مع اقتراب نهاية شهر سبتمبر فى كل عام، أتذكر 28سبتمبر 1970،.. فى ذلك اليوم كان قد انقضى على تجنيدى فى القوات المسلحة المصرية ما يقرب من ثلاثة أعوام (تحديدا: عامان وتسعة أشهر).. لولا ظروف النكسة لكنت قد تركت الجيش فى عام 1969بعد انتهاء مدة الخدمة الإجبارية وقدرها سنة واحدة لحاملى المؤهلات العليا، لكننى بدلا من ذلك نقلت إلى الخدمة الاحتياطية ثم استبقيت فى القوات المسلحة لأجل غير مسمى شأنى فى ذلك شأن الكثيرين من الزملاء الذين سبقونى أو لحقوا بى.. نصف مدة خدمتى تقريبا حتى تلك اللحظة التى أتكلم عنها، قضيتها على الضفة الغربية لقناة السويس مشاركا فى معارك حرب الاستنزاف التى أتمنى أن تتاح لى الفرصة لأروى بعض ذكرياتها.. وفى سبتمبر 1970تقرر أن أحضر فرقة للتوجيه المعنوى.. ومصطلح «فرقة» لمن لا يعرف اللغة العسكرية يقصد به فى سياقنا هذا، وفى سائر السياقات المماثلة، يقصد به: «البرنامج الدراسى والتدريبى المتعلق بمجال معين»،.. ولقد كانت الفرقة التى تقرر أن أحضرها تضم عددا من المجندين الذين ينتمون إلى مختلف الأسلحة، وأغلبهم مثلى ممن أنهوا مدة التجنيد الإجبارى وتقرر استبقاؤهم فى خدمة الاحتياط، وإن كان من بينهم أيضا من لم يكمل خدمته الإجبارية بعد، من بين هؤلاء التقيت زملاء من خريجى كلية الاقتصاد توثقت صلتى بهم سريعا وعلى رأسهم الصديق العزيز عبدالقادر شهيب، ومن بينهم أيضا مخلص قطب (السفير مخلص قطب فيما بعد)، ومحمد السيد عباس (السفير محمد عباس فيما بعد)، وكان من بين الدارسين فى تلك الفرقة عدد من المهتمين بالأدب والثقافة والفن أذكر منهم : عبدالعزيز مخيون الذى أصبح فيما بعد فنانا شهيرا، ومدكور ثابت الذى أصبح أستاذا فى المعهد العالى للسينما، ومحمد البشارى الذى لمع كممثل، ثم لا أدرى لماذا كف فجأة عن اللمعان، ومحمود عرفات الذى أصبح قصاصا وروائيا معروفا، وكامل الكفراوى الذى كان كاتبا وممثلا مسرحيا واعدا، لكنه هجر الفن وأصبح واحدا من رجال الأعمال فى عصر السادات.. كنا فى تلك الأيام من شهر سبتمبر نتابع ذلك الصدام الأليم الذى كان متوقعا حدوثه بين الجيش الأردنى والمقاومة الفلسطينية بعد أن تصاعدت قوة المقاومة وأصبحت تناطح الدولة وتهدد بإسقاط الملك حسين بن طلال ، وتابعنا أخبار المجازر التى ارتكبتها قوات البدو الموالية للملك ضد عناصر المقاومة والتى قدرتها بعض المصادر بعشرة آلاف وارتفعت بها مصادر أخرى إلى ضعف هذا الرقم، وتابعنا أخبار البحث عن ياسر عرفات الذى أصبح مهددا بين لحظة وأخرى بالسقوط فى قبضة القوات الموالية للملك المتفوقة عددا وعدة، ثم تابعنا تلك المبادرة التى بادر بها عبدالناصر ودعا فيها إلى عقد مؤتمر للقمة العربية لاحتواء الكارثة التى جعلت من شهر سبتمبر واحدا من الأشهر السوداء الكثيرة فى تاريخ الأمة العربية والتى استحق من أجلها وصف : «أيلول الأسود» عن جدارة، وتم عقد المؤتمر فى القاهرة بالفعل، حيث نجح فى عقد اتفاق بين الدولة الأردنية والمقاومة الفلسطينية يقضى بانسحاب الأخيرة من داخل المدن الأردنية إلى مناطق الأحراش فى جرش وعجلون، فى مقابل ألا يتعرض لهم الجيش الأردنى، وسافر وفد من الملوك والرؤساء العرب، ثم عادوا مصطحبين معهم الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات، وبدا أن مؤتمر القمة العربى قد نجح ولومؤقتا فى حقن الدماء العربية، بعدها توجه الملوك والرؤساء إلى بلادهم وقام عبدالناصر بتوديعهم فى المطار، ثم عاد إلى بيته منهكا حيث داهمته أزمة قلبية فارق على إثرها الحياة. يومها سألنى عبدالقادر شهيب عن مشاعرى إزاء رحيل عبدالناصر، قلت له إننى لست حزينا على رحيله قدر ما أنا حزين على أن أنور السادات هو الذى سوف يحكم مصر وهذه هى الكارثة الحقيقية!!، قلت له أيضا: أغلب ظنى أن فترة حكم السادات سوف تشهد انعطافة مخيفة فى المسار المصرى،..على المستوى الداخلى سوف تبدأ مرحلة من الفساد الذى لم تشهد له مصر من قبل مثيلا والذى يهون إزاءه كل ما رأيناه من الفساد، وعلى المستوى الخارجى سوف تبدأ مرحلة من الارتماء التام فى الأحضان الأمريكية.. فيما بعد ظل عبدالقادر شهيب على مدى سنوات يذكّرنى كلما عرضت مناسبة من المناسبات، وما أكثرها، بالحوار الذى دار بيننا غداة رحيل عبدالناصر فى 28سبتمبر 1970. [email protected]