لاشك أن ما تمر به البلاد من اضطرابات وأعمال عنف وصراع سياسي, وما يلازمها من حالة ألقت بظلال قاتمة علي المجتمع. تستحق التوقف أمامها ليس من قبيل النقد لمعطيات اللعبة السياسية بأكملها, لكن من قبيل تحليل هذه المرحلة من تاريخ مصر, وصولا إلي أسباب الاحتقان الحالي, التي أراها مرتبطة بمرحلة ما بعد الثورة. وفي الحقيقة فإن تحليل الواقع المصري الآني كان ماثلا أمامي في كتاب شارلي جوزيف الهام' متلازمة ما بعد الثورات', حيث يشرح أهم ما تواجهه المجتمعات التي تصنع بيدها ثورة تنتفض فيها علي واقعها وتهزم بها الاستبداد والفساد وتقرر أن تنشئ نظاما سياسيا جديدا يعبر عن آمالها وأحلامها في مستقبل مشرق, ويستعرض الكاتب بإسهاب من خلال تجارب مختلفة ومتعددة كيف واجهت تلك الشعوب الثائرة هذه التحديات بعد أن قامت بثورتها وانتصرت علي جلاديها. وقد توقف الكاتب طويلا أمام التحدي الأهم من مجموع تلك التحديات والمتمثل في التلازم بين تشكل نخب سياسية جديدة لمجتمع ما بعد الثورة وبين نخب سياسية تتلمس طريق النجاح وتمارس ادارة الدولة ربما للمرة الاولي في تاريخها. مجموعة النخب السياسية الاولي تتشكل في ظل ارتفاع سقف التوقعات والآمال التي يطالب بها أبناء تلك المجتمعات ويحلمون بها لأنفسهم وبلدهم بعد أن يتجسد لهم حلم التقدم والحرية في الثورة ذاتها بعيدا عن إدراك أن ذلك لن يتحقق إلا بجهد المجتمع نفسه والعمل المستمر الذي يجب أن يبذله الجميع بعد الثورة من أجل الوصول للحلم والنمو المنشود. أما النخب السياسية الاخري التي تدير البلاد للمرة الاولي فهي تحتاج إلي قدر كبير من التركيز وحشد طاقاتها وترتيب أولوياتها, مع قدر كبير من التفهم وعدم التربص والتعويق, حيث ان الديكتاتوريات السابقة دائما, وفي معظم التجارب الانسانية, كانت تحصر دائرة المشاركة السياسية الفعلية في شريحة بعينها من المتعايشين معها والقادرين علي التكيف مع أدواتها وشرائطها, وبمجرد سقوطها يصبح الملعب السياسي خاويا. وحينئذ تقع النخب الجديدة التي لم تمارس أدوارا سياسية من قبل تحت ضغط الاستكشاف والتأسيس وارتفاع سقف التوقعات ومطالبات الجماهير في رؤية إنجاز سريع وحلم لن يتحقق إلا بالعرق وبتحرك الجميع بكل طاقتهم والعمل علي تجسيد دور الشريك والمتضامن لا دور المشاهد. وهنا كما يقول الكاتب تعلو الأصوات ضجرا من تأخر ميلاد حلم التغيير والرفاهية الذي ينتظره الجميع, كما تعلو أصوات المزايدين وأنصار الديكتاتور الساقط أو مرضي النستالجيا الذين لهم في كل العصور خصام مع المستقبل وحرب مع كل جديد. التحدي الثاني الذي يطرحه الكاتب هو غلبة لغة النضال في قاموس جماعات العمل السياسي بعد الثورات تأثرا بروح الثورة وسياقها مما يجعل الحوار الهادئ بين الأطراف المختلفة في المشهد بعد الثورة يعترضه الكثير من لغة الاستقطاب والتحدي والرغبة في التميز, وذلك علي حساب ثقافة الائتلاف والتعاضد والرغبة في العمل المشترك. هذا التحدي كما هو واضح في دراسة شارلي جوزيف ينتهي عندما تدرك الشعوب أنها بحاجة إلي عمل ثوري وليس صياحا ثوريا تحتاج إلي تغليب لغة العقل والموضوعية والعلمية عن لغة العاطفة والشعارات التي لا تؤدي إلي نتائج او انجازات حقيقية علي الارض, ويتناسب هذا التحدي عكسيا مع الزمن اللازم للارتقاء بمنحني التعلم الذي تختاره النخب السياسية في مرحلة ما بعد الثورات. أما التحدي الثالث للمجتمعات بعد الثورات فيتمثل في ضرورة إعادة التعريف بمفردات الفعل السياسي والاتفاق علي القواعد المنشئة والمنظمة له, وكذلك إعادة تعريف الدولة ووظائفها والمجتمع المدني ومدي التمكين والدعم الذي يستحقه.. ولأن إدراك دور الدولة وعلاقاتها مع بقية الأدوار هو دور ترسمه الشعوب بإرادتها وتضعه في دساتير مكتوبة, وليس هذا فقط ولكن إعادة التعريف هنا يعني إعادة تشكيل الإدراك الشعبي بوظيفة الدولة في حياتهم. ولأن دول الاستبداد في معظم الحالات هي دول مركزية قوية استمرت في الحكم والسيطرة لفترات ليست بالقصيرة فان الاهتزاز العنيف الذي يحدث بعد الثورات والناتج من غياب القبضة القوية المسيطرة ربما يؤدي الي كثير من الارتباك والتشاجر الداخلي بين اطراف الفعل الثوري علي البدائل والتعريفات, وضبط قوانين الحركة سرعان ما يزول إذا ما تولدت ثقافة جديدة تنتج عن نموذج جديد يحقق ذلك الحلم الثوري. التحدي الآخر الذي يطرحه الكاتب للمجتمعات التي ثارت في وجه الاستبداد يتمثل في أن الدولة القطرية قد ارتبطت في وعي بعض المجتمعات مع ظاهرة سبقتها, وهي ظاهرة الاستعمار, وبعد الاستقلال أيا كانت أدواته فإن الدولة القطرية ترث هذه التركة بما فيها الحدود, وربما يؤدي ذلك إلي شعور الناس بأن الدولة المركزية الجديدة هي ذاتها دولة الاستعمار بما تمثله من حدود وتقييد للحرية وكبت للفعل السياسي. ولعل وراثة الدولة القطرية للإدارة الاستعمارية هو أحد الأسباب الكامنة في خلق الروح التي تتميز بها نظرة بعض الشعوب مثل شعوب المنطقة العربية تجاه المصالح العامة, أو الأموال أو الأجهزة الأمنية والتي تجعل من هذه المصالح عقب الثورات هدفا للتحطيم والاعتداء بدلا من أن تكون أداة لتوظيف الفعل الثوري في دعم وتمتين هذه الكيانات. ويحتاج هذا التحدي إلي خلق ثقافة جديدة تتصالح فيها الشعوب مع ما تملكه وتدرك أنها صاحبة الحق الوحيد في التصرف في هذه الممتلكات والأصول. إن قائمة التحديات طويلة وتحتاج في واقعنا المصري إلي صوت العقل الذي يمنع اليأس من أن يصل إلي وجدان الشعب, ويحصن الفعل الثوري من أي محاولة للاستحواذ عليه من قبل جماعات المصالح الفاسدة, أو من أطراف إقليمية تحاول أن تربط في وجدان شعوبها بين الثورات والفشل والاضطرابات والفوضي والتناحر, بدلا من ربط الثورات بالحريات والازدهار والتقدم. إن التحديات التي نمر بها تحتاج منا جميعا باختلاف توجهاتنا إلي العمل المخلص من أجل استكمال نجاح الثورة المصرية العظيمة وافشال محاولات تعويقها. نقلا عن الاهرام المزيد من أعمدة ياسر على