عندما أنظر إلى حالة التدهور والتدني بل والانحطاط الذي وصل إليه حال التعليم في مصر، اتذكر على الفور المشهد التاريخي الذي قام به الفنان الكوميدي الكبير "نجيب الريحاني" في فيلم "غزل البنات" عندما ذهب ليعلم بنت الباشا في القصر ، وهو في انتظار الباشا دخل عليه احد العاملين عند الباشا بلباس مهندم ومظهر انيق ، فانخدع في مظهره وظن انه الباشا ، فقال له : انا مش سعادة الباشا ، انا مخصوص هنا علشان الكلب ده، فرد عليه نجيب الريحاني " الاستاذ حمام" ساخراً : وبتقبض ماهية على كدة ؟ فقال له: 30 جنيه بس ، ورد عليه الريحاني بسخرية مغلفة بالدهشة والصدمة : 30 جنيه بس ، لا حرام ؟ ليه ما تطلبش اعادة نظر،علاوة ، تنسيق ، فقال له :ضروري هاطلب ايه يعني 30 جنيه انا باوكله واحميه وافليه ولا بتوع المدارس ، فرد عليه الريحاني : هم بتوع المدارس بيوصلوا ل 30 جنيه ؟ وهنا سأل العامل نجيب الريحاني قائلا : هو حضرتك بتشتغل إيه ؟ فأجابه بسخرية : انا بتاع كتب .. بتاع علم !! وبعدها تركه العامل ، وجلس الريحاني منتظرا الباشا يكلم نفسه ويندب حظه قائلا : 30 جنيه ! ، أنا لو من 18 سنة باعلم كلاب كنت بقيت من الأعيان. ولعل هذا المشهد يلخص بوضوح جزءا مهما وجوهريا من اسباب انهيار منظومة التعليم في مصر وفشلها فشلا ذريعا بل وبامتياز ، وهذا ليس كلامي بل كلام مؤسسات عالمية كبرى متخصصة في جودة التعليم حيث احتلت مصر المركز الاخير عالميا في جودة ادارة المدارس والمرتبة 136 من بين 144 دولة ، والمركز 120 في الابتكارات والاختراعات ، ولكي نكون امناء مع انفسنا ونريد تطويرا واصلاحا للتعليم ، يجب ان نعترف أن منظومة التعليم في مصر فاشلة ، والكلام عن جودة التعليم كلام فارغ وفض مجالس، وان ملف التعليم الذي يعد واحداً من اهم واخطر الملفات التي تتعلق بالأمن القومي المصري اصبح سوقا ومافيا للهليبة والمنتفعين واصحاب المصالح ، ولا عزاء لدولة العلم التي نرجوها . لقد لخص مشهد نجيب الريحاني اوضاع المعلمين في مصر مقارنة بمن يربون الكلاب في قصور الاثرياء ، مما جعله يشعر بصغر النفس امام هذا الشخص وتتضاءل امامه قيمة العلم والكتب ...!!! يا سادة لا تصدعونا بتطوير التعليم وجودته بدون ان تهتموا بالمعلم واحواله المعيشية ، فالمعلم هو قاعدة الارتكاز في منظومة اصلاح التعليم ، ويجب النظر بشكل جدي الى مرتب المعلم ، وتدريبه وتطوير قدراته ومهاراته ، ليس بدورات تدريبية شكلية تنفق فيها الوزارة ملايين بلا جدوى وفي الاخر ياخذ المدرس شهادة تدريب او اجتياز دورة ، فجودة التدريب غائبة وبها فساد ، وان كنا نريد تطويرا حقيقيا وجودة في التعليم لابد من النظر الى جودة المناهج وربطها بالواقع ومتطلباته وتفريغها من الحشو وتنقيتها من التضليل والتمييز والحض على الكراهية بل واحيانا الارهاب ، ولا يتأتى تطوير المناهج الا بثلاثية المتخصصين والطالب والمعلم ، فلابد ان يؤخذ رأي الطالب عبر استقصاء او دراسات بحثية او استطلاعات رأي او برامج تليفزيونية تجمع بين الطالب والمعلم والمتخصص في تطوير المناهج بل وممثلين عن اولياء الامور حتى لا يكون التطوير منفصلا عن الواقع وتحدياته ، ونهدر موارد الدولة وندخل من جديد في دوامات متواصلة من الفساد الذي يكتنف التمثيليات التي نسمعها كل يوم عن تطوير التعليم والمناهج. وفي رأيي ان منظومة تطوير التعليم ايضا تحتاج الى اصلاح اداري بعيدا عن البيروقراطية وتغيير بعض القوانين لتتناسب مع متطلبات العصر وراحة المعلم نفسه ، وضمان اجور عادلة لكل القائمين على العملية التعليمية والاداريين ، ولك ان تتخيل آلاف القضايا المرفوعة في المحاكم من المعلمين والاداريين ، وكم القوانين الفاسدة التي تهدد استقرار المعلم وتنغص عليه عيشته وعيشة اهله ، هل يتخيل احد ان وزارة التربية والتعليم بل وحكومة مصر بعد 30 يونيو عاجزة عن اجراء عملية نقل لمدرس او مدرسة ويذوق المدرس الامرين حتى يتم نقله ولا ينقل الا ببديل او بواسطة !!! مع ان الحكومة لو فكرت لوجدت حلولا فعالة ومبتكرة لهذه المعضلة التي تؤرق الاف المعلمين والمعلمات الذين يريدون النقل من مكان لاخر ، فتوفير المناخ الملائم للمعلم نفسيا وماديا هو احد اهم مدخلات جودة العملية التعليمية. وكنت أتمنى ان تفكر الحكومة المصرية ووزارة التربية والتعليم بشكل جدي في استحداث محكمة متخصصة للتعليم في مصر وهذه المحكمة كنت طالبت بتأسيسها ايام جماعة الاخوان ولكنهم لم يلتفتوا اليها ، وهي ستخدم الافا مؤلفة من المدرسين الذين لهم شكاوى وقضايا في المحاكم تتعلق بالعملية التعليمية وتسرع في البت فيها ، وايضا لا يجب اغفال تطوير منظومة الرقابة الصارمة على سير الامتحانات والكنترولات في عملية اصلاح جودة التعليم بدلا من هوجة الغش والتسريب للجميع التي نشهدها حاليا وهي تؤكد على فشل الوزارة الحالية فشلا ذريعا يستوجب اقالة الوزير فورا دون تعليق شماعة الاخفاق على الاخوان ، وتطوير التعليم نفسه يحتاج الى تطوير آلية وضع الامتحانات وتغييرها بل ونسفها حتى تعبر الامتحانات عن قياس مهارات وقدرات الطالب العلمية وليس قدرته على الحفظ ، فلا يجب ان تتعامل الحكومة مع عقل الطالب على انه كوسة او كرنبة يمكن حشوها او انه ببغاء يحفظ فقط ما يسمعه ويكتبه في ورقة الاجابة . والحق اقول ان تطوير التعليم ليس مرهونا فقط بتطوير المناهج وجودتها فقط بل مرهونا بدور اجهزة الدولة كافة ومنابرها الاعلامية ومؤسساتها التي يجب ان ترفع من قيمة العلم والعلماء وايضا لابد ان يشعر الطالب بأن هناك مردودا سيأخذه من العملية التعليمية بعد التخرج والا يصاب بالاحباط ، فعندما هانت قيمة التعليم والعلم على الحكومة ومؤسساتها وجدنا طلابا محبطين ويلجأون للغش لانهم لا يرون جدوى او فائدة من التعليم ، وعندما هانت على حكومتنا قيمة العلم والعلماء والابتكار هربت العقول المفكرة واصحاب الابتكارات ، ولا يوجد ابلغ دليل على كلامي هذا من تصريح الدكتور احمد زكي بدر لاحد المخترعين عندما قال لمخترع وعلى الملأ: اطلع بمشروعك على امريكا على طول !!! وهو تصريح كارثي يلخص ازمة مصر الحقيقية في العلم ! فمنظومة التعليم الحالية كرهت التلاميذ في المدارس وكرهتهم في العلم. وفي النهاية أؤكد على ان منظومة اصلاح التعليم منظومة لا ترتبط فقط بالعملية التعليمية من طالب ومعلم ومتخصص تطوير مناهج بل منظومة متكاملة يجب ان يراقبها الجميع ويشارك في صياغتها لانها لا تنفصل عن المجتمع بكل هيئاته ومؤسساته ويجب ايضا ان يكون هناك اشراف كامل ومتابعة دورية وصارمة من مؤسسة الرئاسة على هذا الملف المفصلي والهام الذي يعد اصلاحه بمثابة اصلاح لمسار مصر كلها في شتى المجالات.