منذ فترة، فوجئ الجميع بقرار بعض الدول منع استعمال مواد عدة منها البارابين، ثم كُشف عن لوائح أدوية تحتوي على هذه المادة، ما أدى إلى تجدد السؤال التقليدي: هل يمكن أن تتسبب الأدوية في الأمراض؟ البارابين عبارة عن مواد حافظة موجودة في آلاف مستحضرات التجميل والمنتجات الغذائية (الحلوى، المشروبات الغنية بالسكر، الكريما، الألبان، المربى...) وفي مئات الأدوية أيضاً. تمنع هذه المواد نمو الفطريات والجراثيم التي تضر بصحة الإنسان. كذلك، نجدها في الشامبو ومعجون الأسنان والكريمات المرطّبة (لا سيما تلك التي تستهدف البشرة الحساسة) والمستحضرات التي تُستعمل بعد الحلاقة أو إزالة الشعر. لكنّ الأخطر من ذلك هو أننا نجدها في أدوية السعال وقطرات الأنف والأذن والتحاميل... باختصار، تشكل هذه المواد جزءاً من البيئة المحيطة بنا. لكن تكمن المشكلة في واقع أن بعض الجهات يعتبر هذه المواد مضرة بالصحة. ما حقيقة هذه الادعاءات؟ ما هي الأضرار المزعومة؟ صحيح أن قطاع الصناعة الكيماوية هو الذي ينتج مواد البارابين، لكنها في الأصل عناصر «طبيعية» موجودة بكميات ضئيلة في بعض أنواع الفاكهة. يعتبر البعض أن هذه المواد تؤدي إلى اضطراب عمل الغدد الصماء. بما أن تركيبتها مشابهة لتركيبة هرمون استراديول، يمكن أن تعطي مفعولاً مشابهاً له في الجسم. يطرح هذا المفعول تهديدين خطيرين على الصحة: قد يؤدي إلى ظهور أنواع سرطان متعلقة بنشاط الهرمونات (سرطان الثدي والبروستات والخصية)، ويمكن أن يؤثر أيضاً على نمو الأعضاء الجنسية والخصوبة لدى الرجال. هل البارابين خطيرة بقدر ما يدعي البعض؟ ربط أحد العلماء البارابين بظهور سرطان الثدي بعد رصد آثار لها في 18 ورماً من أصل عشرين. لكن أثارت هذه الدراسة جدلاً كبيراً لأن وجود هذه المادة في الورم لا يثبت مسؤوليتها. فقد نجد آثاراً مماثلة في الخلايا السليمة أيضاً. توصلت أبحاث أخرى إلى نتائج مغايرة، لذا لم يثبت دور البارابين في إصابات السرطان، على عكس ادعاءات بعض الجهات العلمية التي اعتبرت أن هذه المواد سرطانية وسامّة وتؤثر على القدرة الإنجابية. يؤكد بعض العلماء على أن الإصابة بالسرطان بسبب مواد البارابين وحدها احتمال ضئيل، إلا في حال استهلاك كمية هائلة منها بشكل عرضي. ما علاقتها بخصوبة الرجال؟ يُشتبه بأن البارابين تؤثر على عمل الغدد الصماء. ومن المعروف أن هذا المفعول قد يكون مسؤولاً عن تشوهات جينية متزايدة يتم رصدها لدى الصبيان الصغار، وعن قدوم مرحلة البلوغ لدى الفتيات في مرحلة مبكرة، فضلاً عن تراجع عدد الحيوانات المنوية ونوعيتها. لكن لا ينطبق ذلك على جميع أنواع البارابين. بل تكون الأنواع المؤلفة من «سلسلة طويلة» الأكثر خطورة. أُجريت تجارب على الحيوانات ولاحظ العلماء أن آثار بعض أنواع البارابين انعكست على الخصوبة مع أن الجرعة المستهلكة لم تكن كبيرة وقد يستهلكها الفرد بسهولة. لكن في ما يتعلق بأنواع أخرى، لا بد من استهلاك جرعات أكبر بكثير لتعطي الأثر نفسه. على رغم هذه الاستنتاجات كلها، لا تزال النتائج النهائية متناقضة. لذا أطلقت منظمة فرنسية دراسة جديدة شملت تجارب على فئران استهلكت مادة البارابين الموجودة في معظم الأدوية. لم تصدر بعد أي نتائج نهائية، لكن وفق المعطيات الأولية يميل معظم العلماء إلى طمأنة الرأي العام: يبدو أن أثر البارابين السلبي ضئيل لأن الجسم يتخلص من هذه المواد سريعاً، والجرعات اليومية الموصى بها هي أقل بكثير من تلك التي سببت أضراراً صحية عند الفئران. ما خطورة اختلاط مختلف أنواعها في الجسم؟ بحسب الاختصاصيين، تكمن المشكلة الفعلية في واقع أن دراسة مفعول البارابين يجب ألا ترتكز حصراً على مقارنة النتائج بحجم الجرعة المستهلكة. قد يؤدي استهلاك جرعات ضئيلة من المواد التي تثير اضطراب الغدد الصماء إلى انعكاسات أكبر من تلك الناجمة عن استهلاك جرعات كبيرة. تستمر التجارب التي تدرس كل مادة بمعزل عن المواد الأخرى مع أن الجسم يتأثر بالمفعول الناجم عن خليط آلاف المنتجات المستهلكة. لم يتوصل الباحثون بعد إلى تقييم انعكاسات مجموع هذه الكميات الصغيرة والمتراكمة على الصحة. يعترف الخبراء بأن هذه المسألة تثير القلق فعلاً، تحديداً عند الأطفال وفي فترة ما قبل الإنجاب. كشفت دراسة أميركية عن وجود آثار للبارابين ومواد مشبوهة أخرى في دم جميع النساء الحوامل بلا استثناء. هل يمكن التخلي عنها نهائياً؟ صحيح أن أضرار المواد الحافظة والبارابين ليست مثبتة بعد، لكن لا بد من الوقاية لتجنب أي آثار ضارة. هل الأمر بهذه السهولة؟ لا مفر من وجود المواد الحافظة في بعض الأدوية، إذ من المعروف أن الاستغناء عن هذه المواد في المحاليل السائلة وعلب الأدوية قد يؤدي إلى فساد المنتج وتراجع فاعليته ولا ننسى احتمال الإصابة بعدوى جرثومية. نجح بعض مستحضرات التجميل في الاستغناء عن هذه المواد. لكن لا يمكن تطبيق ذلك في جميع المنتجات لأن المرهم الذي يُستعمل لمعالجة جروح البشرة مثلاً يجب أن يتمتع بمستوى أعلى من الأمان. فضلاً عن أن المستحضرات التي تخلو من البارابين تلجأ غالباً إلى مركبات لها سلبيات أخرى مثل إثارة الحساسية. هل يمكن استبدالها؟ استُعملت مادة البارابين في الأصل للحلول مكان السكر والمواد الكحولية لتجنب تسوس الأسنان والآثار السامة الأخرى. لا تسارع المختبرات إلى إيجاد بديل عن البارابين لأن هذه العملية ستجبرها على إعادة النظر بتركيبات منتجاتها والمرور بإجراءات التراخيص الطبية مجدداً. حتى الآن، لم يبرز أي بديل يتّسم بالفاعلية نفسها وتتراجع فيه نسبة تركّز المواد وخضعت مخاطره لتقييم شامل. يمكن تقصير صلاحية بعض المنتجات أو حفظها في مكان بارد. أو يقضي حل آخر باللجوء إلى الجرعات التي تُستعمل مرة واحدة ولا تستلزم أي مواد حافظة. لكن لا يمكن تطبيق هذه الحلول على جميع الأدوية. ما الحل؟ يُفترض أن تحث هذه المخاوف على تعزيز الأبحاث في هذا المجال نظراً إلى ضرورة تقليص العوامل التي تثير اضطرابات صحية. إنه أمر ضروري أيضاً لحماية الأطفال والنساء الحوامل من أي خطر محتمل. لكن ثمة مواد يكون مفعولها أقوى من البارابين مثل البيسفينول أ. إذا كانت هذه المواد موجودة بكميات صغيرة في الأدوية، ماذا عن تواجدها بوفرة في المنتجات الغذائية اليومية؟ وفق أحدث الدراسات، يمكن أن يستهلك الطفل 37 مادة مشبوهة يومياً من غذائه فقط. بالتالي، لا نفع من التخلي عن دواء فاعل لمجرد احتوائه على مادة البارابين واستبداله بتركيبات غير موثوقة. بانتظار ظهور حلول بديلة وفاعلة، يمكن اختيار منتجات تخلو من البارابين عند الإمكان. لكن يمكن الحد من التعرض لأضرار هذه المواد عبر تجنب استهلاك المأكولات في الأطباق البلاستيكية واختيار الأغذية والمستحضرات العضوية.