يأتي عيد الفطر المبارك وكم تبتهج القلوب بحضوره الذي يضئ الذكريات؛فتزداد حركة الناس مهنئين كل أهلهم وجيرانهم وأصدقائهم؛وينتظر أطفالنا العيدية كما كنا ننتظرها نحن قبل ذلك. فترجع بنا الذكريات الجميلة إلى أعماق الماضي الجميل؛الذي يحمل بين سطوره الكثير والكثير من أطياف الزمن الجميل. اللعب حتى التعب في الحارات؛حكايات الجدة الممتعة؛أصدقاء المدرسة؛السهرات العائلية؛صور كثيرة يمر شريطها بمخيلتنا عن الماضي الذي نحن إليه دائما . فكل منا يتذكر أحداثا ممتعة عالقة بذاكرته فلا يكاد ينساها؛ويتمنى أن يعود به الزمن اليها مرة أخرى! فالمريض يحلم بصحة سليمة؛والمغترب يحن إلى رائحة تراب الوطن للعيش بين الأهل والأحباب . ولكن لماذا كل هذا الحنين؟ ولماذا يرقص فرحا من يتجول في أحداث الماضي وحكايته؟ إنه الحنين إلى الزمن المثالي حيث الدفء والشعور بالأمان والتلاحم الأسري والمجتمعي بلا مساحيق زائفة أو حفلات تنكرية . تلك الصور التي لا تزال عالقة بذاكرتنا بما تحمله من تفاصيل الطفولة والأصدقاء والجيران وأهل الحي ومدارسنا العتيقة وأساتذتنا الأجلاء الذين ما تزال صدى أصواتهم في آذن معظمنا . ما زلت أتذكر أبي_رحمه الله_ حين كان يأخذني وإخوتي_في عربته البسيطة_الى سوق سوريا_محلات الملابس بمدينة دمنهور_يشتري لنا لبس العيد وكم كنا نرهقه في اختيار ألوان ملابسنا وكان ذا تحمل كبير رغم بساطته الريفية . ما زلت أتذكر صهرنا الحبيب الكريم كبير المقام الحاج عبد العزيز مبروك رجل المواقف وصاحب الفضل الكبير على الجميع بمواقفه الثابته ويده البيضاء السباقة دائما بفعل الخيرات جزاه الله عن الجميع خيرا ومتعه بموفور الصحة والعافية . ما زلت أتذكر شارعنا الريفي البسيط في قريتي(بسنتواي)حيث كان الشارع مزدحما بفروشات الفاكهة واللعب والمارة وكأن العيد لم يكن إلا في غير هذا المكان من القرية! ما زلت أتذكر شيخي الروحي العارف بالله فضيلة الشيخ مصطفى مخيون طيب الله ثراه بوجهه المشرق بالأنوار وبجمال محياه الكريم . ما زلت أتذكر العارف بالله الأمي فضيلة الشيخ محمود جويدة وكنا نقطع المسافات سيرا على الأقدام بين الزروع لزيارته في مثل هذه الأيام. ما زلت أتذكر خطبة العيد للراحل الخال(ابراهيم عوض الشناوي)العالم الكبير بمنطقة البحيرة الأزهرية حيث كان خطيبا مفوها دائما ما كان يحضر من المدينة لخطبة العيد في مسجد القرية. ما زلت أتذكر العالم الكبير والصوفي الشهير فضيلة الشيخ محمد علي ابو طاحون وهو يحمل مسبحته بيده شاغلا جل وقته بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله عليه افضل الصلاه والسلام. خدوما لكل من حوله ذا ايثار وحب للجميع . ما زلت أتذكر خطباء قريتي المفوهون يتبارون في مساجدهم بجمال طلتهم و هيئتهم المهيبة . فضيلة الشيخ فتحي عبد الرحمن الزغاري وفضيلة الشيخ محمد عبد العزيز مخلوف وفضيلة الشيخ عبد الصبور غلوش ومحفظ القرآن الكريم بكتاب القرية صاحب الفضل على الجميع فضيلة الشيخ محمد شمس دراج طيب الله ثراهم . و العالم الكبير فضيلة الشيخ أحمد رمضان الزغاري بارك الله في عمره ومتعه بموفور الصحة والعافية . ما زلت أتذكر مأذون قريتي بوجهه المشرق بالأنوار فضيلة الشيخ محمد جميل عثمان رحمه الله حيث كانت القرية تدخر عقد قران أبنائها في مثل هذه المناسبات فتراه مصليا ومسلما على حضرة سيدنا رسول الله بصوت شجي لا نظير له . ما زلت أتذكر رفاق الدرب حيث اجتماعنا الدائم في دكان الراحل الأستاذ عقل الزغاري مع الأستاذين الشافعي الزغاري وناجي محمد ناجي رحمهم الله رحمة واسعة. في صحبة الأساتذة الأجلاء محمد محمود اللباني و فتحي عامرالمشد ومخلوف محمود مخلوف نناقش وندعم الأخير في بحثه العلمي ونضع الخطط والتصورات حالمين بالغد المشرق . ما زلت أتذكر منزل الشيخ فايز عبيد السقيلي بقريتي مسقط رأسي حيث ملتقى الفكر والرأي والوسطية والدفاع عن الوطن فلا ترى المنزل يغلق أبوابه إلا بعد منتصف الليل لكثرة رواده . ما أجملها من ذكريات عشناها في رحاب مصرنا الحبيبة؛بمعالم مدموغة بعبق التاريخ في حاراتها العتيقة؛ وأحواشها وأسواقها وبيوتها المترعة بالحب كقلوب أهل زمانها ، قبل أن تداهمنا حياة العصر التي حاصرتنا وحشرت علاقات الناس داخل نفوسهم قبل جدران بيوتهم، بل اختزلت السلام والكلام والتهاني والمواساة في أجهزة ورسائل جامدة ومشاعر مشوهة بأدران الدنيا . وكأني بالمتنبي أراه لايزال يشكو من بيته القائل: عيد .. بأي حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد. تلك أيام خلت لكن تبقى ذكراها متجددة عبقة بروح وبساطة وصفاء الأيام الخوالي وطعم فرحة العيد بأهازيجه وقوافل المعايدين وصلة الأرحام التي كانت تشرح قلوب البشر وتضيء المكان بنقاء النفوس. يا عيد عدت فهل عادت ليالينا وهل ترنم في الصحراء حادينا؟ وبرغم أن الماضي في حياة الكثيرين منا لم يكن ورديًا وخاليًا من المتاعب كما يتصوره البعض . لكن يظل الحنين إليه قائما كلما تقدم العمر وتسرب الشيب إلى الرؤوس أو باعدت الأيام أو فرقت الأقدار بيننا وبين من كانوا جزءًا أصيلا من مخزون ذكرياتنا .. حكايات تتناقل كالنصوص؛وتسرد في الروايات،ها وقد أصبحنا أبطالها،لننقل للقارئ تفاصيل حكايتها،بعفويتها وبساطتها.