منذ سنوات طويلة دأبت إسرائيل على توجيه ضربات جوية في عمق الأراضي السورية وفي أكثر من مناسبة ولأكثر من ذريعة، وكان الرد الرسمي من دمشق أن القوات السورية تحتفظ بحق الرد في المكان والزمان المناسبين. ومنذ اندلاع الحرب في سوريا قبل ست سنوات تقريبا، لم تتوقف إسرائيل عن استهداف مواقع سورية في أكثر من منطقة حتى قرب دمشق. لكن هذا المشهد الروتيني في الرد السوري قد شهد تطورا لافتا للنظر في الأيام الأخيرة، إذ قصفت طائرات إسرائيلية مواقع للجيش السوري قرب القنيطرة عدة مرات بعد أن تكرر سقوط قذائف على الجانب المحتل من الجولان، لكن يبدو أن الغارات الأخيرة التي قام بها الجانب الإسرائيلي والتي شهدت ردا من نظيره السوري أثارت انتباه المتابعين لتطور الأحداث علي الأراضي السورية بعد أن ردت القوات السورية باستخدام صاروخين أرض جو أكدت فيها دمشق أنها نجحت في إسقاط طائرتين عسكريتين للجانب الإسرائيلي، وهو الأمر الذي نفته تل أبيب واتهمت نظام الأسد بأنه يعارض الاعتداء على الأراضي السورية على الرغم من أنه يستخدم أفتك الأسلحة لإبادة شعبه على مرأى ومسمع من العالم. - التطور الجديد الذي أخذ شكل الندية يؤكد أن هناك تطورات حدثت على أرض الواقع، خاصة بعد الاتهام المباشر من دمشق لتل أبيب بأن الأخيرة تريد إجهاض مخطط القضاء على الإرهاب في سوريا الذي يحاربه الأسد منذ أكثر من خمس سنوات، وأن إسرائيل تسعى إلى إطالة أمد الحرب بعد قيامها بتدمير قواعد كانت مخزن أسلحة يستخدمها النظام السوري ضد الإرهابيين كما يقول. - سوريا أكدت بالفعل أنها أسقطت طائرتين للجانب الإسرائيلي رغم نفي الأخيرة وسط اتهامات متبادلة من الطرفين، ومراقبة وقلق بالغ من الجانب الروسي الذي يرتبط بتحالف استراتيجي مع الجانبين "السوري والإسرائيلي"، وهو الأمر الذي جعل لافروف، وزير الخارجية الروسي، يطالب الجانبين بضبط النفس، ومحذرا من الاستفزازات في الوقت نفسه، خاصة وهو يعلم أن بلاده تدخلت عسكريا في سوريا بناء على اتفاق تم بين بلاده ومباركة إسرائيلية بعد الاتفاق على تبادل أدوار المسرحية الهزلية التي يقوم المجتمع الدولي بإخراجها وتلعب روسيا دور البطولة المطلقة في هذه المسرحية، كما أن الطيران الحربي الروسي أجرى تدريبات مشتركة مع الجانب الإسرائيلي في قاعدة "حميميم" شمال سوريا تركزت على التحرك بحرية كاملة في الأجواء السورية دون المساس بمصالح تل أبيب. لكن دعنا نتفق على أمور عدة، وهي أن الموضوع من الأساس غير مقنع للكثيرين، وأن البعض يعتبر ما يحدث حاليا من دمشق هو عبارة عن محاولة لتجميل نظام الأسد الذي فقد آدميته أمام شعبه واستباح دماء أبناء وطنه، وبالتالي لا أستبعد أن يكون قد فبرك موضوع إسقاط الطائرتين لإسرائيل لتبييض وجهه خلال المرحلة المقبلة، خاصة أن الاعتداءات المتكررة على دمشق من الجانب الإسرائيلي ليست وليدة اليوم، لكنها مستمرة منذ أكثر من 10 سنوات، كان أولها في عام 2006م عندما حلق الطيران الإسرائيلي فوق القصر الرئاسي قرب اللاذقية وكان يتواجد بداخله بشار الأسد وكان على مرمى النيران الإسرائيلية. - في عام 2007م، نفذ الطيران الإسرائيلي أكبر عملية منذ انتهاء حرب أكتوبر 1973م بعدما قام الطيران الإسرائيلي بقصف موقع "الكبر" النووي غير المكتمل في دير الزور أقصى شمال شرقي سوريا، وبعد اندلاع الحرب السورية بين النظام والمعارضة كثفت إسرائيل اعتداءها على الأراضي السورية، ففي عام 2013م أغارت على شاحنة وحطمتها بدعوى أنها تحمل أسلحة في طريقها إلى حزب الله في لبنان، وفي نفس العام دمرت أيضا مركزا للأبحاث العلمية خاصا بأبحاث الأسلحة البيولوجية والكيماوية في منطقة "جمرابة" قرب دمشق، وفي أبريل نفذ الطيران الإسرائيلي طلعات جوية فوق القصر الرئاسي للمرة الثانية خلال أقل من 7 سنوات، وفي يوليو من نفس العام قذفت إسرائيل مرابض صواريخ مضادة للسفن في اللاذقية. - في ديسمبر من عام 2014م، قصفت طائرات الجانب الإسرائيلي مطار دمشق ودمرت مخازن صواريخ روسية متطورة ومضادة للطائرات كان يستخدمها النظام السوري، وفي ديسمبر من العام الماضي قتلت إسرائيل سمير قنطار، القيادي البارز في حزب الله، وكان موجودا في ريف دمشق. رغم تعدد الانتهاكات الإسرائيلية في حق الجانب السوري، إلا أن رد دمشق كان ردا باهتا يحمل بين طياته مجموعة من التصريحات التي تحمل شكل بيان يكاد يكون مكررا على مر الأعوام العشر الأخيرة، وهو أن دمشق لها حق الرد في الوقت والمكان المناسبين، وهو الأمر الذي يجعلنا نرصد سؤالا مهما للغاية: لماذا جاء الرد هذه المرة مختلفا عن المرات السابقة سواء تم إسقاط الطائرتين الإسرائيليتين أم لم تسقطا؟ أعتقد أن الإجابة المنطقية عن هذا السؤال هي أن هناك متغيرات بالفعل على أرض الواقع لصالح النظام السوري الذي نجح في تحرير عدة مدن وقرى كان يحتلها تنظيم داعش والمعارضة السورية، كما أن الملاحظ أن الرد السوري جاء بعد انتهاء الغارات الإسرائيلية بخمس دقائق، وهو الأمر الذي يؤكد أن سوريا أرادت أن ترسل رسالة بأنها لديها إمكانيات الرد على الجانب الإسرائيلي، وأن سوريا لديها بطاريات الصواريخ القادرة على إسقاط الطائرات المعادية، وهو الأمر الذي يؤكد أن سوريا لم تسقط طائرات للجانب الإسرائيلي، وأن الموضوع كله عبارة عن مسرحية يشترك فيها الجانب السورية والإسرائيلي تحت رعاية وإخراج روسي، بدليل أن هذه العملية جاءت بعد قرار كيري لافروف الذي يقضي بوقف الأعمال القتالية على الأراضي السورية كلها، فأراد النظام السوري أن يرسل رسائل عديدة، منها أنه يريد أن يقول إنه الجهة الوحيدة التي تقرر التعامل مع الخارج هو النظام السوري وليس الأطراف الأخرى المتصارعة، وإن بطاريات الدفاع الجوي سليمة وتقع تحت سيطرة نظام الأسد وتعمل بشكل جديد وتشكل تهديدا حتى ولو كان تهديدا معنويا للجانب الإسرائيلي رغم الحرب التي استمرت قرابة 6 سنوات. كما أن بيان دمشق عبارة عن مسرحية مكشوفة تقول إنها أرادت تأهيل النظام السوري للعودة مرة أخرى على طاولة المفاوضات، وإن بشار الأسد طرف أصيل في المفاوضات، وإنه تواجد أكثر مما كان بعد تراجع أنقرة عن مهاجمته واتفاق الأطراف الدولية على بقاء الأسد. في النهاية، يجب أن يعلم الجميع أن روسيا هي الطرف الغائب الحاضر في كل ما يحدث على الساحة السورية، وأنها على علم كامل بما يحدث وما يدور خلف الكواليس، وتدير هذه الأحداث بغرض كسب المزيد من النجاحات في الأزمة السورية، وأنها أعطت الضوء الأخضر للنظام السوري بالرد الذي حدث، خاصة أن الرد جاء بعد انتهاء العمليات التي نفذها الجانب الإسرائيلي، وهو الأمر الذي يؤكد أن جميع أطراف المسرحية التي حدثت خرجت رابحة إعلاميا لأنها نجحت في إشغال الآلة الإعلامية من الاهتمام بقضايا مهمة مثل مصير الشعب السوري، إلى الاهتمام بعدد من القذائف الصوتية أطلقها الجانب الإسرائيلي ورد الجانب السوري، ومباركة من الجانب الروسي بنجاح ساحق للمسرحية الهزلية التي حدثت واقتنع بها الشارع العربي.