بغض النظر عن موقفك من25 يناير, وهل هي ثورة أم انتفاضة, وسواء كنت مع الحكم الجديد أو المعارضة, أو متشائما أو متفائلا من مسار الأحداث والمستقبل فإن عليك الإقرار بحقيقة أن الشعب المصري لأول مرة في تاريخه الحديث, وربما القديم, كسر الخوف من كل أنواع السلطة والسلطان, وعلي مستويات عديدة, لا تقتصر علي سلطة الرئيس أو الوزير, بل إنها تمتد أفقيا ورأسيا لتشمل سلطة رب الأسرة وأستاذ الجامعة ورجل الدين والسياسي ورجل الشرطة والقاضي والإعلامي والطبيب والمهندس والتاجر. الظاهرة ترتبط بفترات ما بعد الثورات والأحداث الكبري حيث تهتز أو تسقط المعايير الاجتماعية, وبالتالي لا يجد الأفراد والجماعات ما يحتكمون إليه من معايير أو ضوابط للسلوك, طبعا سيقال إن المعايير الإسلامية وقواعد الشريعة باقية وثابتة, وهذا صحيح تماما, لكن الأغلبية لا تعمل بها أو تلتزم بتعاليمها رغم انتشار مظاهر التدين الشكلاني بعد25 يناير, وهيمنة الخطاب الإسلامي سياسيا وإعلاميا, فأنماط السلوك الاجتماعي الفعلي تتعارض مع التدين الظاهري الشكلاني, والذي يصنع ما يمكن وصفه بعلمانية اجتماعية, تفصل بين الدين ومظاهر التدين والسلوك الفعلي, أي إننا إزاء فصل غريب بين الدين والحياة الفعلية, يعتبر نوعا من النفاق الاجتماعي. ولتوضيح ما أقصد ستجد أن التدين الشكلي منتشر في كل مكان, ومع ذلك لم ينحصر التحرش الجنسي اللفظي والمادي, بل سجل معدلات أعلي مما كان عليه قبل الثورة, كذلك الحال بالنسبة للجريمة وتعاطي المخدرات واستخدام العنف والاعتداء علي حرمة الشارع وقطع الطرق وتعطيل مصالح الناس. الأمثلة كثيرة وكلها تؤكد سقوط السلطة بأنواعها, فرئيس مصر في الموروث الاجتماعي هو الفرعون, الحاكم الإله, لكنه سقط, ووقف متهما أمام القضاء, وسجن, وكل هذه التحولات تحمل فيضا من المعاني والرموز التي تنزع القداسة أو السمو السلطوي عن شخص الرئيس الذي ثبت أنه شخص ضعيف مثل أي مواطن, لا يمكن لسلطته أو استبداده أن يحميه, من هنا كان من المنطقي أن يرفع شباب الثورة شعاريسقط.. يسقط أي رئيس ومن هنا أيضا كان من الطبيعي أن يتعرض الرئيس مرسي لحملات من النقد والسخرية لم يتعرض لها رئيس مصري سابق, ربما لأنه أول رئيس منتخب بعد ثورة أطاحت برئيس مستبد, إضافة لعدم قدرته علي تحقيق إنجازات ملموسة في ظل أزمة اقتصادية وتحديات خارجية صعبة. سقوط واهتزاز معني السلطة وأركانها, في ظل اللامعيارية, كانت ولا تزال لها آثار هائلة انتقلت إلي بقية أنواع السلطة الرسمية وغير الرسمية, والبداية كانت مع الشرطة التي سقطت ماديا ومعنويا في28 يناير, ولم تنجح حتي اللحظة في استعادة كامل عافيتها وهيبتها, نعم الهيبة لأن أي سلطة تحتاج للهيبة قبل القانون وقبل القدرة علي استخدام القوة, لذلك انتشرت الجريمة بأنواعها وظهرت أنماط جديدة منها, أخطرها من وجهة نظري البلطجة وقطع الطرق وانتشار المخدرات والاستقلال النسبي عن الدولة التي انتزعته مناطق في سيناء, وبعض القري والأحياء العشوائية, التي توقفت عن تسديد فواتير استهلاك المياه والكهرباء للدولة. ولاشك أن تراجع دور الشرطة ارتبط بغياب القانون أو التحايل عليه, والمشكلة أن هذه الممارسات تورط فيها المهمشون اجتماعيا وسياسيا, إضافة إلي رجال الحكم الجديد, حيث لم يحترموا أحكام القضاء وسعوا لتطهيره, ما شجع كثيرا من المواطنين علي تحدي أحكام القضاء, وهكذا اهتزت سلطة القضاء وصورة القاضي النزيه. أيضا رجال الدين الرسميون يتعرضون لهجوم ونقد متواصل, وأصحاب الآراء الوسطية المتسامحة منهم توجه لهم اتهامات بالتبعية للحكومة, بل إن احترام الكنائس والمساجد تعرض بدوره لهزة عنيفة باعتبارها رموزا للسلطة الدينية, فشاهدنا حصارا وقتالا غريبا أمام الكاتدرائية ومسجد القائد إبراهيم, كما حاصر متظاهرو الإخوان المحكمة الدستورية ودار القضاء, وحاصر متظاهرون معارضون القصر الرئاسي ومنزل الرئيس, والأدهي أن طلبة وبلطجية من خارج الجامعة يتعاركون داخل الحرم الجامعي ويحاصرون الأساتذة, ما دفع جامعة عين شمس العريقة وجامعات خاصة أخري لتعطيل الدراسة لأجل غير مسمي. ولا يتسع المجال لمناقشة صحة هذه القرارات لكن الدلالة هنا, أن سلطة أستاذ الجامعة ورمزية الجامعة تراجعت واهتزت كما اهتزت مكانة ورمزية المسجد والكنيسة. كذلك اهتزت وتراجعت سلطة الطبيب بعد أن هاجم المواطنون في أحداث متكررة المستشفيات واعتدوا علي الأطباء والممرضات, وتآكلت سلطة التاجر بعد سيطرة الباعة الجائلين علي شوارع المدن الكبري, وأصبحت التجارة مجرد فرشة وبضائع مهربة من الصين, ولم تسلم سلطة الصحفي ومكانته من الهجوم والتجريح, وحاصر متظاهرون مدينة الإنتاج الإعلامي وماسبيرو, وحمل الحكم الجديد الإعلام المسئولية عن الأزمات التي تضرب الوطن, وعلي مستوي آخر تتحدي صحافة المواطن سلطة الصحفي واحتكاره للمعلومات والآراء والقدرة علي نشرها بين الناس, حيث أصبح بمقدور أي مواطن أن يتحول إلي صحفي. اهتزاز أو سقوط كل أنواع السلطة يطرح السؤال حول إمكانية استعادة هيبة السلطة التي اهتزت أو سقطت حتي يمكن ضمان الاستقرار في العلاقات الاجتماعية أو علي الأقل تأطير الصراع الاجتماعي وضبطه, أعتقد أن المهمة ممكنة لكن تتطلب أولا: وقتا وجهدا, ثانيا: التزاما واضحا من الحكم الجديد بالقانون واحترام القضاء, ثالثا: التنازل الطوعي من كل أصحاب السلطة عن قدر من سلطاتهم السابقة, فالسلطة التي كان يمارسها الشرطي أو رجل الدين أو الإعلامي أو أستاذ الجامعة قبل25 يناير في حاجة إلي مراجعة, خاصة أنها كانت قبل الثورة تتجاوز نصوص القانون أو الشرع أو التقاليد, وكانت تمارس من دون رقابة شعبية من خلال البرلمان واتحاد الطلبة والمجتمع المدني, وبالتالي أتصور أن كل أنواع السلطة في حاجة إلي مراجعة وتصحيح وإعادة صياغة معلنة للجميع, لتحديد حقوق وواجبات أصحاب السلطة والخاضعين لها, ومن الضروري أن يكون خضوعا طوعيا وبرضا الطرفين, ومن ثم تتحقق مشروعية جديدة للسلطة في كل مستوياتها. نقلا عن الاهرام المزيد من أعمدة محمد شومان