لم يتذكر نائب المتحدث الرسمى باسم البيت الأبيض جوش إرنست أن كنائس أحرقت وأديرة دمرت وفتنة طائفية انتشرت على أيدى جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، تذكر فقط أن الجيش المصرى لم يحترم حقوق المواطنين فى التظاهر السلمى، وكأن أمريكا تشاهد ما ترغب فى مشاهدته، فقط، ما يخدم مواقفها وأنصارها، وكأنها طرف فى الصراع السياسى الداخلى. كان مؤتمر المتحدث باسم البيت الأبيض، عصر الأربعاء، دليلا على استسلام الإخوان للأمريكان، واستماتة الأمريكان فى الدفاع عن الجماعة التى انبطحت أمام الإدارة الأمريكية، المصالح المشتركة وخنوع الجماعة دفع راعيها الرسمى للتهديد بقطع المعونة واتخاذ مواقف متشددة من النظام الجديد فى مصر، والحديث عن فقدان النظام الشرعية بعد فض اعتصامات الإخوان.
الغريب أن أمريكا صمتت طوال الأسبوع الأخير الذى شهد تنامى العنف والفتن الطائفية، ومطاردة الأقباط وحرق كنائسهم ومنازلهم على أيدى رجال الجماعة وأنصارها، والأغرب أن نفس اليوم الذى عقد فيه مؤتمر «البيت الابيض» بدأ بحرق 4 كنائس فى مناطق مختلفة، وحرق 8 كنائس ومدارس ومراكز خدمات ملحقة بدور العبادة المسيحية فى عدد من المحافظات، كل ذلك عقابا من الإخوان للأقباط على تأييدهم للموجة الثانية من ثورة 25 يناير، موجة 30 يونيو.
أمريكا التى اعتادت الضغط على أى نظام فى مصر باستخدام ملف اضطهاد الأقباط لم تتذكر اليوم أى حقوق للأقباط، الملف الأكثر تأثيرا فى العلاقات المصرية. الأمريكية طوال عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك لم يعد له تأثير، أصبحت المصالح أكبر بكثير من مجرد حقوق أقلية مصرية رغم اختلاف ديانتهم، مصالح تكشف زيف اهتمام الأمريكان بحقوق الأقليات الدينية، وأصبحت حقوق الإخوان أهم عند أمريكا من حقوق الأقباط.
لم يخل عهد الرئيس السابق محمد مرسى من انتهاكات واضطهاد للأقباط، لكن الموقف الأمريكى لم يكن بنفس الحدة فى مواجهة نظام مرسى، الذى حقق للأمريكان أكثر من توقعاتهم، فى ملف تأمين إسرائيل وترويض قطاع غزة والتمهيد لتصفية القضية الفلسطينية.
التناقض فى الموقف الأمريكى من جماعة الإخوان المسلمين التى تبنت موقفًا تحريضيًا ضد الأقباط لا يجد ما يبرره سوى حديث الصفقات المشبوهة، صفقات التنازل عن السيادة والمبادئ من أجل كسب ود سيدة العالم.
غرائب أمريكا والإخوان لم تنته، فالمنظمات القبطية فى أمريكا وأوروبا «أقباط المهجر» أصبح صوتها اكثر خفوتا، وكأن قضيتهم انتهت، وقضيتهم هى رضا أمريكا وتحقيق مصالحها، وليس تحقيق أمن الأقباط وضمان حقوقهم.
لم يدرك الأمريكان طبيعة الشعب المصرى، تخاذلهم وتراجعهم عن مواقف ظن البعض أنها مثالية، دفع اصواتًا عاقلة لتصف ما يحدث بشكل مختلف، كمال زاخر وصف هجوم الإخوان على الكنائس بأنه ثمن يدفعه الأقباط بعد زوال حلم الإخوان، والبابا تواضروس دعا الأقباط إلى عدم الرد على الهجوم على الكنائس لتفويت الفرصة على الإخوان لجر البلاد إلى مزيد من العنف يبرر التدخل الخارجى فى مصر، الأنبا رافائيل سكرتير المجمع المقدس قال إنه لو كان ثمن استرداد مصر من أعدائها حرق الكنائس وقتل الأقباط لن نتأخر فى سبيل البلاد.
الرسالة الأكثر تعبيرا عن وعى الشعب المصرى هى النداء الذى انتشر على صفحات النشطاء الأقباط على موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك، يقول: «المسيحيون يطلقون نداء: أخى المسلم لا تنزل وتعرض نفسك للخطر لحماية الكنائس.. الكنائس ستعوض ولكن انت لن تعوض.. عايز اقولك انى بحبك»، ودعوات أخرى من أقباط للمسلمين بعدم حماية الكنائس قائلين «اذا هدمت الكنائس سنصلى فى المساجد».
كل هذه الرسائل من القيادات والنشطاء الأقباط لم تردع أمريكا، ولم تدفعها لمراجعة حساباتها، وهو ما دفع بعض نشطاء الأقباط فى الصعيد إلى اتهام أمريكا نفسها بالوقوف وراء حرق الكنائس والاعتداء على الأقباط لخلق مبرر لها للتدخل فى شئون مصر.
بالطبع لم تكن أمريكا تنتظر أن تخسر تعاطف الأقباط، بعضهم اغراه الشعور بالضعف فى بعض المراحل إلى التعلق بأمريكا، حتى اكتشفوا مؤخرا أنها قشة لا تنقذ غريقًا ولكنها قشة تقصم ظهر وطن.
الصوت الوحيد الذى جاء من الغرب كان على لسان «أقباط السويد» والتى اتهمت فى بيان لها أمريكا وأوروبا بأنهم يدعمون من يحرق الكنائس وهم جماعة الإخوان المسلمين.وجدت أمريكا الآن فى الإخوان بديلاً أكثر فاعلية من الأقباط يبرر تدخلها فى الشأن المصرى، بديلاً أكثر قدرة على الحشد وتضليل الجماهير، بديلاً يدعى أنه هو الإسلام، بديلاً يكتسب شعبية وأرضية جماهيرية من خلال احراق الذريعة الامريكية القديمة وهم الأقباط، بديلاً اكثر طواعية واستكانة، بديلاً بقاؤه مرهون فقط بتحالفه مع الأمريكان، لكن أمريكا التى تحرق الأقباط الآن لن تتردد فى حرق الإخوان فى اقرب فرصة، مصالحها هى بوصلة تحالفاتها.
عرفت أمريكا أن عمر حليفها قصير جد، لذلك بدأت فى استنزافه حتى قبل وصوله إلى السلطة، وراهنت على ضعف حليفها حتى يستمر تحت الطلب، ورفضت منحه قرض صندوق النقد الدولى، لتعجل بسقوطه أملا فى أن يكون فى أطلال الحليف مبرر قوى لتدخل اكبر، أو تنازلات اكبر، لكنها اكتشفت أن الموجة الثانية من ثورة يناير قدمت شعار الكرامة والسيادة على لقمة العيش والحرية.