استمعت إلى تعليق المذيع تامر أمين ورئيس جامعة القاهرة الدكتور جابر نصار حول واقعة التحرش الجماعى داخل كلية الحقوق بجامعة القاهرة قبل أن أشاهد المقطع الذى قام بتصويره الطلبة «الهائجون» للطالبة المتحرش بها خلال اصطحاب الأمن لها لإخراجها من مقر الجامعة. عندما استمعت إليهما ذهلت من أن يقوم إعلامى «شهير» وأستاذ جامعى وناشط سياسى «كبير» بتبرير واقعة تحرش جماعى على طريقة العوام والجهلة الفقراء نفسيا وثقافيا.. ولكن من كلامهما الحماسى وصوتيهما الذكورى المرتعش بالانفعالات ضد المرأة المتحرش بها توقعت أنها كانت ترتدى مايوه بكينى مثلا.. أو بدلة رقص.. أو جيب قصير يكشف فخذيها وتى شيرت يكشف ذراعيها وأجزاء من ظهرها وصدرها مثلا.. أقل ما توقعته أن تكون مثيرة وعارية مثل نيكول سابا فى فيلم «التجربة الدنماركية».
كل من تامر وجابر حاول تصدير فكرة أن ملابس الطالبة هى سبب التحرش بها.. ومبدئيا فمهما كان نوع الملبس الذى ترتديه الطالبة فإن محاولة تبرير أى تحرش أو اعتداء على إنسان بنوع الملابس التى يرتديها هو نوع من السفالة.. و«منتهى السفالة أن يتم الإلحاح على التبرير مع وجود المقطع المصور الذى يبين بالضبط نوع الملابس التى وصفها المذيع بأنها: بنطلون جينز ضيق يبرز تضاريس الجسد و«بلوزة» وردية اللون خاطفة للأنظار وحجاب عبارة عن غطاء رأس على وشاح برتقالى أو أصفر اللون بشراشيب جعلت البعض يتصور أنه شعرها الأشقر.
ملابس «عادية» ومعتادة جدا فى شوارع مصر.. يمكن أن تندهش عندما تراها فى المناطق الشعبية أو محطات المترو، ولكن هذه هو نوع الملابس التى تحتال بها الفتيات على مجتمع يفرض الحجاب على معظم نسائه دون أن يفكر للحظة فى أن الملبس واللغة والسلوك يمكن أن يكون «متغطيا» تماما لكنه قبيح وفج فى تركيبته العامة، وأن الحشمة هى فى الجوهر الذى يظهر على الوجه واللسان والجسد حتى لو كان عاريا، بينما يمكن أن يطل الابتذال من تحت طيات النقاب!
النقاش حول ملبس الفتاة هو أيضا نوع من سفالة النقاش المجتمعى التى تتردد عقب كل حالة تحرش من أيام فتاة العتبة فى الثمانينيات وحتى واقعة «ذات العباءة الكباسين» خلال أحداث مجلس الوزراء.
قلت لصاحبى: عندما تسافر إلى أوروبا أو بيروت أو دبى أو شرم الشيخ أو الغردقة ترى النساء بالبكينى والميكروجيب ولكن المصرى منا، سواء كان مقيما أو زائرا، لا يجرؤ على التحرش بامرأة، بل لا يجرؤ على النظر بوقاحة إلى امرأة عارية فى الشارع وإلا طلبت له البوليس وسحبته إلى القسم.
والأخ المذيع الذى وصف الفتاة بأنها ترتدى «ملابس راقصات» – واعتبر أن هذا هو اللفظ المهذب وأن الوصف الأنسب هو «شرا.. «كان منذ عدة أسابيع فى أحد المهرجانات السياحية فى مدينة شاطئية يقضى اليوم كله وسط المايوهات وملابس السهرة ويتملق كل امرأة يراها ويتحرش ببعضهن لفظيا.. فهل كان يرى وقتها أن كل هؤلاء النساء «شرا..» يستحققن التحرش؟ ولماذا سمحت له أخلاقه المهترئة بالذهاب إلى مثل هذا المهرجان والمشاركة فيه بمثل هذا الحماس و«العنف»؟!
الأفندى المذيع لم يكتف بتبرير التحرش وسب الطالبة وأسرتها، ولكنه فى إطار دفاعه عن الشباب «التعبان» مثله، نصح الشبان بالاكتفاء ب«النظرة الأولى»، وبإطالة هذه النظرة وعدم غض البصر أو إغلاق العين.. حتى لو استمرت هذه النظرة لمدة نصف ساعة مثلا.. وربما لو استطرد قليلا لنصحهم بشراء منظار للتلصص على غرف نوم الجيران وحمامات النساء إذا خلت الجامعة والشوارع من النساء اللاتى يرتدين الجينز الضيق.
الأفندى لا يعلم أنه فى أوروبا والبلاد المنحلة الأخرى لو نظرت لامرأة نظرة وقحة فإن القانون والمجتمع يعتبرها تحرشًا وربما تعاقب وتسجن بسبب هذا الاعتداء على حقوق الآخرين.
المذيع تامر معتاد على مثل هذه «الهرتلات» أمام الشاشة وخارجها، وقد بتنا نتوقع منه التلفظ بالشناعات دائما، ولكن الأسوأ من تامر هو أستاذ الجامعة المثقف الذى طالما صدع رءوسنا بالحديث عن الثورة والحقوق والمجتمع المدنى ولكن أول ما خطر بباله عندما انكشفت الفضيحة التى جرت فى جامعته، وهى بالمناسبة ليست الأولى وليست الوحيدة وليست فريدة من نوعها كما يزعم، فإن أول ما خطر بباله هو أن يهين الفتاة التى تعرضت للتحرش بدلا من أن يعتذر لها ويعترف بالتقصير ويعد بعقاب المدانين ويتعهد باتخاذ إجراءات تحول دون تكرار الواقعة.
حتى لو أنكر جابر نصار وسحب تصريحاته الأولى، فإن عار تبرير التحرش قد التصق باسمه ولن يتركه بسهولة.. ولست أعلم كيف سيستطيع الدكتور المثقف أن يواجه معارفه وأصدقاءه وزميلات دفعته القدامى اللاتى كن يرتدين «المينى» عارى الساقين و«الشابونيز» عارى الكتفين أيام دراسته بالجامعة.. ولم يكن يجرؤ طالب ليس على التحرش ولكن على التفكير بشكل غير محترم فى زميلاته.
المشكلة أنه لم يكتف بالتبرير، ولكنه أبدى فى ردوده عصبية زائدة وصلت إلى حد تبنى الأكاذيب من نوعية أن الفتاة دخلت الجامعة متنكرة فى عباءة قامت بخلعها بعد ذلك. هذه العصبية وهذا الكذب يظهران عدم قدرته على التعامل مع الأمر، ويكشفان أن الحادث ليس فريدا ولا فرديا، وأن القائمين على الجامعة لم يعود يستطيعون السيطرة عليها مثلما لا تستطيع الداخلية السيطرة على الشارع ولا يستطيع المجتمع أن يسيطر على «جن» الانفلات الأخلاقى الذى أطلقه بأخلاقياته الزائفة وتواطئه وتستره على المتحرشين.
حادث كلية الحقوق ليس فريدا ولا مفردا فى الجامعة أو خارجها، والتحرش ظاهرة مصرية أصيلة وكل العالم يعرف أن مصر هى بلد التحرش والمتحرشين وكل الاستطلاعات والدراسات العالمية حول التحرش تقر بأن مصر تحتل المركز الأول عالميا فى التحرش وفى عدد المصابين بمرض الكبد الوبائى.
مع ذلك لم يخرج مسئول رسمى واحد ليعترف بالمصيبتين، أو بأيهما، ولو لم يحدث ذلك الاعتراف أولا فلن تعالج مشكلة التحرش ولا مرض الكبد الوبائى ولو بعد ألف عام، ولو أصبح كل الإعلاميين على شاكلة تامر أمين وكل أساتذة الجامعة على شاكلة جابر نصار فسوف تتفاقم هذه الأوبئة وتدمر المصريين جميعا نفسيا وبدنيا.
الذين برروا للمتحرشين أفعالهم أمام دور العرض السينمائى خلال العيد، وللمغتصبين أفعالهم فى ميدان «التحرير»، ليسوا متفردين أو أفرادا لكنهم مجتمع كامل مريض وثقافة عامة مختلة، ولن يتوقف التحرش أو يتراجع إلا عندما يدرك هذا المجتمع مرضه ويعترف بمشكلته ويسعى إلى تغيير هذه الثقافة.
الصدمة التى نعيش فيها هذه الأيام سوف تخفت مع الوقت، وسوف تتوالى الأخبار عن التحرشات داخل الجامعة، وسوف نعتاد على ذلك بالتدريج ولن نصدم من سماع هذه الأخبار.. وسوف تضعف ردود أفعالنا وتتحول إلى لا مبالاة و»تناحة» باتت ترتسم على ملامحنا وتميزنا عن بقية الخلق.
صدمتى الكبرى أن التحرش وصل إلى كلية الحقوق.. مهزلة ما بعدها مهزلة.. هؤلاء المتحرشون سوف يتخرج منهم قاض ووكيل نيابة ومحام.. يعنى قل على القانون والحقوق والبلد السلام.. وربما نلتق على خير بعد فاصل ألف عام أخرى!