يشهد المجتمع المصري حاليًا حالة من حالات الفوضى والعبث السياسي التي تتمثل أهم مظاهرها في تباين وجهات النظر وتعددها، وتشبثكل طرف من الأطراف بوجهة نظره وتقديمه لأدلة وبراهين وإثباتات للتدليل على صحة موقفه. غير أن المعضلة هنا يمكن أن تتمثل في عدم إمكانية استماع كل طرف لحجج الطرف الآخر، والعمل على محاولة دحضها أو الاعتراف بصحتها ويتشبث كل طرف بأفكاره ومعتقداته. وتنتهي المحاورة بين الطرفين ويذهب كل طرف إلى حيث آتى، ويحاول استقطاب أكبر قدر من أفراد الشعب إلى فريقه. فتظهر الفرقة والخلافات والنزاعات بين الفريقين حول الأمر الواحد. ويتحول الاختلاف -الذي كان من المفترض أن يكون في وجهات النظر فقط- إلى خلاف بين الأشخاص الذي قد يصل لحد محاولة تخوين الآخر. وهكذا تسير الأوضاع في مصرنا الحبيبة في الآونة الأخيرة. ماذا حدث لنا؟ لماذا أصبحنا نسلك هكذا؟ الخوف كل الخوف أن يتحول ما يجري في مصر الآن من فوضى وعبث وصراع سياسي إلى ثقافة نؤسس لها دون أن نُدرك. ننشرها دون أن ندري. الخوف كل الخوف من استمرار السلوكيات التي أصبحت منتشرة على نطاق واسع الآن ك"التعصب، والعدائية، والكره، والعنف بأشكاله". ألسنا بحاجة ماسة إلى نشر سلوكيات مضادة لتلك السلوكيات؟! ألسنا بحاجة ماسة لنشر قيم وفضائل تعمل على غرس روح الانتماء والمواطنة؟! ألسنا بحاجة ماسة لنشر ثقافة سياسية بالطرق الصحيحة من خلال مؤسسات التنشئة السياسية التي تعمل على بناء مواطن صالح منتمٍ لوطنه. وأيضًا متوافق مع بيئته ومع نفسه هذا هو الأهم؟! ألسنا بحاجة ماسة لتعميم ثقافة التسامح بالمجتمع المصري وتسييدها لتجنب التعصب والعنف كي نخرج من هذا النفق المظلم مجهول المعالم؟! التسامح في جوهره يتضمن أشكال عدَّة يمكن أن تظهر من خلال التفاعلات بين الأفراد والجماعات من جهة، أو بين الأفراد والجماعات والدولة من جهة أخرى. ويعد التسامح هو الطرف الثاني للمتصل الذي يمثِّل طرفه الأول التعصب والتشدد. أما التسامح كمفهوم فهو يعني قدرة الفرد على فعل الشيء إلا أنه قرر عدم استخدام هذه القدرة في الوقت ذاته . فما قد تسببه الاختلافات بين الأفراد سواء أكانوا يمثلون أنفسهم أو يمثلون أحزابًا سياسية أوتياراتٍ فكرية يمكن أن تفضي بنا إلى حالة من الشدٍّ والجذب بين تلك الأطراف كلِّها. الأمر الذي يؤدي –بدوره- إلى حالة الفوضى والعبث السياسي لدرجة يصعب فيها تحديد مَنْ الأصوب في وجهة نظره. ويمكننا أن نعزي تلك الحالة من حالات الصراع السياسي بالمجتمع المصري إلى غياب الإيمان بقيمة التسامح وأهميته كفضيلة، والتي تعني هنا استعداد الفرد للاستماع لآراء الآخرين وممارستهم وتقبلها كأحد أساسيات العقيدة الديمقراطية. وإذا كنا نسعى إلى نشر ثقافة التسامح بالمجتمع المصري؛ وجب علينا أولاً الاعتراف بأن لكل مواطن أسلوب حياة لا يتشابه معه فيه مواطن آخر، ووجب علينا الاعتراف بالتنوع والاختلاف في أساليب التفكير بين أبناء المجتمع الواحد؛ كون ذلك المسلك الوحيد نحو تحقيق التعايش السياسي وتحقيق الألفة بين الفرقاء السياسيين في المجتمع الواحد. وفي سبيل سعينا كي نصبح مجتمعًا، ديمقراطيًّا، مدنيًّا، حديثًا، يتسم بحالة من الاستقرار السياسي في مختلف أنحائه ومؤسساته، لابد أن تزداد قناعتنا بأن هذا المجتمع بحاجة ماسة إلى نشر العديد من القيم والأخلاقيات المتعلقة بالتسامح وقبول الآخر، واحترام وجهات النظر الأخرى رغم اختلافنا معها. فهذه السمات من أهم سمات المجتمع الديمقراطي. والتسامح السياسي من أهم المقومات الأساسية للديمقراطية. ويقع هنا الدور على مؤسسات المجتمع المدني إلى جانب كافة مؤسسات الدولة نحو نشر تلك الثقافة من خلال التنشئة السياسية بمراحلها المختلفة (الطفولة، والمراهقة، والرشد)، والعمل على تفعيل دور مؤسسات التنشئة السياسية (الأسرة، وجماعات الأقران، والأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام ...إلخ). وقد يتم هذا التسامح من خلال وسائل عدة منها -على سبيل المثال- تغليب المصلحة العامة للبلاد على المصلحة الفردية، ولننطلق جميعًا من مٌسلَّمة انسجام المصالح Harmony Of Interest ولنعتبر أن هناك توافقًا طبيعيًّا بين المصلحة العليا للفرد والمصلحة العليا للجماعة، فالفرد عندما يعمل لمصلحته الذاتية يعمل لمصلحة الجماعة. وعندما يدعِّم مصلحة الجماعة فهو يدعِّم مصلحته؛ حسبما أشارت المدرسة المثالية في دراستها للعلاقات الدولية. وإذا ما كانت الأطراف السياسية (أحزاب سياسية، أو قوى سياسية) في المجتمع المصري قادرة على انتهاج التسامح السياسي واتخاذه قيمة من قيمها تعمل على الوفاء بالتزامها نحوه، وتعتبره مبدأ من مبادئها داخل لوائحها الحزبية أو عقيدتها ستجني العديد من المكاسب على المستوى الفردي، وسيعود هذا بالنفع على مستوى الدولة والمجتمع؛ الأمر الذي سيخرجنا جميعا من هذا النفق الذي أوقعنا أنفسنا به. والتساؤل الذي يطرح نفسه في تلك الآونة: ما هي حدود هذا التسامح؟ المقام والسياق لا يتسعان للإجابة عن هذا التساؤل وغيره من الأسئلة، إلا أننا نجمل حديثنا في رغبتنا في أن يكون لعلماء النفس دور بارز نحو نشر تلك السمات الفاضلة التي تعود بالنفع والإيجاب على الفرد والمجتمع على حدٍ سواء، من خلال برامج نفسية متخصصة في المراحل العمرية المختلفة للفرد، كما نتمنى أن يزداد الاهتمام بعلم النفس السياسي وهو الذي يعمل على الجمع بين إسهامات علم النفس وعلم السياسية على حدٍ سواء في محاولة إنشاء مركز نفسي سياسي متخصص يعمل على دراسة الأسباب النفسية التي تقف وراء الظواهر السياسية سواء كانت هذه الظاهرة إيجابية أو سلبية، ويكون لعلماء النفس السياسي دور بارز في المجتمع في وصف وتفسير ما آل إليه حال المجتمع المصري. ...وللحديث بقية ...