في الطريق إلى ضريح عبد الناصر ..فاليوم هو يوم رحيله ..قلت : ربما أجد العشرات ممن جاءوا يتحاملون علي عكاكيز من أجل الذكري التي نعيش عليها عندما يتقدم بنا العمر ونقترب من النهايات .. 46عاما علي الرحيل، أم 46 عاما علي الحضور الذي يقاوم الرحيل .. القاهرة كما هي في هذا اليوم من أيام سبتمبر الحزين .. لم تستطع أغاني الثورة التي انطلقت عندما أدرت مؤشر راديو السيارة أن تزيل مشاعر مغلقة .. مشاعر بين بين .. لم أستطع أن احزن وأيضاً هناك شيئا غير الحزن والتفاؤل .. شيء مغلق ربما تحسمه العشرات الذين أتوقع ان أراهم عند الضريح يقرأون الفاتحة لعبد الناصر. لم يكونوا عشرات .. الأعداد تتزايد .. والمكان لا يتسع ..والناس في كل شبر وحول الضريح لا يتحركون ..إلى متي أرادوا الانتظار..؟ ..وعلي الأرائك يجلسون كما لو كانوا في حجرة استقبال ببيوتهم ..إلى متي أرادوا الجلوس ؟ .. وكأن الانتظار في حضرة عبد الناصر مع حالة الحزن يمنحهم شيئا من روحه .. هل هو حزن الرحيل؟ ولكن الرحيل كان منذ عشرات السنين الكفيلة بتصغير الحزن علي كل غالي ..هل هو انتظار بسبب الحيرة التي تغلف البشر والأشياء وتصبح سمة حياتنا اليومية؟ ربما. ولماذا لم تستطع باقات الزهور التي تكاثرت في المكان أن تتغلب على الحزن والحيرة؟ ولماذا تمكنت الابتسامات الواهنة من وجوه البشر كما أراها؟ ولماذا كانت كل الكلمات خالية من المعني وكان السكوت هو المعني؟ هو حزن الحضور وليس حزن الغياب .. حزن الحضور الذي تستدعيه سنوات الرحيل عاما بعد عام ويرفض الرحيل.. استدعينا حضور عبد الناصر في السنوات الطويلة التي عز فيها الخبز وعزت فيها علامات السيادة .. استدعينا كلماته من البدايات .. بدايات الأرض التي استحقتها الأيدي الشغالة وانتظرت ثمارها لتعلم الولد والبنت وتغدو انتقالا اجتماعيا وطبقيا بعد أن صارالأطفال، الذين ارتدوا مريلة تيل نادية وحملوا الشنطة الدمور وكتبوا في كراسة غلافها يحمل قيم ومبادئ، صاروا ضباطا ومهندسين وأطباء ومعلمين، إلى الأرض التي نهبت وتحولت إلى قصور ومنتجعات تتغول بها رأسمالية الكبار.. وتتغول بها طبقة كانت مستودعا للتوازن والقيمة، وأصبحت ترتع في عنصرية فجة وكذب وادعاء ينحر في مجتمع أغلبه من الفقراء الذين حاول عبد الناصر أن يؤسس لهم نصيبا من الدنيا أيضا.. استدعينا كلماته من البدايات.. بدايات "إسرائيل" والأمريكان قال عنهم : لو رضوا عني .. تعرفوا اني ماشي في السكة الغلط!! السكة الغلط !! هل حزن الحضور الآن هو حزن وحيرة السكة الغلط؟ سكة رأسمالية المتوحشين وتعليمات صندوق النقد البنك الدولي اللي بيساعد ويدي .. وقال لنا ما لكمش عندي؟؟ هل هو حزن وحيرة السكة الغلط التي تراكم كل ما ليس له صلة بعبد الناصر بعد أن دفع المصريون من حياة الأبناء وعيونهم ثمنا لإمكانية السكة الصح .. حتي لو لم تكن سكة عبد الناصر .. ولكن طريق كل الدول والشعوب التي تحررت من البنك والصندوق والإدارة الامريكية. كانت الحيرة وحزن الحضور وليس حزن الغياب هو المهيمن علي ملامح الناس وابتسامتهم الواهنة الخالية من الروح .. كانت الكلمات التي تقول كل شيء ولا تقول أي شيء .. كان الأمل الذي تعاظم يوما والفرحة التي ما بعدها فرحة ثم تحولت إلى حيرة وخوف من مستقبل لا يبشر بخير .. خوف من بلد تطرد شبابها ولا تحزن لأن الحزن تحول إلى سلوك يومي وعادي!! حزن الحضور وحيرة الحضور دفعتنا دفعا إلى حضرة عبد الناصر.