طوال عاميين ماضيين كانت الجبهة الشمالية في سوريا تستقطب انظار و اقلام المحللين و خبراء الحرب و الإستراتيجين، كونها جبهة هامة تتقاطع فيها أحلام و طموحات القوي الاقليمية و العالمية، فضلاً عن كونها بوصلة طاولة المفاوضات و محركها الرئيسي، التي تتغير منها الأجندات، و تتشابك أو تتعقد أكثر. ها هي حلب قلعة الحرب في الجبهة الشمالية و التي تحولت لثقلها الإستراتيجي و مركزها الجغرافي إلي مسرحاً تُقطع فيه الرؤوس، و تُرفع فيه الرايات السوداء، و يُراق علي ارضها الدماء كشلالات لا تنضب ابداً. بدت حلب و احيائها الشرقية في خدمة الارهابيين. كم سخيفة الحرب السورية الدائرة الآن، لا تعرف قيمة لتاريخ، أو أمة عريقة شريفة، مقاومة، كريمة، فيّاضة. لا تعرف قيمة للحجارة التي تتهدم في احياء حلب القديمة، و دمشق و تدمر، حمص، تلك الحجارة التي شكلت الحارات القديمة و البيوت و النوافذ و احتضنت حتي زهرات ياسمين الشام بين جدرانها و أبوابها. و عبٌقت هواء الاحياء القديمة بنسمات لا تمر عليك إلا بشريط سريع و طويل من السلام و العيش الرغد و الشمس الدافئة. احتوت تلك الحجارة أجيال، و ذاكرة قديمة طيبة، مفعمة بمحطات رقيقة تمس قلوب السوريين، إلا أن الحرب أبت أن تظل الحجارة كما هي، فها هو المحسيني، قائد جيش الفتح الارهابي، يخطب من قلب الجامع الاموي في حلب بعدما نجح جيشه المريض الذي لا يعرف قيمة الارض التي يدوسها بأقدامه و يدمرها بمفخخاته، في اختراق الدفاعات السورية جنوب و غرب حلب، و فتح ثغرة تكسر الطوق السوري لاحياء حلب الشرقية مطلع اغسطس الماضي. المكان: تخوم (خان طومان) في الريف الجنوبي لحلب. الزمان: مطلع شهر أغسطس حشود وصلت ل عشرة آلآف مقاتل من جيش الفتح و 30 فصيلاً آخراً ينطوي بعضها لما يسمي بالمعارضة المعتدلة و البعض الآخر إرهابياً من الألف للياء و بقرارات مجلس الأمن في الأممالمتحدة، السواد الأعظم من المقاتلين يتبعون غرفة عمليات واحدة يديرها جيش الفتح، مدرعات مفخخة و انغماسيين تركستان و اوزبك، الجميع حول "قصعة" واحدة بدت في الافق المريض البعيد، ثغرة وحيدة لكسر طوق الجيش العربي السوري حول أهم ساحة صراع اقليمية " مدينة حلب". سعي هؤلاء و من خلفهم الداعمين و الممولين إلي ايجاد معادلة مقابلة، لمعادلة " الكاستلو" ذلك الطريق الهام الذي بسيطرة الجيش العربي السوري عليه سَجَن مسلحين حلب و عزلهم عن اي خطوط للدعم و الامداد لأول مرة. جحافل من المقاتلين، ذوي القلوب السوداء و البصائر العمياء، تنطلق بإستراتيجية منسقة إلي حد كبير، تمهيد مدفعي و صاروخي و من ثم عربات و مدرعات مفخخة ورائها آلآف من المقاتلين الذين حضروا للميدان للذبح و القتل و التدمير. بهذه الاستراتيجية و العنفوان المتصاعد لاساليبهم القتالية سقطت قلاع الجيش العربي السوري واحدة تلو الاخري، من بلدة المشرفة و تلتها و مدرسة الحكمة و تلتها، ثم الانطلاق تباعاً صوب الكليات العسكرية لتسقط هي الاخري في براثن حقدهم الدامي، كلية التسليح و المدفعية و الفنية الجوية التي كانت تكتسي جدرانها بالعلم الفلسطيني و السوري معاً، بدا القدر واضحاً هنا، و رسم الصورة المثالية لمغزي الحرب السورية، هدم قلعة المقاومة الشريفة التي لم تبخل قط علي القضية الفلسطينية بالدعم السياسي و المعنوي، رصاصات الارهابيين اخترقت جدران الكليات العسكرية و حفرت في العلم الفلسطيني المرسوم هناك، و امطرته بوابل من الرصاص، كأنها خناجر في قلب بلد شريف ادخل أدبيات المقاومة في نفوس ضباطه و جنوده منذ الصغر. من يهتفون بإسم الأقصي و تحريره من براثن اليهود الطغاة، قد دمروا للتو كليات عسكرية لجيش نظامي كان دوماً يرفع العلم الفلسطيني في وحداته العسكرية و مناوراته العسكرية. سقطت الكليات العسكرية تباعاً و اتجه المحسيني و مقاتليه إلي الراموسة التي تحتكم علي طريق هام يعادل طريق الكاستلوا و فتحوا الثغرة هناك. كانت ثغرة "الراموسة" تحت السيطرة النارية للسوري الصامد و حلفائه، لم يصارع السوري الارهابيين فقط، و إنما الوقت ايضاً، إذ تنتظر طاولة جنيف ما آل إليه الميدان السوري، الكل يسابق الوقت ليحقق انتصارات عسكرية تعزز مقعده. أدرك السوري ان جنيف هذه المرة لن تكن كسابقاتها، و كعادته حين ينقض فإما النصر أو الموت في سبيل التراب السوري و جدران حلب و دمشق و حمص القديمة، في سبيل ذكري البلد الشريف الذي لم يعرف قط الشحن الطائفي بهذه الصورة. بإستراتيجية (التشتيت النيراني) اشعل الجيش السوري و حلفائه محاور وهمية في منطقة الدباغات بمحور معمل الاسمنت بالتمهيد المدفعي و الصاروخي، ومن ثم التقدم من محور مختلف تماماً وهو محور (الكليات العسكرية) في هجوم سريع و خاطف، تحت الغطاء النيراني للمقاتلات السورية و السورية، استبقه تمهيد مدفعي و صاروخي كثيف جعل من مجمع الكليات العسكرية كمائن لاصطياد ارهابيو الفتح، و خنجراً يذبح نعرات المحسيني ضابط الارتباط السعودي الذي سوق لفكرة تحرير كامل حلب من قبضة الجيش السوري و حلفائه. لم يكتف الجيش السوري بذلك بل انطلق صوب بلدة المشرفة و سيطر عليها وع تلتها الاستراتيجية , كما سيطر على كتيبة الدفاع الجوي و المقالع وتلتها و منطقة البرادات وتل السيرتيل ومعمل البراغي والزيوت بعد اشتباكات قتل فيها العشرات من ارهابيي جيش الفتح التركستاني مع فرار العديد منهم باتجاه الريف الجنوبي. و الآن وصل الجيش العربي السوري إلي محيط (خان طومان)، بعدما أفقد الارهابيين خسائر فادحة في الهجمات الأولي، و استنفذ قدراتهم التعبوية القتالية، و التي لا تصمد عادة أمام هجمات طويلة ذات إطار زمني واسع، فأموال الخليج لن تخلق مقاتلاً من العدم و تضعه في قلب الميدان بين ليلة و ضحاها. بدا وضحاً أن أبوب الحرب الحلبية بصدد الإغلاق بعدما خرجت الأمور عن سيطرة الكبار، و إعادة خلط الاوراق و كذلك الخطوط التي تجمع و تفرق كل منهم علي حدة. ميدان حلب يستنفذك و يضع خططك في مهب الريح، فهنالك جيش منهك، يقاتل حتي الان بشراسة و لن يترك حلب ابداً ابداً. كانت تلك الرسالة التي اوصلها الجيش العربي السوري للجميع، ف بدون حلب ستُقَسّم سوريا من الغد، بدون حلب لن يساوي مقعدك في جنيف ثمن تذكرة السفر لأروقتها. ثغرة الراموسة الان اصبحت من كيلومترات لبضع مئات من الامتار، بين فكي النمر و قواته. فهل يعي المحسيني و مموليه أن الراموسة خارج نطاق خدمته الان و كذلك حلب؟ يبدوا أن حجارة دمشق و حمص و حلب، تحب السوريين و تأبي أن تتدّمر دون أن تترك لهم ذكري انتصار حاسم هنا او هناك.