أصبحت حرفة صناعة الجريد التي كانت تشتهر بها محافظة سوهاج على وشك الاختفاء، واقتربت من لفظ أنفاسها الأخيرة بعد أن دهسها قطار التكنولوجيا وفر هاربًا، مما يهدد مستقبل الحرفة بالاندثار ودخولها طي النسيان. تشتهر هذه الصناعة في عزبة الحمى بمركز طما، حيث يعمل بها عشرات الأشخاص ويعيشون عليها، ويبيعون منتجاتهم الجريدية للقرى والمراكز المجاورة، كما تشتهر عائلة «القفاصين» بمدينة طهطا بهذه الصناعة التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، ويحاولون الآن تعليمها لأبنائهم حتى لا تختفي، وفي مركز المنشأة يعمل بها بعض الأشخاص أيضًا ويبيعون منتجاتهم لغالبية مراكز جنوب المحافظة. «البديل» التقت بأصحاب هذه الصنعة التي تصارع الاحتضار بمدينة طهطا، فوجدت عم أحمد علي، الرجل الخمسيني، وهو يجلس القرفصاء مستخدمًا أدواته الحديدية التي يدق بها على أعواد جريد النخيل أسفل خيمة بشارع رفاعة باشا، الذي تحول اسمه لشارع القفاصين، مرددًا: أنا بافتخر بمهنتي دي لأنها صناعة مصرية أصيلة من أيام الفراعنة، وكفاني ذل السؤال لأن صحتي دلوقت لا تساعد على العمل في أي مهنة غيرها. ويعتمد عم أحمد في مهنته على أدوات حديدية غير معتادة للقياس وتقطيع الجريد بأشكال هندسية مختلفة الأحجام، فمعه قطع خشب يقيس بها طول وعرض وارتفاع الجريد، وقطعة من المعدن تسمى «علام» لتخريم الجريد، وساطور للتقطيع وسلاح معدني يشبه السيف لتقليم أعواد النخيل وقرمة من الخشب مثبته علي الأرض يدق عليها الجريد ويخرمه بمقاسات ثابتة ومحسوبة، مضيفًا: أهم حاجة في شغلتنا المقاسات المظبوطة علشان تعمل قفص يستحمل ويعيش مع الزبون. وعن أنواع وأشكال المنتجات المصنوعة من الجريد، يقول عم أحمد القفاص: نصنع سرير الأطفال ونبيعه ب20 جنيهًا، وطاولة العيش ونبيعها ب3 جنيهات، وكفاية الفراخ ونبيعها ب20 جنيهًا، وقفص الفاكهة ونبيعه ب5 جنيهات، كما أننا نصنع كرسي الهزاز لكن بالطلب ونبيعه ب150 جنيهًا، حتى فوانيس رمضان والزهريات وترابيزات الحدائق والمقاهي يتم صناعتها من الجريد. عم محمود أحمد 52 عامًا تعلم هذه الصنعة أيضًا في وقت مبكر، منذ أن كان عمره 15 عامًا، وأصابته بالعديد من أمراض العظام؛ بسبب الجلسة التي تتطلبها هذه الصنعة، وبث لنا مخاوفة على مستقبل هذه الصناعة التي قاربت على الانقراض؛ لقلة الطلب عليها بسبب الانتشار الكبير للمنتجات البلاستيكية، وتابع: نحاول الحفاظ على تلك المهنة التي توارثناها عن أجدادنا، من خلال الاستمرار فيها وتعليمها لأولادنا. ويشتكي عم محمود من كساد سوق منتجاتهم الجريدية قائلًا: طول عمري لم أعان من كساد السوق مثل هذه السنوات الأخيرة؛ بسبب انتشار الأقفاص البلاستيكية بشكل كبير، والتي أثرت بالسلب على صناعتنا، فغالبية التجار بالأسواق يلجأون حاليًا لتلك الأقفاص الحديثة لأنها أطول عمرًا من الجريد وغير قابلة للكسر بسهولة ورخيصة. واختتم محمود القفاص حديثه مع «البديل»: كانت عائلتنا منذ فترة تعمل جميعها بصناعة الجريد، وكنا نتسابق فيما بيننا بأشكال المنتجات، لكن الآن أصبحت أنا وشقيقي أحمد آخر من يعمل بتلك الحرفة من العائلة، ولا أنوي تعليمها لأبنائي لأنها لن تنفعهم في المستقبل.