدة وتعرف عليه وأعطاه أرفع الجوائز «نوبل».. هذا بعض من ملامح المصرى العالمى الأديب «نجيب محفوظ» صاحب «الثلاثية» و«السمان والخريف» و«ثرثرة على النيل» و«اللص والكلاب» وباقى إبداعاته وصولا إلى «أصداء السيرة الذاتية» والتى أظهرت وطنيته منذ الطفولة وغيرته على الوطن وطوقه إلى الحرية، ولكن يبقى هناك ملمح أرجو أن أقف عنده اليوم ببعض «التأمل» واستعادة الذكريات.. لأن «نجيب محفوظ» كان له عندنا نحن الإعلاميين وجه آخر..، نتسابق لنحصل منه على تسجيل إذاعى نقوم بإذاعته على الدنيا والناس فى مناسبات مختلفة، فلا أنسى إحدى ليالى رمضان التى سجلت فيها مع «نجيب محفوظ» سهرة بعنوان «ما أحلى الرجوع إليه» وفعلا أخذنا إلى الجميل والحلو الذى كنا نود الرجوع إليه، وأضاء ليلة رمضانية بأدبه الرفيع وحلو كلامه وتشبيهاته، وهكذا كان «نجيب محفوظ» بالنسبة لنا إنسانا من «لحم ودم» وليس مجرد رواية أو فيلم أو حدوتة، إنساناً يضحك كثيرا، ويكشر قليلا أو قليلا جدا، خصوصاً مع السيدات، وكم كان خجولاً مجاملاً لا يرد لك طلباً بتسجيل ولا يستعجل وقتك المخصص لهذا التسجيل، هادئ الطبع، ربما يسألك عن حالك وحال أسرتك من باب المجاملة المصرية الودودة، لكننى استطعت أن استحوذ على تقديره، ولعلها أحد مفاخرى الآن أننى استطعت من خلال «نجيب محفوظ» وذكرى ميلاده أن أحصل على أول تسجيل ل«توفيق الحكيم» وأن أقوم بزيارة لمكتبة توفيق الحكيم بعد أن كان عازفاً بالكامل عن التسجيلات والتصريحات الإذاعية، وقصة هذا السبق تتلخص فى أننى استطعت قبل الثانى عشر من ديسمبر فى إحدى السنوات «وهذا هو تاريخ ميلاد نجيب محفوظ 12/12»، حصلت على موعد للتسجيل وذهبت فى موعدى إلى جريدة الأهرام، وفى الدور الرابع أو السادس - لا اتذكر جيدا- كان مكتبه.. يجاوره د. زكى نجيب محمود وتوفيق الحكيم، وللحق أننى كنت أريد اقتحام «توفيق الحكيم» الذى استعصى عن التسجيل ولكننى انتويت يومها أن أحصل على هذا السبق «بحيلة» كان نجيب محفوظ طريقى إليها، وبالفعل تم المراد من رب العباد وسجلت مع «توفيق الحكيم» للمرة الأولى وحققت سبقاً إعلاميا ما زال مسجلاً ومصوراً على جدران الدور الخامس بماسبيرو فى الطريق إلى مكتب رئيس الإذاعة «صورتى مع توفيق الحكيم» أثناء التسجيل.
ولم يخرج الأمر عن «مكر» المذيعة الشابة الطموح مستغلة تلك المودة التى كانت تعرف أن «نجيب محفوظ» يكنها لرئيستنا نجمة الإذاعة الراحلة صفية المهندس، والتى كانت تشترك مع نجيب محفوظ فى تاريخ الميلاد فى اليوم والشهر «12 ديسمبر».. فعندما نقلت - له تحيات مدام صفية قائلة: مدام صفية بتسلم على حضرتك، يا أستاذ نجيب»، انفرجت أساريره وبكل الود، أجابني: «الله يسلمها ويسلمك وهى ازيها.. كويسة.. سلميلى عليها كثير»، وبعد هذا السلام العاطفى الحنون قدمت إليه «تورتة» صغيرة كنت قد استقدمتها لأقيم احتفالاً رمزيا بعيد ميلاده، وبعد الشكر والامتنان حضر الجيران «توفيق الحكيم، ود. زكى نجيب محمود ويوسف إدريس» وصعد «كمال الملاخ» بالكاميرا فى الصفحة الأخيرة للأهرام، واشعلنا الشمعة، وبين التهانى والضحكات وقفشات الملاخ، ويوسف إدريس، وبوساطة «نجيب محفوظ» نجحت فى التسجيل مع «ت- الحكيم» ثلاث حلقات من «مكتبة فلان» قال لى بعدها: أنت دخلت على على حلقة واحدة لكن خدت ثلاث حلقات».
وبعد ايها السادة..
هؤلاء الكبار.. كانوا كباراً فعلاً.. يحب بعضهم بعضاً منافسة شريفة من أجل الأدب والإبداع وقبل ذلك من أجل مصر.. كانت مصر «بيتهم» وكان «نجيب محفوظ» ملك «البيت» و«القديم» و«البيت القديم» كان موضع أدبه وإبداعه.. كان تعبيرا عن عالم المأوى، والانتماء، الحماية، التقارب، الحميمية، مكان الألفة ومركز تكييف الخيال، ولعل هذا سر «الانتماء» الذى نعيشه جميعا ولا نتخلى عنه أبداً.. لعله «الوطن» الذى نهتف له جميعا وعلى مر الزمان «تحيا مصر».. ولعلنا اليوم ونحن فى ذكرى رحيل العظيم «نجيب محفوظ» نتذكره وندعو الشباب ليقرأ إبداعاته ويمثلها ويضيف إليها.. من أجل «البيت» من أجل مصر «تحيا مصر»..