ربما لم يتابع الكثيرون دعوة أطلقها الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف المصري، مؤخرا وطالب فيها بوضع قناة "الجزيرة مباشر مصر" على قائمة المنظمات الراعية للإرهاب، معللاً ذلك بقوله: «نظرا لما تقوم به قناة الجزيرة من رعاية للجماعات المصنفة بأنها جماعات إرهابية، ولبث خطاب التحريض على العنف، وإهانة بعض المؤسسات المصرية العريقة، وآخرها مؤسسة القضاء المصري الشامخ». وهي دعوة تستحق المتابعة وأخذها على محمل الجد من جانب الجهات والدوائر الرسمية المعنية في مصر والدول العربية، كونها تتعامل مع أحد أبواق الفتنة ومنابع الشر ومصادر التحريض التي لا تهدأ. إذا حسنت النوايا من جانبي، فإنني اعتقد أن من ينتقد أو يهاجم هذه الدعوة لا يدرك طبيعة التحولات في دور الإعلام وخطورته في القرن الحادي والعشرين، أما من يردد مقولات تقليدية خشبية الطابع حول ضمان حرية الإعلام وحق التعبير وحق الجمهور في تداول المعلومات وغير ذلك من مفاهيم ومصطلحات وعبارات إنشائية براقة تجري المتاجرة بها وتسويقها في معظم الأحيان من أجل النفاذ إلى عصب المجتمعات والدول ونسف مقومات وركائز وجودها كدول ذات سيادة، فهو يتعامى أو يتغافل عن حقيقة الدور الذي تلعبه قنوات "الجزيرة" في تفكيك المجتمع المصري وضرب استقراره والعمل على استمرارية دائرة العنف والإرهاب الجهنمية من أجل الضغط على الدول المصرية وإفشالها حتى تخضع لاملاءات وشروط جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية. هل هناك من ينكر هذا التدخل السافر المتواصل لقناة "الجزيرة مباشر مصر" في الشأن المصري الداخلي، وهل هناك مصري وطني يقبل أن تعبث فضائية تابعة لدولة أجنبية بأمن بلاده وتواصل التحريض على العنف والإرهاب ليل نهار على يد من يمارسون جهاد الفنادق من أتباع ومؤيدي جماعة الإخوان الإرهابية في الدوحة؟ أعتقد أن الجزيرة تلعب أدوارا في غاية الخطورة بالنسبة للأمن القومي المصري، ويجب أن ندرك أن الإعلام بات هو صاحب الطلقة الأولى والأهم في حروب الجيل الرابع، حيث يلعب الإعلام الدور الأبرز، بحكم دوره في تشكيل الاتجاهات وغرس القناعات وحرث الأرض وتمهيدها أمام تنفيذ مشروعات استعمارية جديدة من دون استخدام الأدوات التقليدية للحروب كالجيوش بعتادها وطائراتها ومدافعها. إنها حروب قائمة على النظريات النفسية والتعبوية وسيكولوجيات الشائعات ونظريات علم النفس التي يتم تسخيرها إعلاميا في تحطيم القيم والثوابت وإرادات الشعوب... إنها لعبة الشطرنج الكبرى، كما أسماها مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في عهد كارتر زبيغنيو بريجنسكي، حيث يتم توظيف جميع البيادق من أجل تحقيق الأهداف بكل الطرق والوسائل والأدوات المتاحة، مع التركيز على آليات "القوة الناعمة" (القدرات الاقتصادية والإعلامية والثقافية للدول) التي باتت تحتل مكانة بارزة في التخطيط الاستراتيجي الأمريكي في السنوات الأخيرة بعد الخسائر الباهظة التي تكبدتها الخزانة الأمريكية في حربي العراق وأفغانستان، ما اضطرها إلى إعادة النظر في استراتيجيات ضمان المصالح الأمريكية مع التركيز على أفكار عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي، الذي يعتبر الأب الروحي لهذه النظرية منذ أن أطلقها في عام 1990، والقائمة على استخدام القوة الناعمة للدول والمجتمعات معتبرا إياها أفضل من القوة الخشنة أو الصلبة في تحقيق الأهداف وضمان المصالح وإخضاع الآخرين من دون أن تطلق رصاصة واحدة. مشروع الشرق الأوسط الكبير والشرق الوسط الجديد ثم الترويج الإعلامي الغربي لما يسمى بالنموذج التركي، كل هذه مشروعات تستهدف تقسيم أو إعادة هندسة المنطقة بما يتوافق مع التصورات الأمريكية للعلاقات الدولية وأنماط التحالفات الإقليمية لمواجهة صراعات القوى الدولية المحتملة في منطقة الشرق الأوسط. قطر تركت أذانها منذ منتصف التسعينيات للتخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي عن قناعة بأن من يمتلك نافذة مع إسرائيل قادر على فتح البوابة الأمريكية بيسر وسهولة، ومن هنا كان التخطيط لامتلاك قوة ناعمة قطرية مرادفة للقوة المالية وداعمة لها، وكان إنشاء قناة "الجزيرة" ورحب الغرب إدراكا منه أن قطر ستمول مشروعاته التوسعية المستقبلية في المنطقة من خلال هذه الأدوات الجديدة. وظلت الجزيرة تدعم بقوة دبلوماسية قطر القائمة على لعب دور المشاغب الإقليمي وتحطيم الثوابت الخاصة بالنفوذ الإقليمي للقوى التقليدية مثل مصر والسعودية، وهكذا لم يفطن أحد إلى خطورة دور الجزيرة الذي تدثر برداء وطني قومي وهمي، حتى حانت اللحظة وخلعت الجزيرة رداء القومية وارتمت في أحضان التيارات المتشددة والمتطرفة، ظنا منها بان المستقبل لهذه التيارات وأن المنطقة ستكتسي بعلمها الأسود، لتصبح قطر سيدة الشرق الأوسط الجديد!! هكذا حلم القصر الأميري في قطر بالمجد الزائف، وهكذا غابت عنه حقائق كثيرة منها التراكم الحضاري والتاريخي للشعوب، فمن السهل أن تخدع شعبا لأيام أو أشهر لكن من الصعب أن تغرقه في دوامة الخداع لفترة طويلة، والشعب المصري صاحب حضارة ضاربة في عمق التاريخ، ومن الصعب عليه أن يقبل الرضوخ لاملاءات قوى خارجية، وهو من حارب الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس في ذروة مجدها وعنفوان قوتها، وطرد الفرنسيين في حملتهم النابليونية الشهيرة، وتحطمت على أبوابه حملات التتار والصليبيين والمغول وغيرهم، فما بالنا بأحلام قطر التي لا ترقى إلى أن تمثل تحديا، ولو ضئيلا، للشعب المصري العريق!!. إذا كانت الجزيرة تستهدف بحق مصلحة الشعب المصري، فهل من المنطقي أن تترك للشعب المصري الحرية في اختيار من يحكمه أم تصادر عليه وتحاول أن تملي إرادة جماعة إرهابية متجاهلة إرادة أمة بأكملها لفظت هذه الجماعة وخرجت عليها بالملايين في الثلاثين من يونيو الماضي؟ أنا شخصيا، اعتقد أن دور الجزيرة في الترويج للإرهاب دور مرحب به في الغرب ومن جماعات ومنظمات دولية زائفة تدعي ليل نهار دفاعها عن حقوق الإنسان والحريات وغير ذلك، وبالتالي فلن نناشد هذه المنظمات أن تنتبه للخطاب الإعلامي التحريضي الدائم الذي تتبناه قنوات الجزيرة الإخبارية، ولكن على القوى الدولية أن تدرك من جانبها خطورة ماتفعله الجزيرة في الترويج للأعمال الإرهابية، فاحد أبرز عوامل انتشار الإرهاب واستمراره هو نجاحه في إحساس الجماعات المدبرة والمنفذة له بأن هدفها الخاص بالضغط على الدول والحكومات وإحراجها وتدمير اقتصاداتها قد تحقق، وهذا ماتفعله قنوات "الجزيرة" تماما عبر بث شرائط الفيديو لعملياتهم ونشر خطابهم الديني والسياسي الذي يبرر زيفا وبهتانا لهذه العمليات الإجرامية الآثمة. لا يختلف اثنان على أن وسائل الإعلام تظل دائما قوة فعالة في المواجهة بين الحكومات وجماعات الإرهاب المتأسلمة، ولكن التأثير في الرأي العام وتصوير هذا المسلك الإجرامي باعتباره عملا مشروعا هو الجنون والإجرام بعينه، بل هو داعم حقيقي للفعل الإرهابي نفسه. وبدلا من أن تستخدم وسائل الإعلام في محاصرة الإرهاب والإرهابيين تقوم بدور معاكس وتسهم في إفلات المجرمين من العقاب وتجلب لهم قدرا ولو ضئيلا من التعاطف وتضع الحكومات في دائرة الظلم والاتهام!! الإعلام هو الأوكسجين اللازم للإرهاب كما سبق أن قالت مارجريت تاتشر رئيس الوزراء البريطانية السابقة، والتغطيات الإعلامية التبريرية للإعمال الإرهابية هي الحصن الحصين للتنظيمات الإرهابية، ومن هنا يمكن فهم خطورة ماتفعله الجزيرة مباشر مصر ومن هنا أيضا يأتي دعمنا لدعوة وزير الأوقاف المصري بشان ضرورة التصدي لهذه القناة إقليميا ودوليا ومحاصرتها قانونيا واعتبارها منظمة داعمة للإرهاب.