عند بداية القرن العشرين حدثت واقعة شهيرة بين فرنسا وبريطانيا العظمى بخصوص نهر النيل، فقد أرادت قوة فرنسية عسكرية محدودة بقيادة كولونيل أن تتقدم من غينيا نحو منابع النيل عند "فاشودة" فى المنطقة الاستوائية. وتواتر الحديث أن فرنسا التى تملك التكنولوجيا التى تمكنها من بناء السدود والسيطرة على الأنهار، تستهدف من هذا التحرك التحكم فى المياه الوارد لمصر وتقييد كمياتها بما يضر بمصالح بريطانيا العظمى فى زراعة القطن المصرى الذى تعتمد عليه صناعات النسيج الإنجليزية، فما كان من حكومة صاحبة الجلالة إلا أن وجهت إنذارا خشنا قالت فيه إن بريطانيا تقف على أهبة الاستعداد لشن الحرب ضد أى طرف تسول له نفسه العدوان على منابع النيل، أو المساس بالمصالح الإنجليزية والمصرية فى المياه فى تلك المنطقة. طبعا انتهت المحاولة الفرنسية فورا، وتم احترام الإنذار الإنجليزى بكل ما فيه، لكن الحكومة البريطانية لم تكتف بذلك، بل كافأت الحكومة الفرنسية بالوفاق الودى الذى أطلق بموجبه الإنجليز يد فرنسا فى سوريا ولبنان والمغرب والجزائر وتونس ومناطق واسعة فى وسط أفريقيا، ولم تحدث أية حروب بين الدولتين، فقد كانت تلك هى بريطانيا العظمى القوة العالمية التى لا تغيب الشمس عن أراضيها، إذ كان يكفى فى ذلك الوقت أن تقول شيئا ليحترم الجميع رغبتها، وفى نفس الوقت، لديها من القدرات ما يمكنها من مكافأة من يسمع كلامها. هذه الواقعة تكشف عن أن المطامع فى نهر النيل قديمة، وأقربها تلك الواقعة، وكذلك عن أن استخدام القوة أو التلويح باستخدامها لحماية النهر يحتاج إلى قوة عظمى حتى يدرك الكل أن التهديد جاد وأن من يسعى إلى إثارة المشاكل سيخسر كل شىء، اليوم لم تعد هناك مصالح لبريطانيا أو فرنسا أو الولاياتالمتحدة فى حوض نهر النيل، بل صارت المصالح تتعلق بالدول التى يمر بها النهر، وبما أن كل هذه الدول ليس منها قوة عظمى بما فى ذلك مصر، فليس هناك سوى التفاهم والحوار الدبلوماسى والضغوط السياسية المقبولة بين الدول كوسيلة للتوصل إلى اتفاق. إن مصر لم تفاجأ فى واقعة الشروع فى بناء إثيوبيا لسد النهضة على النيل الأزرق، أو حتى لمجموعة سدود، فالخطط فى هذه الشأن معروفة ومتواترة منذ أيام الإمبراطور هيلاسلاسى، لكن يبدو للأسف أننا لم نهتم بالمسألة كما يجب، فى واقعة يمكن وصفها بالإهمال الجسيم الذى يتسبب فى كارثة، تماما مثل الإهمال الذى ألحق بمصر أسوأ هزيمة فى تاريخها الحديث فى يونيو 67، متى تنتهى وتيرة هذه الكوارث؟ متى يتوقف الإهمال الجسيم ونهتم بأمورنا كما يجب؟ نحب أن نلفت النظر إلى أن نهر الدانوب فى أوروبا الذى يمر عبر نحو 12 دولة ظلت هذه الدول لسنوات طويلة (أكثر من 20 سنة) تجرى مفاوضات فيما بينها حتى تم الاتفاق على معاهدة تنظم استفادة كل هذه الدول المطلة عليه من مياهه. ونلاحظ أنه فى الماضى القريب قبل الحرب العالمية الأولى كان يكفى لامبراطورية النمسا والمجر أن تكشف عن رغبتها لكى تحترمها كل هذه الدول ولا تقترب من النهر، أما بعد اختفاء القوى العظمى بما فيها امبراطورية النمسا والمجر فلم تعد هناك أسرة امبراطورية تباهى العالم بأنها صاحبة السيادة والامتياز على النهر، وخلدت ذلك فى معزوفة موسيقية شهيرة ليوهان شتراوس باسم "الدانوب الأزرق"، والمقصود بذلك أن الدانوب تسرى فيه دماء زرقاء ملكية وليس مجرد مياه من طمى وطين ومطر. نقول ولمن لا يعرف أن فى مجموعة دول حوض النيل وهى 10 دول، عددا من أكثر دول العالم فقرا، بتعريف الأممالمتحدة، وهذه الدول هى إريتريا وإثيوبيا وتنزانيا ورواندا وبوروندى، والمواطن فى هذه الدول جميعا لا يتمتع بمياه شرب نظيفة فى منزله، بل عليه كل يوم أن يسير لمسافات طويلة لكى يملأ الجراكن بالمياة النقية من صنابير عامة، وأكثر من 90% منهم ليس لديهم كهرباء فى البيوت، وهم إجمالا يعيشون فى اليوم على أقل من دولارين للمواطن، ويعانون من أمراض سوء التغذية والجوع، ويكاد يكون واحد من الإهتمامات الثابتة لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى المنظمات الخيرية العالمية من الدول الكبرى تنظيم حمالات إغاثة لإنقاذ الجياع من الموت فى هذه الدول. لذلك فإنه لا يمكن تصور أى سياسة رشيدة لمصر تجاه هذه الدول الشقيقة تقف ضد محاولاتها الصادقة للارتفاع بمستوى معيشة مواطنيها، وحمايتها من غائلة الجوع وسوء التغذية والمرض، فمن قال إن نهضة هذه البلاد وتقدمها وارتقاءها لابد أن يكون على حساب مصر، وكأننا نقول إنه لكى نبقى على ما هو عليه ولكى نترقى ونتحسن يجب أن يهبط هؤلاء المساكين عن سلم التقدم أكثر فأكثر، علينا أن نضع جيدا فى اعتبارنا أننا كما نلوم الدكتور مرسى على عدم وفائه بوعوده لإحداث نهضة فى مصر، فإن شعوب دول حوض النيل تفعل نفس الشىء مع حكامها، فهى تطالبهم بخدمة مصالحها. المؤسف أن لدينا فى مصر حاليا بعض الناس الذين تسيطر عليهم حالة من الحماقة وضيق الأفق منقطعة النظير، فهم يتخيلون أنه يمكن القيام بعمليات عسكرية ضد إثيوبيا لحسم مثل هذا الخلاف، وللرد على هؤلاء نقول: هل يمكن لمصر أن تشن عملية عسكرية ضد إثيوبيا على بعد آلاف الأميال؟ الإجابة لا.. لماذا؟ لأن هذه العملية ستكلف الاقتصاد المصرى ما لا يستطيعه، فالدول الكبرى بما فيها الولاياتالمتحدة لم تعد تستطيع أن تتحمل الأعباء الاقتصادية الباهظة للعمليات العسكرية إلا بشق الأنفس، وتقوم بحشد وترتيب تحالفات مع دول بترولية لديها فوائض مالية ضخمة حتى تخفف عنها العبء الاقتصادى للأعمال العسكرية. معنى ذلك أنه من الناحية الاقتصادية وبسبب الأوضاع الشديدة التدهور للاقتصاد المصرى فى هذه المرحلة، فإن القيام بأى عملية عسكرية هى مسألة غير واردة إطلاقا، ثم إن إثيوبيا منطقة جبلية وعرة، تشبه مناطق جبال اليمن التى عانت القوات المسلحة المصرية الأمرين خلال تدخلها هناك لصالح الجمهوريين فى ستينيات القرن الماضى، وبلغت تكاليف هذه العملية حدا أصاب الاقتصاد المصرى بضربة قاسمة، وأعباء هذه العملية مسئولة عن عدم إحداث التقدم الاقتصادى الذى كان مأمولا فى هذه المرحلة، ويكفى أن الحملة العسكرية فى اليمن كانت تكلف مصر حوالى مليونى دولار يوميا بأسعار ذلك الوقت. إلى جانب ذلك، كيف تستطيع القوات المصرية أن تنفذ عمليات قصف جوى وبرى وإمداد وتموين وإقامة مستشفيات واستعواض خسائر.. إلخ.. على مثل هذه المسافات البعيدة؟ وكيف يتم نقل القوات ويتم تأمين خطوط نقلها؟ لاحظ أن مثل هذه العملية ستضرب علاقة مصر بالشعب الإثيوبى فى الصميم، وسوف تنقلب كل شعوب القارة الأفريقية لتقف ضدنا فى منظمة الوحدة الأفريقية والأممالمتحدة وكل المنظمات الدولية الأخرى، والشعب الإثيوبى شئنا أم أبينا سوف تظل تربطنا به علاقة عبر النيل، فما الحجة التى يمكن بها تمرير مثل هذا العمل الأهوج إذا حدث؟ أضف إلى هذا أنه حتى الدول الكبرى كالولاياتالمتحدةوفرنسا وإنجلترا وروسيا والصين سوف تتخذ مواقف ضدنا فى مجلس الأمن وغيره من المؤسسات الدولية المهمة، لاحظ أنه حتى إسرائيل ستقف ضدنا بكل قوة لأن إثيوبيا مع إرتيريا هما الدولتان الوحيدتان غير العربيتين اللذان تطلان على البحر الأحمر، ولذلك فهى غير مستعدة لتعريض مصالحها فى هذا المجرى الملاحى الهام لأى خطر، وسوف يترتب على أى عمل عسكرى باتجاه إثيوبيا تعريض المصالح المصرية فى الملاحة عبر البحر الأحمر وقناة السويس لمخاطر مؤكدة، من أجل هذا فقد أحسن السيد وزير الرى فى تصريحه الخاص باستبعاد أى احتمال لقيام مصر بعمل عسكرى ضد إثيوبيا. الخوف الرئيسى أن يفتح باب التدخل العسكرى فى إثيوبيا المجال واسعا لتوريط الجيش المصرى فى جبال إثيوبيا فى مستنقع لا مخرج منه إلا بخسائر باهظة يتعرض خلالها لاستنفاد قدراته وطاقاته كما حدث لجيشينا السورى والعراقى، ومثل هذا المستنقع يفتح الباب واسعا لكل خصوم مصر وأعدائها لكى ينتقموا منها بشكل أو آخر.. ثم إن هذه الورطة إن حدثت ستستنفد أيضا كل قدرات المجتمع والاقتصاد المصرى بحيث يتم القضاء على ثورة يناير قبل أن يتحقق لها أى إنجاز على أرض الواقع، وبذلك تسير فى ركاب ثورة يوليو 52 التى سقطت فى يونيو 67. علينا إذن أن نبحث عن وسائل دبلوماسية وسياسية تستخدم حجج القانون الدولى والأممالمتحدة وكل الهيئات الدولية الممكنة للتوصل إلى حل تفاوضى، ولا نغفل فى ذلك الاستعانة بشخصيات مصرية لها مكانتها فى هذا المجال أبرزهم الدكتور بطرس بطرس غالى الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، الذى أنفق سنوات عديدة من حياته بين دول النيل، فله علاقات قوية جدا لا بدول حوض النيل فقط، ولكن بكل الحكومات الأفريقية. إن بناء سد النهضة فى كل الأحوال يدعونا لأن نفكر بشكل إيجابى بحيث نلجأ إلى الترشيد فى استخدام المياه فى الزراعة، بأن نتوقف عن استخدام أسلوب الرى بالغمر ونتحول إلى أسلوب الرى بالرش والرى بالتنقيط.. فهذا الأسلوب الأخير يوفر 50% من المياه المستخدمة فى الزراعة حاليا وبالتالى يمكن الاستفادة بها فى استصلاح الأراضى الصحراوية، إضافة إلى أنه يؤدى إلى تحسين جودة التربة. المزيد من أعمدة حازم عبدالرحمن