لن ينسى كثير من المصريين مشهد ملايين الناس حين نزلوا ميادين التحرير منذ أكثر من عام، وكيف كان سلوكهم المبهر بدءًا من شكل الهتافات السياسية التي لم تسب أحدا (بالأب والأم حتى سابع جد كما يجرى الآن) حتى لو كان مبارك نفسه، وحافظ الشعب المصري برقي وتحضر على منشآته بسواعد أبنائه ودمائهم. والحقيقة أن تحضر ملايين المصريين أثناء الثورة جاء رغم أنهم عانوا الويلات من النظام السابق، فالأخير هو الذى قضى على أرواح المصريين في الطرق، وتحت البيوت التي تنهار على ساكنيها، وفي العبارة التي راح ضحيتها أكثر من ألف مواطن، وفي زنازين الأقسام والمعتقلات، هذا المواطن المصري الذي تحمل قهرًا واستعلاء امتد لأكثر من ثلاثين عامًا، عاد وثار على أوضاعه مقدمًا ملحمة جديدة حطمت الصورة النمطية التي راجت عنه لعقود من الزمان. لقد أسقط ثوار مصر "أكليشهات" كثيرة كرسها النظام السابق، وقدموا وجهًا حضاريًا عظيمًا عن هذا الشعب فكانوا متحضرين لأقصى درجة في كل مظاهراتهم المليونية بميدان التحرير، فلا حادثة تحرش واحدة ولا اعتداء واحدا تعرضت له الممتلكات العامة أو الخاصة في مقابل أنصار النظام السابق الذين واجهوه بالبلطجة والعنف. إن أى نظام سياسي في العالم قادر على أن يخرج الناس أفضل أو أسوأ ما فيهم، والحقيقة أن ثورة مصر أثبتت أصالة هذا الشعب، وكيف أنها أخرجت أفضل ما فيه من قيم محترمة، وعناد هائل من أجل انتزاع حريته، وقدمت "مصرى جديد" أسس شرعية جديدة لعصر المواطن لا الرعية، يعيد الأمل للمصريين الذين لم يعرفوا منذ حرب أكتوبر رسالة إيجابية واحدة من النظام الحاكم حتى لو كانت المهنية فى العمل أو الإنجاز السياسي والاقتصادي. إن أخلاق الميدان لم تكن أمرًا عابرًا في حياة المصريين، إنما كان أهم ما فيها أن الناس اختارت أن تحترم أنبل القيم حتى لو غابت الدولة والقانون، وبات أمرًا مؤلمًا أن يغطى بعض شوارع مصر الآن هذا الكم من الشتائم والسباب المسيء الذي يصيب الجميع وبصورة لا علاقة لها بالنقد المشروع لكل من أخطأ أو أجرم في إدارة المرحلة الانتقالية. لقد نجحت ثورة 25 يناير حين كان التحرير جاذبًا لكل التيارات السياسية وبقى فيه الأغنياء والفقراء، العمال والمهنيون، والسياسيون، وغير السياسيين، ولم يطرد سياسيًا ولا مصورًا ولا قناة لأنه كان عبارة عن بوتقة من النبل والتطهر أشعت على الجميع لا يجب النفخ في مسار يدعى أنه ثوري ويؤدي إلى تكريس حالة من الانفصال بين ما يقوله الثوار وأغلبية الناس فالمطلوب هو الاستماع لهؤلاء الناس والانصات لهمومهم وليس الاستعلاء عليهم واعتبار ما يشكون منه من توافه الأمور. إن الانطلاق من أن مستقبل مصر يحتاج لثوار حملوا أخلاق الميدان ولديهم رؤية سياسية للتعامل مع الواقع المعيش، هو وحده القادر على تغيير وجه مصر، لأنه إذا غاب هؤلاء فلن نجد أمامنا إلا قوى شديدة المحافظة (من الإسلاميين وغير الإسلاميين) ستعيد إنتاج النظام القديم مرة أخرى لأن القوى الثورية اختارت أن تعيش في عزلة عن الشارع، وأخرجت نفسها من معادلة المستقبل الذي لن يستقيم إلا بوجودها. نقلاً عن المصري اليوم