تحت بند حق حرية التعبير والنشر والموضوعية والحيادية، تنتهج الصحافة المصرية الخاصة والرسمية خطا داعما ومساندا لجماعات وتنظيمات الاسلام السياسي، إذ لا يمكن اعتبار أخبارها وتقاريرها حول مجريات التحقيقات مع قيادات هذه الجماعات إلا دعوة للتعاطف والمساندة، فكونها مثلا تنشر أن الرئيس المعزول محمد مرسي رفض الإجابة على أسئلة النيابة مؤكدا أنه لا يزال الرئيس الشرعي للبلاد وأنه يملك الحصانة، أو تنشر رفض قيادات إخوانية وجهادية مثل محمد بديع وخيرت الشاطر وفريد إسماعيل وصفوت حجازي ومحمد البلتاجي وحازم أبو إسماعيل وغيرهم، المثول أمام النيابة وعندما امتثلوا لم يردوا على أي من تساؤلاتها لأنها غير دستورية وقانونية ولا يعترفون بها بل ويزيدون أن الذين من المفترض محاكمتهم هم قادة الانقلاب وحلفاؤهم من أبناء الشعب المصري. تنشر الصحف الرسمية والخاصة هذه التفاصيل الموجهة ضد الدولة وضد الشعب المصري وثورته، لتفتح الباب للشك والطعن في مصداقية ما جرى ويجري من قيام الإرادة الشعبية بعزل الحاكم الإخواني وتقويض نظامه بمساندة ودعم القوى المدنية والجيش المصري، وتظهر هؤلاء المجرمين باعتبارهم أصحاب الشرعية والمنتزع منهم الحق والمغلوبين على أمرهم والمطاردين بالقتل والسجن من قبل الجيش والشرطة. بل تتصدر هذه الصحف تصريحات هذه الجماعات التي تتبرأ فيها مما ارتكب ويرتكب من إرهاب منظم ضد الدولة والشعب، وتتهم الجيش والشرطة بارتكاب هذه الجرائم وإلصاقها ظلما وعدوانا بها، حتى أن قيادة جهادية سلفية خرجت لتقول إن من يتم القبض عليهم في سيناء من إرهابيين هم أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل فيما يجري من أعمال إهاربية في سيناء. ويزيد الطين بلة هذه الصور التي التقطت لهذه القيادات مثل محمد البلتاجي وسعد خيرت الشاطر، وهي ترفع إشارة الأصابع الأربعة في تحد واضح يحمل رسائل الإصرار، مما ينقل صورة للتابعين الأنصار من الأعضاء والكوادر والخلايا النائمة "أن امضوا في طريقكم الإرهابي فالنصر قادم" هذا النشر المتواصل والمتابع لكل كبيرة وصغيرة يأتيها إرهابيو الجماعة الإخوانية وأنصارهم والتي يتعمدون فيها إهانة النظام وإظهاره بمظهر المغتصب والمجرم، مدعين البراءة والسماحة والطيبة، يحدث ارتباكا وانقساما شديد الوطأة بين صفوف المصريين ويقدم أدلة للخلايا النائمة وعملاء هذه الجماعة الارهابية للوقيعة بين الجيش والشعب وتوسيع دائرة الشك والريبة في خارطة الطريق التي ارتضاها الشعب وصدق عليها، إذ ستخرج الخلايا النائمة والعملاء لتقول للناس انظروا إلى من يدعون أنهم إرهابيون، إنهم قياديون وطنيون يدافعون عن الشرعية والوطن والحق والإسلام، انظروا كيف يتصدون للرصاص والقمع والسجن غير خائفين ويعلنون بصدور مفتوحة أن ما جرى انقلابا عسكريا للاستيلاء على الشرعية، انظروا كيف ينفون الاتهامات التي تلفقها وتفبركها أجهزة الأمن الوطني والمخابرات التي اعتادت على ذلك. لا يدخل كل ما أشرنا إليه سابقا في باب السبق الصحفي أو الكشف عن معلومات جديدة، ولا أظن أن النوايا وراءه كلها سليمة أو شريفة، خاصة أن المؤسسات الصحفية الرسمية يسيطر عليها الجهل السياسي والأمية الثقافية والمعرفية وأكثر كوادرها التي تم تعيينها في السنوات العشر الأخيرة عينت بالوساطة والمجاملة والمصالح الخاصة، يضاف إلى ذلك تغلغل الخلايا النائمة تلك التي صعدها نظام الرئيس الاخواني المعزول وجماعته الإرهابية، وارتبطت بعلاقات وثيقة مع قيادات الجماعة سواء في الداخل أو الخارج، ينضم إليهم الذين يعملون كمراسلين أو كتابا في صحف دول متحالفة مع الجماعة. وهذا يطرح سؤالا مهما حول الأجندة الصحفية المصرية لهذه المرحلة وأولوياتها المحورية، والتي تتمثل في رأيي في ثلاثة مسارات، يرتكز الأول على تبني أفكار الإصلاح القائم على أجندة وطنية سواء كان هذا الإصلاح مرتبطاً بتجديد وتطوير الخطاب والفكر الدينيين بما يسمح بمحاربة والقضاء على الأفكار المتطرفة واجتثاثها من جذورها أو بتحقيق العدالة الاجتماعية وعودة الدولة إلى دورها في رعاية المواطن وحمايته ومن ثم قطع دابر الدولة البديلة التي كانت أقامتها تلك الجماعات بأموالها المشبوهة خلال فترة حكم الرئيس مبارك عبر الجمعيات الأهلية ودور الأيتام والمستوصفات والمراكز الطبية وغيرها. ويرتكز الثاني على إعطاء الأمل في دولة مستقبلية قوية من خلال إظهار الجهود التي يبذلها النظام القائم وحكومته لإعادة الدولة ومؤسساتها إلى الدور الذي غابت عنه طوال أكثر من ثلاثين عاما أثناء حكم الرئيس المخلوع مبارك. أما الثالث فيتمثل في التصدي لحملة الشائعات من قبيل عودة نظام مبارك ورجوع الدولة البوليسية ومحاربة الشريعة الإسلامية وعلمنة الدولة وسيطرة الأقباط على مقدرات الأمور وعودة حكم العسكر، وهي الشائعات يبثها ويتبناها أنصار الجماعة الإخوانية في المجتمع المصري في محاولة لتشتيت التوافق الوطني والمجتمعي الذي أثمرته ثورة 30 يونيو. يتطلب ذلك رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير يتمتعون بأفق معرفي وثقافي ناضج يستند إلى مرجعية مصرية خالصة تدرك كفاح هذا الشعب ومتطلباته وأهدافه التي خرج من أجلها من 25 يناير حتى 30 يونيو، ويملكون رؤية واضحة عن سياسات النظام بعد 30 يونيو داخليا وخارجيا، ويستطيعون تقديم وتبنى أفكار ليبرالية تدعم وتساند الأجندة الوطنية لأصحاب خارطة الطريق سواء كان الجيش أو الأزهر أو الكنيسة أو القوى المدنية والثورية. كما يجب ألا يكونوا منتمين لأي أحزاب سياسية أو جماعات وتنظيمات دينية أو رجال أعمال، بما يكفل لهم مساحات هائلة من الحرية ويبعدهم عن أي شبهة بالتأثر بأجندات داخلية أو خارجية. وأن يكونوا مدركين أنهم سيواجهون دائرة صغرى من أقلام متلونة وخبيثة تصطنع الوطنية، وهي في الحقيقة جزء من الدائرة الكبرى لمؤامرة إفشال المرحلة الانتقالية. متى توفرت فيهم هذه الأمور، سيمكنهم غربلة سيل الأخبار والتقارير الواردة لهم، والوقوف على المتآمر والمدسوس منها، وتقديم ما يعزز الاستقرار المجتمعي وتنقية أجوائه من التلوث الفكري والوجداني وإبطال مفعول خطابات التكفير والفتنة والقتل ومحاولات تشوية وحدة الشعب المصري. إن اختيار هذه القيادات في هذه المرحلة المهمة من تاريخ مصر لا يقل أهمية عن اختيار قادة الجيوش أو رؤساء الحكومات أو الوزراء، لذا فإن اختيارهم لو تم من خلال الوساطة أو سد الخانة أو المجاملة أو المواءمة، فإننا نفتح ثغرة هائلة لإسقاط إرادة الشعب المصري في 30 يونيو وإفشال كل محاولات النظام الحالي في إعادة الاستقرار والشروع في البناء، والبديل هو دخول البلاد في حرب أهلية طاحنة. الصحافة وما أدراكم ما الصحافة.