الحنين إلى جذور الحضارة التكنولوجية والثقافية التى نحياها الآن، هو السمة الغالبة للأفلام التى رشحت وفازت بجوائز الأوسكار الأخيرة. من «الفنان» المصور بالأبيض والأسود والمصنوع وفقاً لأسلوب وشكل الأفلام فى عشرينيات القرن الماضي، إلى «هيوجو» الذى يدور فى باريس فى العشرينيات ويعود فى جزء منه إلى بداية اختراع السينما عام 1895، إلى «منتصف الليل فى باريس» الذى يبدأ فى باريس المعاصرة ويرجع فى الزمن إلى العشرينيات أيضا... ولا تنسى أن «الفنان» هو فيلم فرنسى قبل أن يكون أمريكيا بحكم جنسية مخرجه ومؤلفه «ميشيل هازانافسيوس» وكذلك ممثلوه الأساسيون. كنت قد لاحظت فى العدد السابق أن اثنين على الأقل من أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان «برلين»، يعودان فى الزمن إلى أواخر القرن الثامن عشر ليتقصا ظروف ومقدمات الثورات الأوروبية التى غيَّرت العالم فى فرنسا وبعض البلاد الأخرى، هذه الثورات الصناعية والفكرية والسياسية التى لانزال نعيش فى ظلها إلى الآن... ولعل البشرية تعود إلى طفولتها بهذا الحنين كما يفعل كبار السن حين يقتربون من النهاية، أو لعل مقدمات الثورة الجديدة وإشراف العالم على ميلاد جديد قد أحيا هذا الحنين إلى البدايات. الحنين هو أيضا أحد أعراض التقدم التكنولوجى، وهو رد فعل على الخوف من فقدان الذات والحاضر، تحت وطأة التغيير السريع والشامل الذى تحدثه التكنولوجيا... والحنين الذى تحمله الأفلام الثلاثة سابقة الذكر، قد يكون له علاقة بموت السينما كما عرفناها على مدار أكثر من قرن مع التطور السريع والمذهل فى الوسائط الرقمية، لدرجة أنه يتوقع خلال سنوات معدودة أن تختفى الكاميرات، وآلات العرض القديمة لتحل محلها وسائط رقمية، أخف وزناً وأكثر دقة بكثير. لا سبب آخر فى اعتقادى يبرر فوز فيلم «الفنان» بكل هذه الجوائز فى الأوسكار والجولدن جلوب والبافتا وغيرها... هو فيلم مسل ومصنوع بأسلوب بسيط ومباشر لكنه أشبه بعمل مقلدى لوحات المشاهير الذين تجدهم بالقرب من المتاحف وبعضهم لديه قدرة مذهلة على تقليد لوحات أكبر الفنانين. «الفنان» أشبه باللوحة المقلدة التى تخلو من أى إبداع فردى أو رؤية خاصة للعالم ولست أفهم الأسباب التى تجعل المرء يفضل هذا الفيلم على تحفة تيرانس مالك «شجرة الحياة»، وهو قصيدة فلسفية فى معنى الحياة والموت يقل أن تجود السينما بمثلها إلا على يد مبدع مثل مالك، ولو كان الحنين الذى ذكرته هو ما يحرك المشاعر والعقول فلا أفهم كيف تذهب الجائزتان الكبيرتان للإخراج والإنتاج إلى «الفنان» بدلا من «هيوجو» مارتن سكورسيزى الذى يحمل نفس الحنين وأكثر إلى العشرينيات والسينما الصامتة ولكنه يحمل من الابتكار والإبداع الشخصى أضعاف ما يحمله «الفنان». وعودة على مهرجان «برلين» فقد عرض ضمن مسابقته الرسمية فيلماً برتغالياً اسمه «تابو» للمخرج ميجيل جوميز بالأبيض والأسود أيضا ويعود فى الزمن إلى العشرينيات أيضا، ولكن المقارنة بينه وبين فيلم «الفنان» لا تأتى أبدا فى صالح الأخير الذى يبدو ضحلا وطفوليا أمام خيال وتركيب ونضج «تابو». على أي حال فإن الخلاف بين «الذوق الرفيع» لأغلبية المثقفين و«الذوق الكلاسيكي» لأغلبية العاملين بالصناعة لا يقتصر على الأوسكار، وحتى لجنة تحكيم «برلين» التى ضمت عددا من كبار السينمائيين فى العالم تجاهلت «تابو» باستثناء جائزة أفضل ابتكار فني، فى حين اختارته لجنة النقاد الدولية التى كنت أحد أعضائها كأفضل فيلم، وكتب بعض النقاد لائما لجنة التحكيم الرسمية وأحدهم اتهمها بنقص الخيال لأنها تجاهلت «تابو». لعل هذا هو السبب الأساسى الذى دفع مبدعاً مثل وودى آلان – 77 عاما- إلى الانتقال بشخصه وأعماله إلى باريس منذ نحو عشر سنوات، وبالتحديد منذ أن أنجز فيلما عن مخرج أمريكى يصنع فيلما يفشل فشلا ذريعا فى أمريكا بينما يحتفى به الفرنسيون ويعتبرونه تحفة فنية... وهو أمر حدث فعلياً مع آلان وعشرات غيره من الفنانين المجددين فى العالم، وهذا أيضا هو موضوع فيلمه الأخير «منتصف الليل فى باريس» الذى حصل على أوسكار أفضل سيناريو مكتوب مباشرة للسينما، وهو فيلم رغم بساطته الإنتاجية مقارنة ب«هيوجو» وبساطة فكرته وتقليديتها إلا أن خفة دم آلان وفكاهاته «المثقفة» التى تحول الثقافة نفسها إلى مادة للسخرية تعطى فيلمه ذلك الطابع الفنى الفريد الذى تتميز به أفلامه. فوز وودى آلان بجائزة السيناريو قد يكون مفاجأة حتى بالنسبة له، ولعل ذلك سبب تغيبه عن حضور حفل الأوسكار، أو ربما لأنه يعتقد – وفقاً لتصريحات موزع فيلمه وأحد المقربين منه- أن الفيلم الوحيد الذى يستحق الجوائز هذا العام هو الفيلم الإيرانى «انفصال»! المدهش أن «انفصال» تم ترشيحه لجائزة أفضل سيناريو بجانب ترشيحه لأوسكار أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية – وفقاً للاسم الجديد للجائزة، ولعل المفاجأة الأجمل هذا العام هى فوز فيلم إيرانى بأوسكار أفضل فيلم أجنبى لأول مرة فى التاريخ، خاصة أنه كان يتنافس على الجائزة بجانب فيلم إسرائيلى هو «ملحوظة». من الطريف أن إيران لم تتورع عن المشاركة فى السباق على الأوسكار رغم وجود فيلم إسرائيلى وفازت بالجائزة فى الوقت الذى اكتفت فيه قنوات الخليج ومصر بحذف اسم إسرائيل من حفل الجوائز، ومن سخرية الأقدار والأبقار أن الحفل الذى أذاعته قناة «فوكس» العربية التابعة للوليد بن طلال أذاعت الحفل على الهواء كاملاً، وفى اليوم التالى أعادت بث الحفل محذوفاً منه القبلات واسم إسرائيل!! أعود إلى فيلم «انفصال» والذى كان يستحق جائزة السيناريو بجانب أفضل فيلم أجنبى اللغة... حتى وودى آلان الفائز بالجائزة يعتقد ذلك! - وهو واحد من أفضل وأذكى الأفلام التى شاهدتها منذ سنوات، وجدير بالذكر أن الفيلم كان قد فاز بالجائزة الذهبية فى مهرجان برلين 2011، كما شارك مخرجه أصغار فارهادى فى لجنة تحكيم هذا العام. «انفصال» يبدأ بزوجين إيرانيين ينتميان للطبقة الوسطى يقرران الطلاق، ثم يتفرع فيما يبدو أنه سيكون متابعة لتأثير الانفصال على حياة الزوجين، ومن ثم ينتقل إلى ما يشبه التحقيق البوليسى فى واقعة اعتداء الزوج على الخادمة الحبلى مما يسفر عن إجهاضها، فيما يتبين بعدها أن كل ما سبق مقدمات لتأمل معنى الأخلاق والشرف والعلاقات الاجتماعية المعقدة بين الرجل والمرأة والأغنياء والفقراء فى مجتمع بطريركى تهيمن فيه على الجميع صورة الأب العجوز المشلول والمصاب بالزهايمر، والتى تمثل فى استعارة سينمائية بليغة صورة نظام رجعى تجاوزه الزمن يحول كل أفراده إلى ضحايا قوانينه ووجوده الميت الحى! يعلو «انفصال» فوق الطرح الدرامى التقليدى وميلودراما الأخيار والأشرار، كما يعلو فوق النقد الاجتماعى المباشر، ويصل إلى فضاء التأمل الصوفى، كما نراه فى أعمال نجيب محفوظ الاجتماعية مثل «بداية ونهاية» والثلاثية، ومن ناحية ثانية يشبه أعمالا مثل فيلم «تصادم» الذى فاز بأوسكار أفضل فيلم منذ عدة سنوات، والذى يحلل فيه ظاهرة العنصرية وعداء الآخر فى الولاياتالمتحدة، والعالم... بنفس الطريقة يرسم «انفصال» لوحة بانورامية للإنسانية فى ظرفها التاريخى الحالى على مشارف نهاية الحقبة البطريركية التى استمرت نحو ثلاثة آلاف عام، وساد فيها الذكر الأبيض الثرى باسم النوع الجنسى والدين والوطن واللون والعرق، مع بداية حقبة جديدة تولد بصعوبة، تكون فيها للنساء والملونين والفقراء الغلبة والأغلبية. يرسم «انفصال» شخصياته الذكورية والنسائية بفرشاة مصور بارع، وبأقل التفاصيل الواقعية والرمزية التى تنتمى لسينما التعبير الهادئ المقتصد التى تخاطب العقل كما تخاطب المشاعر والضمير. «انفصال» فوق ذلك كله هو انتصار للإنسانية على أصوات طبول الحرب الجوفاء التى تدق بين الغرب والشرق وبين الشرق وبعضه وتكاد تصم الآذان! السنة الخامسة - العدد 344 - الاثنين - 03/05 /2012