مثل كل الثورات العظيمة في التاريخ, لم تكن الثورة المصرية ثورة 25 يناير 2011, أبدا هدفا في ذاتها, وإلا لكانت مجرد انتفاضة أو عمل فوضوي.. وإنما كان لها هدفها الذي زأر به الملايين في كل ميادين التحرير في مصر بشكل واضح ومحدد في هتاف: الشعب يريد اسقاط النظام! أي إسقاط النظام الاستبدادي الفاسد الذي جثم علي صدورهم عقودا طويلة, ليستبدلوا به نظاما ديمقراطيا حقيقيا طال انتظارهم وتشوقهم إليه! إن كفاح الشعب المصري, طوال العقود الماضية, من أجل الديمقراطية, والذي توج بثورة25 يناير العظيمة سوف يكون موضوع عدة مقالات تالية إن شاء الله, ولكنني سوف أبدأ في هذا المقال- بالتذكير بالتحول العظيم الذي شهدته مصر منذ انتصار الثورة في فبراير الماضي حتي الآن من خلال عدد من الوقائع والمشاهد التي تجسد ذلك التحول, والتي تنطوي بالقطع علي دلالات عميقة لا يمكن تجاهلها أو التقليل منها, خاصة بالنسبة لأبناء جيلي الذين عايشوا عقودا من الاستبداد واللاديمقراطية! وأهمية تلك اللقطة المقارنة أنها تؤكد الطابع الثوري لما حدث في مصر من تغيرات طوال العام المنصرم, علي عكس بعض التقديرات أو التحليلات خاصة الخارجية التي تتردد في وصف ما جري في مصر بأنه ثورة! إن أولي نتائج الثورة, هي أن مصر أصبحت - وكما سبق أن ذكرت ذلك - لأول مرة بلا فرعون! بل في الحقيقة أيضا بلا ملك أو رئيس (ملهم أو مؤمن) أو حتي والي أو سلطان أو خديو! ويعني ذلك ثانيا- أن الشعب المصري قد أضحي لأول مرة في تاريخه الطويل ممسكا بزمام حكمه, ومتحكما في إرادته! ومن الآن فصاعدا فإن من يحكم مصر, سوف يأتي بإرادة الشعب المصري وباختياره الحر, وبالقطع لن يأتي بدعم أو توجيه خارجي! وهذا فقط- تحول ثوري خطير! فالنظام السابق علي ثورة يناير 2011 نظام يوليو 1952- قام عقب انقلاب عسكري! وصحيح أن جمال عبدالناصر كان زعيما شعبيا محبوبا, جسد الكرامة الوطنية, ووقف في وجه القوي الأجنبية الطامعة والمتربصة, إلا أنه لم يكن أبدا ديمقراطيا, ولم يدع أنه كذلك. ولذا, فإن أخطاء عهده تراكمت بلا كشف ولا تصحيح لينفضح هذا كله في هزيمة 1967 المهينة والتي ظلت مصر تدفع ثمنها سنوات طويلة بعدها, فضلا عن أنها أنهت حياة عبدالناصر مبكرا بعد ثلاث سنوات قضاها للاعداد لإزالة آثار الهزيمة! أما نظام ما قبل يوليو 1952 فكان نظاما ملكيا وراثيا في أسرة محمد علي, الغريبة عن مصر, والتي أمتد حكمها لما يقرب من مائة وخمسين عاما! اليوم لا ملك يورث الحكم, ولا زعيم ينتزع الحكم, وإنما فقط رئيس سوف ينتخبه الشعب, ويحدد صلاحياته, ومدة رئاسته وحدود سلطاته! ومصر اليوم أصبحت مبرأة من الأجهزة القمعية والبوليسية التي استشرت وتغلغلت في كل نواحي الحياة فيها, فالشرطة العادية كانت قد توحشت في مواجهة المواطن إلي حد كان معه دخول قسم الشرطة كابوسا يزعج أي فرد, فضلا عن الفقراء والبسطاء منهم! وجهاز أمن الدولة وصلت سطوته قبل ثورة يناير- إلي كل مكان وكل مؤسسة في مصر ليتحكم في أي شيء وكل شيء! اليوم يختلف المشهد تماما علي نحو درامي مثير, وهناك جهود حثيثة وجادة لإنجاز مهمة ليست سهلة الإطلاق, أي تغيير نظم وسلوكيات ترسخت عشرات السنين لتكون أجهزة الشرطة وأمنها مكرسة بحق لحماية المواطن والوطن! واليوم, بدأت مصر تتلمس طريقها لبناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية تختلف جذريا عن التراث السابق المشين! وعرفت مصر ذ- ملايين المصريين في استفتاء عام, وانتخابات تشريعية علي نحو لم يحدث أبدا طوال العقود الستة الماضية! ولم ينافس الطوابير الطويلة في استفتاء 19 مارس 2011 إلا الطوابير الأطول في انتخابات مجلس الشعب آواخر العام, وظهر مئات الألوف من المواطنين الذين يعترفون ويقرون بأنها المرة الأولي في حياتهم التي ذهبوا فيها إلي صناديق الانتخابات, لأنها ببساطة المرة الأولي التي شعروا فيها بصدق الانتخابات ونزاهتها. غير أن ما كان أبلغ في دلالته هو جلسة افتتاح مجلس الشعب التي أوحت بأن مصر تعرف اليوم وأيضا بعدما يقرب من ستة عقود- مجلسا نيابيا حقيقيا, أتي نوابه ( برغم سلبيات عديدة شابت العملية الانتخابية, علي الأقل باعتبارها التجربة الأولي!) من خلال انتخابات هي أيضا حقيقية وحرة! فما كان يحدث من قبل كان مجرد تمثيلية انتخابية يشارك الجميع في لعب أدوارها, متقمصين أدوارهم علي أحسن ما يكون الأداء المسرحي! ولكننا شاهدنا نوابا حقيقيين, وشاهدنا أيضا وياللعجب- أغلبية وأقلية, وقوي حاكمة وقوي معارضة! ولا يماثل اعتداد الحزب الفائز بنفسه, ونيته لتقديم سياساته وأفكاره, إلا تحفز وترقب قوي الأقلية ذ- تستعد للمراقبة والحساب العسير! وشاهدنا أيضا خطابا رصينا لرئيس مجلس الشعب المنتخب, كان برغم انتمائه للإخوان المسلمين ولحزب الحرية والعدالة- حريصا علي أن يكون حديثه موجها لنواب الشعب كله, أقلية وأغلبية, مما شكل بداية موفقة توحي بالأمل في ممارسة برلمانية حقيقية وجادة!, تنسينا ممارسات سابقة, لعب فيها رئيس مجلس الشعب للأسف الشديد- دورا ديكوريا مشينا, لسنوات طويلة, برغم خلفيته الجامعية والدستورية! ومصر الديمقراطية مصر ما بعد ثورة25 يناير- أخذت تعرف كما تعرف كل الديمقراطيات في العالم- اطلاقا لحريات التعبير( حرية الصحافة, وحريات التظاهر والاحتجاج والاعتصام والتجمع... إلخ) علي نحو يختلف جذريا عما ساد قبل الثورة! وشتان بين وضع كان أمن الدولة فيه يتربص بأي فرد أو مجموعة أفراد يمكن أن يتجمعوا هنا أو هناك( فضلا عن أن يتظاهروا أو يهتفوا!), بل ويسعي من المنبع!- لمنع ذلك التجمع بالحجز والاعتقال! وبين وضع يتظاهر فيه ويعتصم ويهتف الآلاف ومئات الألوف في الشوارع والميادين, بل ويحتلون أكبر وأهم الميادين في القاهرة وعواصم المحافظات. في هذا السياق العام, تبدو خطورة وفداحة الممارسات الوحشية المشينة التي صدرت من عناصر من القوات المسلحة إزاء المتظاهرين الذين خرجوا يعبرون عن آرائهم في عدة مناسبات في القاهرة- في مناطق ماسبيرو, ومحمد محمود, والتحرير, وقبالة مجلس الوزراء... إلخ, والتي سقط في العديد منها عشرات القتلي من الشهداء, فضلا عن مئات الضحايا. لقد أدت هذه الممارسات للأسف الشديد- إلي حدوث انقلاب درامي في الرأي العام تجاه القوات المسلحة من هتاف (الجيش والشعب أيد واحدة) إلي هتافات من نوع( الشعب يريد إسقاط المشير!). غير أن مصر الديمقراطية مصر ما بعد 25 يناير- لا تعرف حصانة لمؤسسة ضد المساءلة, ولا تعرف سموا لأحد فوق القانون. ولقد أعلنت القوات المسلحة اعتذارها عما حدث, وأعلنت أيضا عن محاسبة عناصرها التي أرتكبت جرائم بحق المتظاهرين والمحتجين( بدءا من الاحتجاز والضرب وكشف العذرية!.. وحتي التشوية والقتل!) هم رهن التحقيق والمساءلة! ولقد قدر لي مؤخرا( يوم السبت الماضي) أن التقي بالمشير حسين طنطاوي وزير الدفاع وأعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة, مع زملائي من أعضاء المجلس الاستشاري, فذكرنا باعتذار القوات المسلحة عما حدث من تجاوزات, وبالمحاسبة الجارية فيها مع المسئولين عنها, ولكنه أشار وله الحق- إلي تجاوزات وممارسات جرت أيضا إزاء أفراد من القوات المسلحة, وإلي الآثار المعنوية والنفسية السيئة علي أبنائنا وأخواتنا من أبناء القوات المسلحة الذين اضطروا لترك وحداتهم والنزول إلي ميادين مصر وشوارعها للحفاظ علي الامن فيها, الأمر الذي يدفع إلي أهمية عودة الجيش إلي ثكناته ومواقعه الأصلية بأسرع ما يمكن, غير أن الأهم هنا, هو أن ذلك الحديث من المشير طنطاوي, وذلك اللقاء, كان أيضا أحد ملامح مصر اليوم, مصر الديمقراطية! نقلاً عن الأهرام