برعاية كريمة من الرئيس "عبد الفتاح السيسي" عقد الأزهر الشريف "مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي" وذلك بحضور نخبة من كبار القيادات والشخصيات السياسية والدينية البارزة على مستوى العالم، وممثلين من وزارات الأوقاف ودور الإفتاء والمجالس الإسلامية من 46 دولة من دول العالم الإسلامي، لبحث ومناقشة أطر مفاهيم التجديد، وآلياته، وتفكيك المفاهيم المغلوطة، وقضايا المرأة والأسرة، ودور المؤسسات الدولية والدينية والأكاديمية في تجديد الفكر الإسلامي. والمتأمل في الكلمات التي قيلت في اليوم الأول من هذا المؤتمر يستطيع أن يقف بسهولة على بعض النقاط من أهمها توافق الرؤى بين رئاسة الجمهورية ومؤسسة الأزهر الشريف في قضية التجديد ومفهومه والتي أكدها الرئيس السيسي في كلمته التي ألقاها نيابة عنه رئيس الوزراء الدكتور "مصطفى مدبولي"؛ حيث ذكر أن التجديد ليس فى ثوابت الدين ولا العقيدة ولا الأحكام التى اتفق عليها الأئمة، وإنما فى فقه المعاملات فى مجالات الحياة العلمية، مؤكدًا أن من رحمة الله أنه شرع لنا أحكاما ثابتة وأحكاما تتغير وفقا للتطور، وأن الفتوى تتغير من بلد لبلد، ومن عصر لعصر، ومن شخص لشخص. كذلك أكد هذا الأمر فضيلة الإمام الأكبر في كلمته حيث قال "ومن نافلة القول التأكيد أو التذكيرُ بأن أحكام الدِّين الإسلامي تنقسم إلى ثوابت لا تتغيَّر ولا تتجدَّد، وهي الأحكام القطعية الثبوت والدِّلالة، وسببُ ثباتها في وجه قانون التطور، الذي هو سنة الله في خلقه هي أنها قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان .... ثم يأتي النوع الثاني من الأحكام القابلة للتبدُّل والتغيير، وهي الأحكام المختصة بمجالات الحياة الإنسانيَّة الأخرى، مثل الأحكام المدنيَّة والدستوريَّة والجنائيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والسيرة الاجتماعية والبيع والشراء، وأنظمة الحُكم والعلاقات الدوليَّة والآداب العامَّة، وعادات الناس في المسكن والمأكل والملبس.. وما إلى ذلك.. وفي هذه المجالات ترد أحكام الشريعة الإسلاميَّة في صورة أُطُر كليَّةٍ ومبادئَ عامةٍ، تتَّسِع لتطبيقاتٍ عِدَّة وصيغٍ مختلفة، كلها مشروع ما دام يحقِّق مصلحة معتبرةً في الشَّرع والأخلاق....." الأمر ذاته أكده فضيلة الدكتور "محمد المحرصاوي" رئيس جامعة الأزهر في كلمته التي لخص فيها محاور المؤتمر وموضوعاته حيث قال "التجديد الإسلامي يستصحب الثوابت والمتغيرات ويحافظ على الأصول ويجدد في الفروع، والتعرض للأحكام الثابتة بيقين هو من التبديد لا التجديد". كما شدد على هذه النقطة في موضعٍ أخر من كلمته حيث قال: "التجديد يتعلق بالأحكام الظنية التي اجتهد فيها العلماء السابقون للوقوف على مدى ملائمتها لواقع الناس ومستجدات عصرهم من عدمه، والاجتهاد الجماعي لاستنباط أحكام الفروع التي لم تكن في عصر السابقين أما التدخلُ في الأحكام القطعية فهو تبديد لا تجديد". وحقيقة فإن هذا التوافق بين الدولة ومؤسسة الأزهر الشريف يقطع الطريق على من يريدون الصيد في ماء يتوهمونه عكرًا ممن وصفهم فضيلة الإمام الأكبر في كلمته ب "الموهوبين في مهارة التحدُّث في أي موضوع، دون دراسة كافية أو إعداد علمي سابق". فهناك الكثير ممن يدعي أن التجديد الذي تريده الدولة مختلف عن التجديد الذي يقوم به الأزهر الشريف. ومن أهم ما ورد في هذا المؤتمر أيضًا إعلان فضيلة الإمام الأكبر عن استحداث هيئة جديدة اسمها "مركز الأزهر للتراث والتجديد"، تضم علماء المسلمين من داخل مصر وخارجها كما تضم مجموعة من أساتذة الجامعات والمتخصصين في مجالات المعرفة ممن يريدون ويرغبون في الإسهام في عملية «التجديد» الذي ينتظره المسلمون وغير المسلمين. وأشار الدكتور "المحرصاوي" إلى أن التجديد مسؤولية العديد من المؤسسات التربوية والتعليمية والدعوية والثقافية وفي مقدمتها الأزهر الشريف، مُضيفًا أن الهيئة سالفة الذكر ستكون معنية بالتنسيق بين المؤسسات المذكورة فيما يخص جميع قضايا التجديد لتفويت الفرصة على الطاعنين فيه ولتحقيق الجماعية المطلوبة في هذا الصدد. وهذه نقطة في غاية الأهمية لأن قضية التجديد من القضايا المهمة والشائكة والتي تتطلب وضع خطط شاملة قابلة للتنفيذ تسترشد بها الأمة وتُعيد إليها مكانتها التي تأثرت تأثرًا شديدًا بتوقف علماء الدراسات الإسلامية عن التجديد، والخوف من طرق باب الاجتهاد رغم امتلاكهم تراثًا دينيًا عظيمًا صالحًا للقياس وقابلًا للتجديد، هذا بالإضافة إلى المأثورات النبوية الشريفة التي تشجع على الاجتهاد. فالتجديد المنتظر إذن سينفي الفردية وسيُعلي من قيمة العمل الجماعي والمؤسسي، وهذا سيعطيه ثقلًا وأهمية أكثر بكثير مما إذا استأثرت به مؤسسة واحدة. وفي الحقيقة يمكننا القول إن مؤتمر اليوم ليس أول خطوة يخطوها الأزهر على طريق التجديد بل هو ثمرة لجهود مضنية قام بها العديد من علمائه على مدار أكثر من ألف عام. وفي وقتنا الحالي خطى فضيلة الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب العديد من الخطوات المهمة على طريق التجديد منها إنشاء مرصدًا عالميًا لرصد وتفنيد ما تبثه الجماعات المتطرفة على مواقع الإنترنت، وتوعية الشباب وحمايتهم من الاستقطاب، وكذلك أنشأ مركزًا للترجمة لترجمة الفكر الإسلامي المتجدد إلى كل لغات العالم، كما أسس مركزًا للفتوى الإليكترونية لمواجهة فوضى الفتاوى من ناحية والتسهيل على من يريد فتوى من ناحية أخرى، كما أعاد فضيلته أروقة الأزهر لتستقبل طلاب العلم والراغبين في التزود بالعلوم العربية والشرعية من طلاب الأزهر وغيرهم، كما اهتم فضيلته بتدريب الأئمة وتزويدهم بالقضايا المستجدة فأسس أكاديمية الأئمة للقيام بهذا الهدف، كما أنشأ فضيلته بيت العائلة المصري لتقوية الروابط بين عنصري الأمة المصرية، كما أصدر عددًا من الوثائق التي رسخت مفاهيم المواطنة والتعايش السلمي وتقبل الآخر وغيرها من المفاهيم والقيم الإنسانية. كما عقد العديد من المؤتمرات التي جعل من خلالها التجديدَ خطوات عملية تراها المجتمعات ماثلة أمام نواظرها. إن هذه الخطوات جميعها خطوات مهمة مهدت السبيل للتجديد وفتح باب الاجتهاد من جديد.