مذيعة ترتدي بدلة واقية ضد الرصاص، تتحدث عن بطولات الجيش السوري وانتصاره وقدرته على القضاء على الإرهابيين في داريا بعد مجزرة ال300 قتيل. ويبدو واضحاً أنه ما من مستحيل لدى إنسانية النظام السوري، وإن كانت مجزرة داريا في ريف دمشق خلفت 300 قتيل ما بين أب وأم وابن وابنة، فإن النظام لم يفكر مرتين قبل أن يعطي توجيهاته بمتابعة إعلامه لبث مقابلات من المناطق والمدن المنكوبة كما هي حاله منذ أول أيام الثورة السورية. بعيداً عن مكان الجثث الشاهدة على همجية نظام بشار الأسد وقفت عربة تلفزيون “الدنيا” الخاص الموالي للرئيس السوري لعمل مقابلات مع الجنود المنتشرين في داريا، وبعيداً عن قلوب الثكالى والمفجوعات في داريا استعرض الجنود بطولاتهم في القضاء على “العصابات المسلحة” كما يسميهم النظام السوري وإعلامه. وقريباً من تلك الجثث أعلنت المذيعة أنها ستترك المشاهدين في جولة على صور الضحايا من الأطفال والنساء، في ذات الوقت الذي امتنعت فيه القنوات العربية والعالمية والمتخصصة بالأخبار عن بث تلك الصور نظراً لقسوتها. وتعلن المذيعة المتجولة بين الجثث، دون أن يستطيع المشاهد أن يقتنص ولو لحظة خوف أو تأثر، أنها ستقوم بالحديث مع واحدة من ضحايا الإرهاب والتي لا تزال على قيد الحياة، وتقوم بمقابلة امرأة ممددة على الأرض تنتظر التلفزيون، وتتحدث مع الكاميرا وكأن الوضع الطبيعي أن تكون مرمية في المقبرة، مستندة إلى شاهدة أحد القبور، على وشك الموت ورغم ذلك فإنها تتحدث مع التلفزيون بطلاقة، ولعلها واحدة من عجائب الإعلام السوري، التي تهين البشر والحجر. طفلة غابت عن الدنيا انتظر أطفال داريا مصيراً يشبه مصير أطفال الحولة، ولم يستطع أهلهم بث بعض الطمأنينة في قلوبهم، فالجميع يعرف (الأولاد والأهل) أن النظام الذي خرجوا ضده يرتكب ما لا يمكن لإنسان أن يتصوره، ويتفنن بالقتل، ولعل هذه الطفلة التي رفعت لافتة كتبت عليها “قتلوا الأطفال بالحولة، حمص مو كتير بعيدة عن داريا، يا رب تنصر الثورة قبل ما يجي دوري” اختصرت كل ما يمكن أن يقال. تلفزيون “الدنيا” والتلفزيون السوري الرسمي لم يريا هذه الطفلة ولا أعتقد أنهما سيريانها، لأن الجيش الذي يحمي وجود الإعلام السوري في داريا لن يترك لهذه الفتاة وقتاً من حياة لتتكلم، داعية ربها أن تبقى على قيد الحياة. سرت إشاعات بأن هذه الطفلة بالذات تم قتلها مع الأطفال في المجزرة، ولكن الله حماها ونجاها، ولعل الجميع يدعو في نفسه أن يطيل في عمرها إلى ما بعد انتصار الثورة. صوت هذه الطفلة ونظيراتها، ودموع هذا الرجل وتلك الأم، يقول إن داريا وقفت ضد النظام مع الأيام الأولى للثورة السورية وهي تدفع ثمن ذلك يومياً ولكنها لا تزال تنشد أغنيتها الأشهر “هي داريا هه هه”. يبدو الأمر بالنسبة لأي مراقب خارج سوريا عصياً عن التفسير، فمن الصعب أن يفهم كيف يمكن لناس أن تندفع للشوارع غير هيابة للموت الواقف والمرابط في كل مكان، ولتبقى تلك الجموع هاتفة بأيقونة ثورة السوريين… “يا الله مالنا غيرك يا الله”.