" نجيب محفوظ .. دعوة للصمود" هو عنوان الكتاب الصادر حديثا عن المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة الذكرى المئوية للأديب العالمي نجيب محفوظ وهو يمثل إطلالة علي بداية رحلة نجيب محفوظ الإبداعية وعلى فترات التوقف في تلك الرحلة وما نتج عن احتدام الصراع فيها من تعديلات وتحولات في المسار. يقول المؤلف حسين عيد : "إن البعض يظن أن رحلة نجيب محفوظ الأدبية كانت سهلة وميسرة تمضي في اتجاه هادئ وتندفع دائما إلي الأمام، لكن الحقيقة أن تلك الرحلة تعرضت للكثير من المحن والصعاب واجتاحتها جولات صراع عديدة بين قوى تحض على التوقف وإرادة صلبة عنيدة تصر علي الاستمرار في المسار الصحيح وذلك من خلال تأثره وتفاعله مع تيارات الذات الخاصة ومحيط الأسرة والمجتمع الخارجي الأكبر" .
يضيف: يدعونا كاتبنا الكبير نجيب محفوظ (1911- 2006) دائما للصمود تارة على مستوى رحلته الأدبية التي لم تكن أبدا سهلة ميسرة بما احتوته من توقفات نتج عنها تعديلات في المسار، بل لعلها تعتبر بما قدمته نموذجا فذا للصمود في وجه المحن وكيفية التغلب عليها كما تحض شخصيات قصصه ورواياته تارة أخرى على الانفتاح على الحياة والصمود أمام الأنواء والصبر على المآسي.
رحلة البدايات عند محفوظ
وفي الفصل الأول يرصد المؤلف رحلة البدايات عند نجيب محفوظ فقد بدأت رحلة محفوظ مع القراءة وهو في عمر العاشرة فأول قصة قرأها كانت بوليسية بعنوان "ابن جونسون" حيث فتحت القراءة أمام محفوظ، حيث يلعب الخيال دورا رئيسيا فإذا الشخصيات والأحداث تنداح أمامه حية متدفقة ثم بدأ يطور قراءاته للمنفلوطي ثم جاءت مرحلة اليقظة فأخذ يقرأ لطه حسين والعقاد وسلامة موسى وغيرهم ولم تقتصر قراءاته على الأدب المحلى والمترجم فقط، بل امتد إلى كتب الأدب العربي القديم مما كأنه له أثرا كبيرا بعد ذلك في اتجاهه للكتابة .
ثم يرصد المؤلف رحلة محفوظ مع الكتابة الذي بدأها محفوظ في الخامسة عشر من عمره، فعن تلك الفترة يقول محفوظ في احد حواراته "جاءت هذه البداية تلقائية فمن قراءة الروايات تولدت رغبة قوية عندي في كتابة مثل ما أقرأ من غير هدف بعد أن أصبحت قصاصا.
وفى الفصل الثاني يتناول المؤلف التوقفات في حياة نجيب محفوظ التي كانت سببا في تعديلات مسار نجيب محفوظ، فيذكر المؤلف أول توقف في حياة محفوظ كان أثناء المرحلة الثانوية فكان من المفروض بعد أن اكتشف محفوظ موهبته الأدبية منذ وقت مبكر أن يحسم اختياره ويتفرغ لكتابة القصة القصيرة والرواية، لكنه توقف فقد كان مهموما بالتخطيط لمستقبله وكان أمامه ثلاث اختيارات : احتراف كرة القدم التي كان موهوبا فيها ثم الالتحاق بكلية الطب أو الهندسة أو الحقوق، فاحتراف كرة القدم لم يصمد طويلا كاختيار للمستقبل فاتجه إلى الالتحاق بالطب أو الهندسة .
ويضيف المؤلف أن بزغ أمام محفوظ توجه جديد لم يكن في الحسبان وهو التحاقه بكلية الآداب قسم الفلسفة بعد بدأ يقرأ المقالات الفلسفية للعقاد وإسماعيل مظهر فيقول محفوظ عن ذلك " بدأت قراءاتي للفلسفة تتعمق تحركت في أعماقي الأسئلة الفلسفية ووجدت أن هذه هي همومي" فاصطدم هنا محفوظ بوالده الذي يريد التحاق محفوظ بكلية الحقوق لكن والده وافق في النهاية .
ثم يتناول المؤلف التوقف الثاني عند نجيب محفوظ وهو عندما انتهى نجيب محفوظ من دراسته الجامعية ثم أكمل دراساته في علم الفلسفة وشرع في الحصول على درجة الماجستير في الفلسفة، لكنه توقف عن ذلك حيث كان حنينه للأدب أقوى من الفلسفة فيقول محفوظ " بدأت أكتشف الميل إلى الكتابة الأدبية وهو ميل قديم كنت قد هجرته وبدأت أكتب القصص وأخذت أصارع نفسي في سبيل التخصص عشت في صراع اليم انتهي بانتصار الأدب الذي أيقنت أن قلمي لن يسير إلا في الأدب".
القصة القصيرة
أما التوقف الثالث في حياة نجيب محفوظ الأدبية، فيذكر المؤلف أن ذلك التوقف كان في عام 1947 ، حين توقف محفوظ عن كتابة القصة القصيرة لأنه لم يجد نفسه فيها وظل هذا التوقف حتى عام 1962 فرجع لكتابة القصة القصيرة بالمجموعة القصصية " دنيا الله " أما التوقف الرابع فكان لمحفوظ في فترة الثلاثينيات فيقول في أحد حواراته " كانت الوطنية المصرية متأججة في ذلك الوقت وكان هناك مد حقيقي للعصر الفرعوني لأنه كان العصر الوحيد المضيء في مقابل عصر المهانة الذي كنا نعيش فيه وقتها مهانة الاستعمار الانجليزي وسيطرة الأتراك معا " لذلك بدأ محفوظ يكتب روايات تاريخية من عصر الفراعنة فكتب " عبث الأقدار" و"راودبيس" و"كفاح طيبة" ، لكنه توقف عن ذلك المشروع بعد أن بدأ اتجاها اجتماعيا يتسلل ببطء إلى أعماله حتى سيطر في النهاية وأجبره على التوقف .
حادثة الإعتداء على محفوظ
ويرصد المؤلف التوقف الخامس في حياة نجيب محفوظ وهو الاعتداء الغاشم الذي تعرض له محفوظ عام 1994 حين طعنه شاب متعصب بمطواة في رقبته فأحدث جرحا غائرا وقد من الله عليه بالشفاء، لكن يده عجزت عن الكتابة فحدث توقف جديد عن الإبداع وبدأ إجراء علاج طبعي لها أملا أن تعود إلى حالتها الطبيعية حتى يستأنف نشاطه الإبداعي .
ويؤكد المؤلف أن ذلك التوقف اجبر نجيب محفوظ على الدخول إلى عالم بديل ربما يغنيه عن الواقع الخارجي وذلك في عالم متاح له وهو عالم الأحلام فبدأ يروض نفسه على أن يقبض على مادة الأحلام ويمسك بتفاصيلها وحدد لذلك مرحلتين :الأولى "عملية الكتابة" وتختص بتسجيل ما يتوارد علي ذهنه من أحلام وتشمل كل ما يراه والمرحلة الثانية هي "عملية التأليف" التي ترتبط فقط بالأحلام التي تتوافر فيها إمكانية أن تتحول إلى عمل أدبي .
فهكذا بدأ نجيب محفوظ يعاود الإبداع فكتب قصصا قصيرة جدا وبدأ ينشرها تحت عنوان "أحلام فترة النقاهة " وتدريجيا دب إليها تطور نوعي فبعد أن بدأت ذات طبيعة فلسفية تتحدث عن الحياة وتقوم علي الأفكار التأملية إذا بأحلامه تصبح أكثر ارتباطا بالواقع كما لو كانت متأثرة بالأحداث الجارية حتى لتبدو كأنها انعكاس مباشر للأحداث التي نعيشها وتجري من حولنا .
وفى الفصل الثالث يقدم المؤلف قراءة في بعض أعمال نجيب محفوظ فيبدأ بالمجموعة القصصية "التنظيم السري" الصادرة عام 1984 فيقول المؤلف اقترب نجيب محفوظ في هذه المجموعة القصصية كعادته من الإنسان محاولا تقديم رؤية شاملة لرحلته في الحياة الدنيا مستكشفا آفاق النفس البشرية من الداخل ثم متعرفا علي أبعاد الحياة الخارجية من حولنا منذ بداياتها الأولي وما تجيش به من تيارات مصطحبا إيانا في كل قصصه علي بساطه السحري بكل صدق وأصالة مجاهدا وهو يحاول فك طلاسم هذه العوالم وأن يستكنه خباياها ليضيء الطريق أمام القارئ .
وفى الفصل الرابع يقدم المؤلف قراءة في رواية "حضرة المحترم " الصادرة عام 1975 لنجيب محفوظ فيورد عنها أنها تمتلك عدة مستويات للتفسير فقد تقدم علي المستوي الواقعي عالم الوظيفة والموظفين بكل تفاصليه الصغيرة وذلك خلال رحلة بطل الرواية عثمان بيومي الذي تم تعينه بالدرجة الثامنة بإحدى الوزارات فبدأ رحلته من قاع الهيكل الوظيفي حتى وصل إلى قمته وهى درجة المدير العام .
وننتقل إلى رواية "يوم قتل الزعيم " الصادرة عام 1985 لنجيب محفوظ ويقول عنها المؤلف أنها رواية مركبة ذات مستويات متعددة قد يرى البعض فيها رواية صوتية تجري أحداثها عام 1981 لأنها قدمت فصولها الاثنين والعشرين بأصوات ثلاث شخصيات رئيسية وقد يري البعض أنها رواية تاريخية تجتهد في تحليل التيارات المختلفة التي جاشت بها فترة من أصعب فترات تاريخنا الحديث وقد يرى بعض آخر أنها محاكمة لعصر السادات بكل ما له وما عليه .