عامان مضيا على ثورة يناير 2011 وآن الأوان كما هى العادة، وكما يجب، للمراجعة والتقييم. وللحق فإن الفكرة فى هذا المقال مستعارة من الأستاذ- يقال عنه أحيانا الشيخ- ناجح إبراهيم الذى دعا التيارات الإسلامية إلى ما سماه «فقه المراجعة» حتى تصلح خطابها ودعواها. ولعل السؤال الطبيعى الذى يلى هو ما هذا ياترى الذى نراجعه، وكيف نفعل ذلك دون الدخول إلى مجال الفلسفة العميقة أو النظريات الأكاديمية التى قد تصلح لرسائل الدكتوراه، ولكنها لا تصيب مرمى فى حديث السياسة؟ ما نراه هنا هو أن موضوع «المراجعة» يجب ألا يكون فقط ثورة يناير المعاصرة ولكن كل الثورات المصرية الكبرى: ثورة عمر مكرم التى أتت بمحمد على والياً على مصر، الولاية العثمانية، وثورة 1919 التى أتت بالملكية ومولد الدولة المصرية ومعها سعد زغلول ومن بعده مصطفى النحاس، وثورة 23 يوليو التى أعلنت البكباشى جمال عبدالناصر رئيساً لمصر وزعيما للعرب، وثورة يناير الحالية التى أعطت الدكتور محمد مرسى رئاسة الجمهورية كأول مدنى منتخب. سوف نستبعد مؤقتا ثورات وأحداث جرت هنا أو هناك رغم أهميتها مثل ثورة عرابى التى كانت إحدى نتائجها الاحتلال الإنجليزى لمصر، أو تولى الرئيس السادات السلطة وقيادته لتحرير سيناء حرباً وسلاماً، أو ما فعله نظام مبارك للدولة المصرية. ففى الإطار العام لحركة التاريخ المصرى كما سوف نرى، فإن كل ذلك كان محض تفاصيل. الإخفاق التاريخى الكبير... لا يستطيع المراجع للتاريخ المصرى إلا أن يرى ما نحن عليه حاليا إلا نتاج عمليات من الإخفاق المستمر على مدى قرون طويلة. ليس معنى ذلك أنه لم تكن هنا إنجازات وانتصارات هنا أو هناك لا ينكرها باحث أو منصف، ولكن النتيجة النهائية للتراكم التاريخى المصرى هو دولة فى النصف الأسفل من تراتب التقدم فى أى من التقارير الدولية المعتبرة يسبقها على الأقل أكثر من مائة دولة بالمعايير الاقتصادية والسياسية والمعرفية. ولا يستطيع أنصار الإسلام السياسى الادعاء بأن العصور الإسلامية من القرن السابع الميلادى وحتى نهاية القرن الثامن عشر كانت مع تطبيق «الشريعة» مسيرة للتقدم فى مصر. فما حدث فعلياً خلال هذه الفترة، ورغم عدد من الاستثناءات فى العهد الفاطمى وحكم المماليك البحرية فإن عدد سكان مصر ظل آخذا فى التناقص نتيجة الفقر والفاقة واستنزاف الثروة والأمراض المتفشية. وعندما دخل نابليون إلى مصر كان عدد سكانها 2.5 مليون نسمة- نصفهم من العميان نتيجة انتشار أمراض الرمد- وهى التى كانت قد وصلت إلى عشرة ملايين فى العصور الفرعونية المزدهرة. وبالمثل لا يستطيع أياً من الليبراليين وأنصار الحكم «المدنى» الادعاء بأن الفترة التى تلت حكم محمد على قد أخذت مصر إلى مصاف الدول المتقدمة ديمقراطياً أو صناعياً أو معرفياً. صحيح خرجت مصر من فخ التراجع السكانى ولكنها دخلت فخا آخر ليس للانفجار السكانى بقدر ما هو عدم التناسب ما بين النمو السكانى ونمو الثروة المصرية التى ظلت دوما فى الخلف. وصحيح أيضا أن مصر دخلت عصر المؤسسات الحديثة، ولكن برلمانها لم يعمل أبداً كما عملت برلمانات العالم إلا فى لحظات استثنائية ومحدودة، وهكذا كان الحال مع البيروقراطية المصرية، والمؤسسات التعليمية التى جعلت أكثر من ربع الشعب المصرى فى العقد الثانى من القرن العشرين لا يعرف القراءة والكتابة. لن نقول شيئاً عن معرفة استخدام الكومبيوتر، ويوم دخلت مكتبى كرئيس لمجلس إدارة الأهرام التى لا يوجد فى مثل عراقتها مؤسسة أخرى فى مصر كانت نسبة من يعرفون استخدام الحاسب الآلى 10٪ فقط من العاملين! ويمتد الأمر للصناعة والزراعة والخدمات، حيث يظهر الإخفاق صارخاً ساعة المقارنة بما وصلت إليه دول مثلنا خاضت تجارب مشابهة للاستعمار وعدد السكان والحروب الكثيرة، وحتى كان بعضها مسلما سنيا أيضا!. تجربتى مع الأهرام.... عملت فى مؤسسة الأهرام سبعة وثلاثين عاما كانت الأغلبية فيها داخل مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ولكن واحدا وعشرين شهرا فى رئاسة مجلس الإدارة كانت تجربة وحدها، لأن الأهرام بشكل ما كان يمثل «مصر مصغرة»، أو كما يقول أهل البحث «مايكرو كوزم» للدولة كلها. ومع مطلع هذا الزمن القصير ما بين يوليو 2009 ونهاية مارس 2011 كان واضحاً لى أنه لا يمكن إحراز تقدم فى المؤسسة من أى نوع، ما لم يتم التخلص من أمراض جعلت تخلف المؤسسة «بنائياً» وكان أولها، وربما أهمها، ذلك الانقسام النفسى والمعرفى والسياسى بالطبع بين ثلاثة عهود سابقة: عهد الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى رغم أن صاحبه ترك الأهرام منذ 1974 فإن تلاميذه ومريديه، من عملوا معه أو أعجبوا به من بعيد، ظلوا على الولاء «للأستاذ» الذى لم يكن لأحد غيره أن يطلق عليه هذا اللقب «الأستاذ»، وما جاء بعده لم يكن إلا ركام من تراب. هؤلاء كانوا شريحة من كبار العمر المحترمين، والشاعرين بالغربة فى مؤسسة انتشر فيها الأصغر سنا والذين لا ينتظر منهم خيراً ولا رجاء. وعهد الأستاذ إبراهيم نافع الذى دخلت غالبية العاملين إلى المؤسسة فى عهده حتى اقترب الرقم من 10 آلاف عامل وإدارى ومحررا نتيجة التوسع الهائل فى البنية الأساسية والإصدارات والاستثمارات، وما نجم عنها من زيادات مالية للعاملين سواء فى شكل حوافز وأرباح ومنح. وهكذا تكونت جماعة غير قليلة ممسكة بأعصاب المؤسسة الحساسة، ولا ترى فيما عداها إلا قوى تسعى إلى تدمير الأهرام. وعهد الأستاذ مرسى عطالله الذى شمل وقته ووقت الأستاذ صلاح الغمرى، وكان بمثابة ثورة عهد على عهد سابق، وصف ليس بأنه عهد التوسع والاستثمارات وإنما عهد الديون والفساد والمحسوبية. باختصار كان الأهرام، كما هو الحال فى مصر الآن، منقسماً، ليس فقط حسب الفترات الزمنية، والخبرة العملية، وإنما أيضا حسب التيارات الأيديولوجية، وكانت النتيجة غداة وصولى إلى الإدارة خروج مظاهرات لأول مرة فى تاريخ الأهرام ضد مظاهرات أخرى، واحدة للمحررين وأخرى للعمال والإداريين. المصالحة... لم يكن ممكناً أن تمضى سفينة الأهرام إلى أى مدى ما لم يتم إنجاز مصالحة تاريخية بين كل العهود وبينهم جميعا والمستقبل. وكان ذلك هو ما جرى منذ اليوم الأول عندما أعلنت شعارا هو «الأهرام تصالح نفسها»، فأيا كانت عظمة أى عهد أو عصر فإن النتيجة النهائية كانت أن الأهرام لم تعد كما كانت واحدة من أهم الصحف العشر فى العالم، بل أكثر من هذا باتت مهددة بالصحافة المطبوعة المنافسة وفى مقدمتها «المصرى اليوم»، والصحافة التليفزيونية وشقيقتها الإلكترونية. وببساطة كان محور المصالحة هو أنه أياً كانت عظمة العهود فإن الأهرام كانت فى طريقها إلى الإخفاق، وأن تحديات المستقبل أكثر أهمية بكثير من أحداث الماضى، الذى كان يمكن تجاوزه من خلال تحقيق ثلاثة أهداف: أن تتحول الأهرام من مؤسسة صحفية إلى مؤسسة إعلامية، ومن مؤسسة عامة تابعة لمجلس الشورى إلى شركة قابضة عامة، ومن مؤسسة عامرة بالفقراء إلى مؤسسة ممتلئة بالأغنياء. وفى أول اجتماع شامل للكثيرين من أبناء المؤسسة عرضت على العاملين فى قاعة نجيب محفوظ الكبرى كيف يمكن تحقيق ذلك. المصالحة المصرية مع التاريخ... ما جرى بعد ذلك فى الأهرام ليس موضوعنا هنا ولكن بعضا مما حاولناه تحقق بالفعل، ويجعلنا نثق بأنه يمكن الانتقال من «المايكرو» إلى «الماكرو»، بحيث نرى مصر كلها وتجربتها التاريخية التى قادتها إلى إخفاق كبير رغم الثورات والحروب، والاحتلال والاستقلال، والحكم الدينى والحكم والمدنى، والرأسمالية والاشتراكية. التجربة كلها تشير إلى أن ثمة أمر ما «غلط» فى مصر كلها يجعلها تقدم التضحيات فى الثورات فتنتهى ثوراتها إلى بعض من تقدم، ولكن دائماً إلى كثير من الركود وأحيانا التراجع، لا يستثنى من ذلك ثورة أو محاولة للإصلاح، أو يستبعد زعيم أو قائد. والمسافة الزمنية لعامين بعد ثورة يناير لا تجعلنا نقول، فضلاً عن تقديم الدليل، إن مصر أفضل حالا عما كانت عليه قبلها. ولم يكن ذلك ناجماً عن أن الأحوال قبلها كانت على ما يرام، أو أن مصر أحرزت سبقا أو نجحت فى مجال، وإنما لأن ما جاء بعد الثورة لم يكن قادراً على تشخيص أمراض ما قبلها تشخيصاً صحيحاً، وبالتالى لم يكن قادرا على طرح البديل. وعندما بدا غائما أن المطلوب هو إقامة نظام يقوم على الحرية والديمقراطية، فإن النتائج غالبتها الشكوك، وظهرت تبريرات كان يرددها النظام القديم، وفوق ذلك ساد عنف ليس فقط بين الحكم والشعب، ولكن بين الشعب وبعضه البعض، وربما كان حرق الكنائس موجوداً قبل الثورة، ولكن لم يحدث فى التاريخ المصرى أن قامت جماعة من المصريين بإلقاء جماعة أخرى بلغت 72 فرداً من أعلى استاد رياضى لمجرد أنها تنتمى إلى فريق رياضى آخر، كما لم يحدث أن خرجت جماعات تطالب بالانفصال عن مصر المحروسة. تقييم ثورة يناير سوف يجرى كما تجرى الأنهار خلال هذه الأيام، وسوف يختلف التقييم حسب الزاوية والتيار والموقع من النظام الحالى، ولكن جميعه سوف يتشبث بالانتماء للثورة وبعد ذلك يختلف على كل شىء آخر. ولكن ذلك لن يحل المعضلة المصرية بحال وهى أيا كانت التقييمات فإن مصر ذاتها تتعرض لحالة أخرى من الإخفاق ينضم إلى ما جرى من قبل فى تاريخها، وهذه المرة مع كثير من الشهداء سقطوا قبل الثورة، وأثنائها، وبعدها أيضا. مواجهة هذا الإخفاق لا يمكن أن يبدأ إلا من خلال «مصالحة تاريخية» مع الذات تبدأ بالكثير من تواضع كل التيارات التى عليها الاعتراف أنها كلها حكمت من قبل ولم تحقق الكثير أو تحقق ما يكفى أو تنجز قدر إنجازات الأمم الأخرى. أعلم أن الجميع لديه قوائم بإنجازات عصره السابق، ولكن فى أى من هذه العصور لم يحدث أن تخلصت مصر فيها من الأمية على سبيل المثال أو صارت بلدا صناعيا أو أصبحت حتى بلدا منظما، ويكفى أن مشروع المائة يوم كان فيه للنظافة والمرور مكانة مرموقة ونحن فى القرن الواحد والعشرين. والمصالحة مع الجغرافيا أيضاً... إذا كانت المصالحة مع التاريخ سوف تعنى أولاً التواضع لدى كل التيارات المصرية إزاء إخفاق تاريخى مستمر، وثانيا البحث المشترك عن أسباب هذا الإخفاق دونما استعلاء أو استخفاف، فإن المصالحة لا تكتمل ما لم ندرك أن الخروج من الإخفاق هو سبيلنا إلى مصالحة دائمة لأنها سوف تستند إلى مصالحة مع الجغرافيا المصرية. ومعنى ذلك دون تقعر هو أن مصر التى كانت، ولازالت بلدا نهريا إلى حد كبير، قد آن الأوان لكى تكون بلدا بحريا بامتياز. فلعل واحدا من أهم أسباب الإخفاق المصرى الدائم أن الكتلة الكبرى من السكان فى مصر عاشت على ضفاف النهر «الخالد». هذه الكتلة ذاتها باتت تضع «فيتو» موضوعى على كل محاولة لتراكم الثروة فى مصر التى هى مفتاح التقدم فى أى بلد، فانتهى مشروع مديرية التحرير قبل أن يبدأ، والصالحية قبل أن يمتد، وجمدت مشروعات تنمية سيناء، والساحل الشمالى، والبحر الأحمر، وشرق التفريعة لأن الوادى كان يضغط طوال الوقت بمطالبه الاقتصادية والسياسية على كل من يحكم. وباتت القاهرة غولا يطارد كل حاكم، مطالبة باستثمارات إضافية لا تنتهى إلا وتبدأ المطالبة من جديد، فكل جسر يحتاج إلى نفق، وكل نفق يطلب تنظيماً للدخول والخروج، وكل ذلك يحتاج بشدة إلى وسائل مواصلات جديدة، وهكذا. مراجعة كل البرامج الانتخابية «النيابية والرئاسية» أوردت الخروج من الوادى إلى البحر، ولكنها لم تضع نظاما للكيفية التى يتم بها ذلك لأن الكتلة السكانية الكبرى من المصريين كانت طابقة على الأنفاس طوال الوقت تطالب بمزيد من الأجور، وإذا كان ذلك مستحيلا فإنها تطالب بالعدالة الاجتماعية التى تعنى توزيع الثروة وليس إعطاء الفرصة المتكافئة لإنتاج هذه الثروة. ولكن هذه قصة أخرى تحتاج حديثا آخر. وما نعرفه هو أن تحية الثورة ستكون واجبة إذا كان مصيرها ليس إخفاقا آخر. نقلا عن المصرى اليوم