عاجل - سعر الدولار مباشر الآن The Dollar Price    حماية المستهلك يشن حملات مكبرة على الأسواق والمحال التجارية والمخابز السياحية    خالد أبو بكر: مصر ترفض أي هيمنة غير فلسطينية على الجانب الفلسطيني من معبر رفح    تفاصيل قصف إسرائيلي غير عادي على مخيم جنين: شهيد و8 مصابين    أكسيوس: محاثات أمريكية إيرانية غير مباشرة لتجنب التصعيد بالمنطقة    نجم الزمالك السابق: نهائي الكونفدرالية يحتاج 11 مقاتلًا في الملعب    ننشر التشكيل الجديد لمجلس إدارة نادي قضاة مجلس الدولة    تدخل لفض مشاجرة داخل «بلايستيشن».. مصرع طالب طعنًا ب«مطواه» في قنا    رقص أحمد السقا مع العروس ريم سامي على غناء عمرو دياب «يا أنا يا لاء» (فيديو)    مفتي الجمهورية: يمكن دفع أموال الزكاة لمشروع حياة كريمة.. وبند الاستحقاق متوفر    مصطفى الفقي يفتح النار على «تكوين»: «العناصر الموجودة ليس عليها إجماع» (فيديو)    عيار 21 يعود لسابق عهده.. أسعار الذهب اليوم السبت 18 مايو بالصاغة بعد الارتفاع الكبير    بعد 94 دقيقة.. نوران جوهر تحسم الكلاسيكو وتتأهل لنهائي العالم للإسكواش 2024    قبل مواجهة الترجي.. سيف زاهر يوجه رسالة إلى الأهلي    «مش عيب تقعد لشوبير».. رسائل نارية من إكرامي ل الشناوي قبل مواجهة الترجي    سعر العنب والموز والفاكهة بالأسواق في مطلع الأسبوع السبت 18 مايو 2024    عاجل.. رقم غير مسبوق لدرجات الحرارة اليوم السبت.. وتحذير من 3 ظواهر جوية    مذكرة مراجعة كلمات اللغة الفرنسية للصف الثالث الثانوي نظام جديد 2024    بعد عرض الصلح من عصام صاصا.. أزهري يوضح رأي الدين في «الدية» وقيمتها (فيديو)    موعد إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 في محافظة البحيرة.. بدء التصحيح    حلاق الإسماعيلية يفجر مفاجأة بشأن كاميرات المراقبة (فيديو)    شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة "اصليح" بخان يونس جنوب قطاع غزة    عمرو أديب عن الزعيم: «مجاش ولا هيجي زي عادل إمام»    لبنان: غارة إسرائيلية تستهدف بلدة الخيام جنوبي البلاد    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    هل مريضة الرفرفة الأذينية تستطيع الزواج؟ حسام موافي يجيب    مؤسس طب الحالات الحرجة: هجرة الأطباء للخارج أمر مقلق (فيديو)    تعرف على موعد اجازة عيد الاضحى المبارك 2024 وكم باقى على اول ايام العيد    نحو دوري أبطال أوروبا؟ فوت ميركاتو: موناكو وجالاتا سراي يستهدفان محمد عبد المنعم    تعادل لا يفيد البارتينوبي للتأهل الأوروبي.. نابولي يحصل على نقطة من فيورنتينا    حضور مخالف ومياه غائبة وطائرة.. اعتراضات بيبو خلال مران الأهلي في رادس    منها سم النحل.. أفكار طلاب زراعة جامعة عين شمس في الملتقى التوظيفي    طرق التخفيف من آلام الظهر الشديدة أثناء الحمل    محكمة الاستئناف في تونس تقر حكمًا بسجن الغنوشي وصهره 3 سنوات    وسط حصار جباليا.. أوضاع مأساوية في مدينة بيت حانون شمال غزة    سعر اليورو اليوم مقابل الجنيه المصري في مختلف البنوك    أكثر من 1300 جنيه تراجعا في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 18 مايو 2024    خبير اقتصادي: إعادة هيكلة الاقتصاد في 2016 لضمان وصول الدعم لمستحقيه    ماسك يزيل اسم نطاق تويتر دوت كوم من ملفات تعريف تطبيق إكس ويحوله إلى إكس دوت كوم    أستاذ علم الاجتماع تطالب بغلق تطبيقات الألعاب المفتوحة    حظك اليوم برج العقرب السبت 18-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    هاني شاكر يستعد لطرح أغنية "يا ويل حالي"    «اللي مفطرش عند الجحش ميبقاش وحش».. حكاية أقدم محل فول وطعمية في السيدة زينب    "الدنيا دمها تقيل من غيرك".. لبلبة تهنئ الزعيم في عيد ميلاده ال 84    عايدة رياض تسترجع ذكرياتها باللعب مع الكبار وهذه رسالتها لعادل إمام    ب الأسماء.. التشكيل الجديد لمجلس إدارة نادي مجلس الدولة بعد إعلان نتيجة الانتخابات    البابا تواضروس يلتقي عددًا من طلبة وخريجي الجامعة الألمانية    دار الإفتاء توضح حكم الرقية بالقرأن الكريم    «البوابة» تكشف قائمة العلماء الفلسطينيين الذين اغتالتهم إسرائيل مؤخرًا    إبراشية إرموبوليس بطنطا تحتفل بعيد القديس جيورجيوس    «الغرب وفلسطين والعالم».. مؤتمر دولي في إسطنبول    دراسة: استخدامك للهاتف أثناء القيادة يُشير إلى أنك قد تكون مريضًا نفسيًا (تفاصيل)    انطلاق قوافل دعوية للواعظات بمساجد الإسماعيلية    حدث بالفن| طلاق جوري بكر وحفل زفاف ريم سامي وفنانة تتعرض للتحرش    الأرصاد تكشف عن موعد انتهاء الموجة الحارة التي تضرب البلاد    هل يمكن لفتاة مصابة ب"الذبذبة الأذينية" أن تتزوج؟.. حسام موافي يُجيب    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر نص كلمة شيخ الأزهر أمام "مؤتمر حوار الشرق والغرب" في الفاتيكان
نشر في صدى البلد يوم 07 - 11 - 2017

ألقى الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، كلمته أمام "مؤتمر حوار الشرق والغرب" في روما.
وقال الطيب فى كلمته، إنه استعرض مع بابا الفاتيكان فى اللقاء الذى جمعهما عصر اليوم، كثيرا مما يقلق ضمير الإنسانية ويحمل لها الألم والشقاء منوها أن الأزهر مع مجلس حكماء المسلمين على استعداد لتقديم كل ما يملك من خبرة لترويج فكرة السلام العالمي والتعايش المشترك.
وأضاف أنه ليس في متون الأديان ولا نصوصها المُقدَّسَة ما يدعو إلى سَفكِ دِماء النَّاس، ولولا تراث المسلمين ما كان لحضارة الغرب أن تستوي على سوقها، منوها أن المسلمون هم ضحايا الإرهاب ويدفعون ثمنه من دمائهم أضعاف غيرهم مئات المرات.
وأكد أن حضارة إنسان القرن الواحد والعشرين ليست إلَّا تراجُعًا حضاريًّا مُخيِّبًا للآمال إذا ما قُورنت بحضارة القرن العشرين، وأن الأديان الإلهيَّة لا يمكن أن تكون سببًا في شقاء الإنسان وهي ما نزلت إلَّا لهداية البشر، مؤكدا أن الحروب التي اشتعلت باسم الأديان سببها الوحيد هو تسييس الدِّين واستغلال رجاله لتحقيقِ المطامع والأغراض
إلى نص كلمة كلمة الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر رئيس مجلس حكماء المسلمين في: مؤتمر الشرق والغرب في مدينة روما
بسم الله الرحمن الرحيم
السادة أعلام المنصة!
الحضور الكريم!
أُحَييكُم بتحيَّةِ الإسْلَام، بل بتحيَّةِ الأدْيَان الإلهية، وَهِيَ: السَّلَامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.. وبعد/
أنا عائد لتوي من جلسة مطولة مع أخي العزيز حضرة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان استعرضنا فيها كثيرا مما يقلق ضمير الإنسانية، ويحمل لها الألم والشقاء، واستشرفنا معا آفاق المستقبل من أجل العمل المشترك لرفع المعاناة عن الفقراء والبؤساء والمستضعفين في العالم، والحقيقةُ أنني مستبشر كل الاستبشار بهذا الرجل الرمز والنادر في أيامنا هذه، والرجل الذي يحمل بين جنبيه قلبا مفعما بالمحبة والخير والرغبة الصادقة في أن ينعم الناس كل الناس بالسلام التعايش المشترك وتكامل الحضارات وتبادل الحضارات.
هذا وإنِّي لأهدف من كلمتي في هذا اللقاء أمام حضراتكم إلى غاية مُحدَّدة هي: الاقتناع بضرورةِ الحوار بين الشَّرق والغَرب وحتميَّةِ استمراره بين حُكماء الفريقين وعُقلائهما، لانتشالِ حضارتنا المعاصِرة مِمَّا أوشك أن يعودَ بها إلى عصورِ الجَهْل والظَّلام على سبيلِ الحقيقة وليس على سبيلِ المجاز.
لقد أصبح العُنف المتبادل بين الشَّرق والغَرب اليوم هو السِّمَةَ البائسة التي تعزل حضارتنا المعاصرة، عن باقي الحضارات الإنسانيَّة التي عَبرَت على صفحات الأزمان والآباد، وأرجو ألَّا أذهب بعيدًا لو تصورتُ أن حضارة إنسان القرن الواحد والعشرين لا تمثل إلَّا تراجُعًا حضاريًّا مُخيِّبًا للآمال إذا ما قُورِنت بحضارة القرن العشرين، وأنَّ القرن الماضي إذا كان قد حفَلَ في مُنتَصَفِه الأوَّل بحربَيْنِ عالميتين راحَ بسببهما أكثر من 70 مليون ضحيَّة، إلَّا أن صُنَّاع الحروب والنافخين على نيرانها سُرعان ما أدركوا فداحة الثمن، وتفاهةَ البواعث التي لم تكن تستحق قطرة واحدة مما أُهْدِر من دماء في هذه الحروب.
ورغم أن بلدان العالم قد انقسمت في ذلكم القرن إلى معسكرين متنافرين أشدَّ التنافر: فكرًا وفلسفة واقتصادًا، إلا أن الحرب الباردة التي كانت تضبط ميزان التعادل بين المعسكرين المتعاديين؛ كانت حربًا بلا دماء ولا أشلاء، وربما توفر للأمم والشعوب في ظلال هذه الحرب الباردة، المتوترة حيًنا والمتراخية حينًا آخر، كثير من الشعور بالأمن والاستقرار، والإحساس بأن زمنًا جديدًا أظل الناس لا حرب فيه ولا موتَ ولا دمار، وإنْ سيطر عليه قَدْرٌ من الخوف من المجهول يشتد أحيانًا ويَفْتُر في أكثر الأحايين.
ثم جاء سقوط المعسكر الشيوعي في نهاية القرن الماضي، وتلاه انهيارُ الأنظمة السياسيَّة الحاضنة للفلسفة الشيوعيَّة، نظامًا وراء آخر، وتَوَهَّمْنا -يوم ذاك-أن أسباب الصِّراع بين الشَّرق والغَرب قد آذنت بالغروب؛ لأن العَدو الذي كان يَتحدَّى المعسكر الغربي، ويُنازعه التوسُّع والانتشار، والهَيْمَنةَ على العالَم، ويتهدَّده بالتدمير والرُّعب النووي. قد سقط إلى الأبد..
وكان من المنتظر، بل من المأمول إنسانيًّا وأخلاقيًّا، أن يبدأ عهد جديد تسود فيه علاقات التعاون والتكامل، وتبادُل المنافع والمصالح بين الدول الثرية والدول الفقيرة، وتلاقح الثقافات والحضارات، بين الغرب والشرق.. عهدٌ يتحمل فيه كلٌّ من الغرب والولايات المتحدة مسؤوليتهما الحضارية، ويدفعون ضريبة التفوق الحضاري والتقني، بل وضريبة التفوق العرقي – أو العنصري - الذي آمن به الغرب طوال عهود الاستعمار، واتكأ عليه في تبرير مهمته الاستعمارية في بلاد الشرق، رغم ما لقيته هذه النظرية العنصرية من تهافت وسقوط على أيدي علماء الأجناس الغربيين أنفسهم.. على أن إيمان الدول الأوروبية بهذه المقولة يحتم عليها أن تقود الأمم والشعوب الأدنى مرتبة منها، والمحتاجةَ إلى شيء مما أفاءه الله على هذه الدول من نعمة الغنى والثراء والتقدُّم التقني والعلمي والفنِّي والإنساني.. وهي نِعمٌ كبرى تستوجب مساعدة الشعوب المحرومة؛ وهي شعوب كانت لها أياد حضارية بيضاءَ على نهضة الغرب وتقدُّمه في شتى مجالات حضارة اليوم..
وهذه العاصمة الأوروبية التليدة الخالدة التي نلتقي فيها اليوم تشهد على أن المسلمين كانوا في يوم ما روادًا للحضارة والعلم والفن، ورُسُلًا للتنوير والتعليم والتثقيف، ولدرجة أنه لولا تراث المسلمين؛ ما كان لحضارة الغرب أن تستوي على سوقها كما استوت عليها اليوم..
نعم كان الظن أن تسير أمور العالم بعد الحرب الباردة في اتجاه السلم والتعاون والتعايش المشترك، غير أن الأمر سرعان ما عاد إلى سيرته الأولى، حين شاءت السياسة العالمية المندفعةُ بمنطق المال والقوة والسلاح، أن تستبدل بالحرب الباردة حربًا جديدة، ومعسكرًا جديدًا أيضًا، هو معسكر بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين، وليتَها كانت حربًا باردة كسابقتها، إذن لهان الأمر وأمكن احتماله، لكنها كانت حربًا من جيل جديد من الحروب، فيه يقتل الضحية نفسه بنفسه، وبمالِه وعلى أرضه، وكالةً عن أنظمة قابعة وراء البحار من سماسرة الحروب وتجار الأسلحة، وكان لابد – والأمر كذلك- من تسويق صورة مشوهة عن «الإسلام» كدِين يحتضن الإرهاب، وينشر دعوته بالقتل وسفك الدماء وقطع الرؤوس باسم الله.
.. .. ..
وليس من همنا الآن أن نبحث –في هذه الكلمة الموجزة-عن ظاهرة الإرهاب، وأسبابها، ومَن المسؤول الأول عنها، ومَن الذي يموِّلها، ومن أين لتنظيمها بهذه القوة المرعبة، والقدرة على التنقل بجيش وعتادٍ وأسلحة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في قارتي: آسيا وأفريقيا دون أن تقف في وجهه حدود الدول وحواجزها.
.. .. ..
غير أن أمانة الكلمة تقتضي التذكيرَ ببعض الحقائق التي لابدَّ من ذِكرها في هذا المقام وهي:
أنَّ المسلمين هم ضحايا هذا الإرهاب، وهم الذين يدفعون ثمنه من دمائهم أضعاف ما يدفَعُه غيرهم مئات المرات، وهم المستهدفون من أسلحته ونيرانه، وضَربُ اقتصادهم وتدميرُ طاقاتهم وإبقاؤهم في حالةِ اللاحياةِ واللاموتِ؛ كلُّها أهداف مبيَّتة ومدروسة بعناية فائقةٍ.
.. .. ..
واسمحوا لي أيها الحكماء والعلماء إن كنت قد أسهبت في عرض أمر معلوم ومعروف لدى حضراتكم، ولدى كثيرين في الشرق والغرب، فقد قصدتُ من وراء ذلك التأكيدَ على أن اجتماعنا اليوم، ومن قبله اجتماعات أخرى شبيهة، ليست ترفًا؛ بل هي ضرورةٌ يمليها البحثُ عن حلٍّ لهذه الأزمة التي بدأت تتمدَّدُ كالسرطان الخبيث في كل مكان.. والتي تبحثُ عن حلٍّ منذ أمد بعيدٍ دون جدوى.
ويسرني أن أؤكد أمام حضراتكم استعداد الأزهر الشريف مع مجلس حكماء المسلمين لتقديم كل ما يملك من خبرة من أجل تعاون –وبلا حدود– من أجل نشر فكرة السلام العالمي، وترسيخ قيم التعايش المشترك وثقافة حوار الحضارات والمذاهب والأديان.
وفي اعتقادي أن المشكلة تكمن في أن العلاقة بين التقدم العلمي، الذي هو: عنوان الحضارة الغربية الحديثة.. بعد ما بدت علاقةً عكسيةً في عصر التنوير، انقلبت رأسًا على عقب إلى علاقة «طَرْديَّة» في عصرنا الحاضر.. فقد بشَّرَنا فلاسفة التنوير بأن تقدُّم الحضارة واتساعَها كفيل بالقضاء على الحروب قضاءً مبرمًا، وبمعنى آخَر: إن «السلام العالمي» سوف يسيرُ في ركاب التحضُّر رأسًا برأس وقدمًا بقدم حتى قال الفيلسوف الفرنسي «كوندورسيه» أشهر دعاة الإصلاح التربوي (عام 1787م) جملته الشهيرة التي تقول: «بقَدْر ما تتَّسِع رُقعةُ الحضارة على الأرض سوف نشهد زوال الحرب وكذلك زوالَ العبوديةِ والبؤس».
ولم يكد يمرُّ على هذا الحُلُم الجميل قرن واحد، حتى استيقظ الناس على واقع مرير انقلبت فيه العلاقة بين العلم والحرب إلى علاقة «طَرْديَّة» تؤكد أنه كلما تقدم العلم ازدادت الحروب فتكًا وشراسةً، وقد تقررت هذه الحقيقة في الثقافة المصرية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، سواء في كتابات علماء الأزهر أو عقلاء الكتاب والأدباء والمفكرين، وهو ما نجده اليوم في كتابات كثير من المفكرين الغربيين، وأحدثُها ما يقوله الفيلسوف البلغاري الفرنسي الذي رحل عن دنيانا هذا العام: «تزفيتان تودوروف» Todorov Tzvetan: «أن الثقافات بكل مكوناتها التقنية والفنية تنتشرُ بسرعة متزايدة في أرجاء الأرض، وتعرفها شرائح كبيرة من سكان العالَم، ومع ذلك فإن الحروب لم تتوقف، والبؤسَ لم يتراجع، وحتى العبودية لم تُلغَ إلَّا من القوانين، أما على مستوى الممارسة فإنها لازالت باقية» .
وهذه العبارات التي قالها انتهى إليها هذا الفيلسوف والتي تعكس واقعَ عالمنا اليوم، تحملني على القول : إنه لا أمَل - في التعويل على التقدم الحضاري في ترويض الوحش الهائج المستكن في ضمير الإنسان المعاصر، وبخاصة بعد ما حطَّم هذا التقدم الحضاري كلَّ مواريث القيم والأخلاق وتأديب الإنسان وتهذيبه، وقَتَلَ فيه غريزة التديُّن، التي هي نفسُها غريزة الأخلاق والفضائل التي يقاوم بها الإنسانُ اقتراف الجرائم في حق نفسه وحق غيره.. و بعد ما أزال الحدود بين الحرية كفضيلة، والعبث والفوضى كرذائل مستنكَرة، وصِرنا لا نعرف فرقًا بين سلوك تمليه حقوق الإنسان في التعبير الحر الملتزم، وسلوك آخرَ فوضوي عبثي يُحسب على مكانة الإنسان ككائن أخلاقي ملتزمٍ، وأيضًا بعد ما أدار هذا التقدم ظهرَه للدِّين وتعاليمِه، واستبدلَ به حريات مطلقة بلا سقف ولا حدود، حتى رأينا من سلوكيات الإنسان المعاصر وتصرفاته ما كان مستحيلًا على ذوي الفطرة السَّويَّة أن يتخيَّلُوه منذ عقود قليلة مضت.
والرأي عندي هو: أن يركِّزَ حوارنا على طرح قضية الدين كطوقٍ للنجاة، وأن تكون لهذه أولويةٌ على قضايا أخرى يُتوقع طرحها مثل: العلمانية، والعولمة، وغيرهما.
وأنا أعلم -سلفًا -أن موقع الدِّين ومكانَتَه بين الشرق والغرب ليس متطابقًا، إن لم يكن شديد الاختلاف، وأن الفلسفات المادية والإلحادية قد تَسْخَر من هذا الطرح، وتهزأ به وتراه تخلُّفًا وعودة إلى عصور الجهل والظلام.
ولكن من حقِّ الشعوب التي تُعاني من سياسات التسلُّط والهيمنة والتهجير القسري، ومن سَفْكِ دماء الملايين من الضُّعفاء والفُقَرَاء والأرامل والأيتام - من حق هؤلاء جميعا أن يقولوا بملء أفواهم: «لا» وأنا معهم هنا في قلب أوروبا أقول: لا، وألفُ لا، بل من حقنا أن نطالب بتصحيح المسار، وبنصيبنا وحقنا في السلام الذي حُرمنا منه، بينما تتمتع به الكلاب والقطط والحيوانات هنا وهناك.
وسوف يقال: إن العودة إلى الدِّين وتعاليمه تزيد الأمر سوءًا، لأن اختلاف الأديان في العقائد والشَّرائع من أقوى بواعث الحروب بين المؤمنين بها، وهل يمكن أن نتجاهل كمَّ الدِّماء التي سُفِكَت في الحروب بسبب صراع الأديان، واقتِتال المؤمنين بها؟ وهل يمكن أن نتجاهل أن أوروبا لم تقض على حروبها الداخلية إلَّا بعد أن عزلت الدِّين جانبًا عن حياة النَّاس فيما سُمِّيَ بالعلمانية؟
وهذه الاعتراضات التي يقتنع بها كثيرٌ من الشباب الآن – غربًا وشرقًا أيضًا - تبدو وجيهة بادي الرأي، لكنها قد لا تكون كذلك إذا ما نُوقشت في ضوء قِراءة صحيحة متعمقة للدِّين، تهدف لاكتشاف محوريته وأهميتِه القُصوى من أجل حياة سعيدة في الدُّنيا والآخرة.
وجوابنا على هذا الاعتراض: أن الأديان الإلهيَّة الموحى بها من الله تعالى على أنبيائه ورسله لا يمكن أن تكون سببًا في شقاء الإنسان، وكيف يُقال ذلك وهي ما نزلت إلَّا لهداية البشر إلى الخير والحق والصواب، أمَّا الحروب التي اشتعلَت باسم الأديان فليس لها سببٌ في القديم والحديث إلَّا سببًا واحدًا هو: تسييس الدِّين وتوظيفه واستغلال رجاله لتحقيقِ المطامع والأغراض.
إنَّ الأديانَ كلَّها قد اتَّفَقَت على تحريمِ دم الإنسان، وصِيانة حياته، ويمكن أن تختلف الأديان في بعض التعاليم حسب ظروف الزمان والمكان، لكنها أبدًا لم تختلف في تحريم قتل الإنسان تحريمًا باتًّا. بعد أن ربطت مصدر التحريم بمرجعيتين: مرجعيَّةِ النَّص المُقدَّس: «لا تَقْتُل»، ومرجعيَّةِ الضمير الأخلاقي ومركزيته في التمييز بين الخير والشر، وقُل نفسَ الشيءِ فيما يتعلَّق بمبدأ الواجب العام والمتعارَف عليه بين الناس جميعًا، وقد جعلت الأديان من الحُكماء والقديسين خُبَراء وعارفين وحُرَّاسًا على هذه الأجهزة الإلهيَّة المغروزة في فِطرة الإنسان، وأهليَّتِها للتوجيه في كُلِّ زمانٍ ومكان.
وهنا يرتبط القُرآن ارتباطًا جذريًّا بالإنجيل والتوراة، فيدعو نبي الإسلام إلى نفس ما دعا إليه عيسى وموسى ومَن سبقهم من الأنبياء والمرسلين عليهم جميعا من الله أفضل الصلاة والسلام. وعلى مَن يُريد أن يقرأ قانونًا أخلاقيًّا واحدًا مكتوبًا بمعنى واحد ولغتين مختلفتين، وفي أزمان متباعدة، فعليه أن يقرأ هذا القانون في الكتاب المقدَّس وفي القُرآن الكريم، وكلُّ ما سيجده القارئ من فَرْقٍ هو أنَّه بينما يَرِدُ في الكتاب المُقدَّس مجموعًا في موضعٍ واحدٍ يجده في القُرآن مُفَرَّقًا في مواضع عِدَّة، وأدقُّ مثل على ذلك: الوصايا العشر في التوراة . مقارنة بهذا الكنز الأخلاقي النفيس والمنجم الإنساني السَّامي القَدْر والعالي الرِّفعة المُسَمَّى بموعظة الجبل، أو ميقات جبل الطور بسيناء في الإنجيل، وما ورد في ذلك من آياتٍ متفرِّقةٍ في القرآنِ في عهدَية المكيِّ والمدَنيِّ. وقد درست هذا الموضوع دراسة هادئة، وخرجت منه بعقيدة غير قابلة للاهتزاز، وهي أن هذه الكتب الثلاثة لا يمكن أن يكون مصدرها إلَّا واحدًا، وأنَّ بينها ما يشبه الأخوة العضوية في هداية الإنسان وحفظ حياته.
وإذن فليس في متون الأديان ولا نصوصها المُقدَّسَة ما يدعو إلى سَفكِ دِماء النَّاس، وليس في سلوك الرُّسُل والأنبياء ما يُفهم منه –من قريبٍ أو بعيد- أنَّ سفكَ دم الآدمي حلال، بل أزعم أنَّ دِماءَ الحيوانات في الشَّرائع الإلهيَّة مُحرَّمَة، وأنها محوطة بقوانينَ وأحكامٍ شرعيَّة كلها رحمة ورِفق بالحيوان.
ويضيقُ المقام -أيها السَّادة - لو رُحنا نوضِّح الفَرْق الشَّاسِعَ البُعد بين حروب بعثتها الأديان، وحروب بعثتها التجارة بالأديان، ولو كان الدِّين مسؤولًا عن عبث العابثين به، لكانت حضارتنا اليوم مسؤولةً عن حربين عالميتين راح ضحيتها كما قُلنا 75 مليونًا، ومسؤولةً عن كل أنهار الدِّماء التي تَسيل اليوم في سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال وأفغانستان وغيرها، فهذه الدماء لا تسفِكُها الأديان وإنَّما يسفكها ظُلم الإنسان لأخيهِ الإنسان، ومَوتُ ضميره وتبلُّدُ إحساسه بآلامِ الآخرين وأحزانهم ومآسيهم. وليس صحيحًا أن أوروبا تخلَّصت من الحروب حين أقصت الأديان من مراكز التوجيه في المجتمع، والصحيح أنها تخلَّصت من الحروب حين قررت ذلك بعدما ذاقت ويلات الحرب ومآسيها في القرن الماضي.
وقد حملت تُهْمَة قابليَّة الأديان لإشعال الحروب بسبب أن المؤمنين بكل دين يزعمون أن دينهم يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن غيرهم على خطأ، وعلى أصحاب الحقيقة المطلقة أن يرجعوهم إليها إمَّا بالإقناع أو السَّيف، أقول: هذه التُّهمة حملت كثيرًا من كبار اللاهوتيين على البحث عن حل لما يبدو أنه «معضلة» الأديان في عالَم اليوم، وطرحت أسئلة عدة في هذه القضية تراوحت بين ضرورة ادعاء امتلاك الحقيقة مع ضرورة إدخال الآخَرِ فيها، وبين تجاهل التناقضات بين الأديان بسبب صعوبة التمييز بين الحقيقة والضلال، وبسبب خضوع الأديان لقانون التطور والتقلُّبات التاريخية، وكأن الحقيقة -في نظر هذا الفريق- هي حقيقةٌ نسبية وليست مطلقة.
ورأىي الذي أستمده من فلسفة الإسلام في هذه القضية؛ هو أن الإيمان الديني اعتقاد يجب أن يرقى إلى درجة العلم الذي لا يحتمل النقيض بحالٍ من الأحوال، أي لا يقبل الشك ولا الظن والوهم، وهذا يتطلَّب بالضرورة ان تكون العقيدة حقيقة مطلقة، وأن ما يناقضها لا ينطبق عليه هذا الوصف.
وفي تصوري أن هذا هو الأساس المتين لبنيان أي دين من الأديان، وإلَّا لو فتح باب النسبية في الدين وقَبول الشك في معتقداته، أو التسليم بأن دِينًا غيره هو أيضًا يمتلك الحقيقة، رغم التناقض بين الدينين في أساس الاعتقاد، لو فتح هذا الباب أمام المؤمنين بالأديان لكان عليهم أن يختاروا بين أمرين: إما الشك في دينهم، وحينئذ لا ينطبق عليهم وصف المؤمنين بهذا الدِّين. أو يقبلوا اجتماع الخطأ والصواب على فكرة واحدة وهذا من المستحيلات التي لا يمكن تصورها، فلابد والأمر كذلك من أن يعتقد كل مؤمن بدين بأنه يؤمن بالحقيقة المطلقة التي لا حقيقة سواها..
وهذا يستلزم الاعتراف بأن الإيمان بنسبية العقيدة الدينية في أي دين من الأديان هو هدم للدين أو وضعه بكل تعاليمه في مهب الريح.
أما النزاع المفترض في هذه الحالة بين المؤمنين المتصارعين حول الحقيقة الواحدة؛ فإنه اعتراض غير وارد لأمرين:
الأوَّل: أن النُّصُوص الإلهيَّة قاطعة في منع إكراه الآخر على قبول دين لا يريده، ويراه جريمة تعادل جريمة قتل النفس، بل تزيد عليها، لأن محاولة نزع الاعتقاد عن المؤمن أقسى عليه من نزع روحه التي بين جنبيه، بل المؤمن بالله يجود بروحه وبنفسه رخيصة من أجل الاستمساك بدينه وعقيدته.. والقُرآن ملئ بالآيات التي تبين عبثية الإكراه على العقائد، لأن العقائد –ببساطة- عمل قلبي، ولا سلطان على القلوب كما هو معلوم.. وآيات الإنجيل في هذا الأمر واضحة وضوح الشمس في وسط النهار.
الثاني: إذا كان إكراه الآخر على اتباع دين من الأديان هو ضرب من العبث واللامعقول، فيجب – والأمر كذلك - احترام عقيدته، والتسليم له بدينه، بل يجب -شرعًا- على الدولة الذي يعيش فيها هذا الآخر المختلف دِينًا، أن تمكنه الدولة من ممارسة شعائر دينه، وأن توفر له دار العبادة التي يتعبَّد فيها، وأن تلتزم بكل الضمانات التي تمكنه من ممارسة هذا الحق الذي لا يرى حقًّا سواه.
وخلاصة القول: أنه لا يتم إيمان بدين إلَّا بالاعتقاد الجازم بأنه الحقيقة التي لا حقيقة غيرها، وأن واجب المؤمن تجاه الأديان الأخرى، التي يعتقد أنها لا تحظى بما حظي به دينُه من تفرد بالحقيقة، واجبُه هو احترام الأديان الأخرى، واحترام المؤمنين بها احترامًا لا يقل عن احترامه هو نفسُه لدينه..
وفرق هائل بين الاحترام الكامل لدين الآخر، وبين الاعتراف والإيمان بدين الآخر.. وفي هذه النقطة تحديدًا زلت أقدام المتشددين والمتطرفين ونبعت دعوات تكفير الآخر وإرهابه وقتله.
أعتذر عن الإطالة، ونشكر لكم صبركم على كلماتي.
والسَّلامُ عَلَيْكُم ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه؛


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.