انتهت فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ال34 ، و أعلنت النتائج و التي غالبا ما تثير الجدل حولها في كل عام ، و بغض النظر عن رغباتنا في نيل بعض الأفلام التي نراها من وجهة نظرنا أنها أجدر بالفوز ، فنحن أمام أمر واقع سواء اتفقنا أم اختلفنا عليه . و هنا سوف نقدم قراءة لفلمين من أفلام المسابقة العربية . الأول هو الفيلم اللبناني” رصاصة طائشة ” لجورج هاشم ” و الذي فاز بجائزة أفضل سيناريو مناصفة مع الفيلم العراقي ” أبن بابل ” لمحمد الدراجي . و الثاني هو الفيلم التونسي ” آخر ديسمبر ” لمعز كمون ، حيث نالت بطلته شهادة تقدير لتميزها في أول ظهور سينمائي لها . و كنا قد قدمنا منذ أيام قراءة للفيلم المغربي الرائع ” الجامع ” لداود أولاد السيد ، و الذي حصل مخرجه علي شهادة تقدير من المهرجان عن هذا الفيلم. ” رصاصة طائشة ” .. نيران الحرب تهدم الفرح يتطرق فيلم ” رصاصة طائشة ” لمخرجه و مؤلفه “جورج هاشم ” إلي الحرب الأهلية اللبنانية و التي بدأت في عام 1975 ، و لكنه اختار مرحلة الهدنة التي تلت الحرب ، و بدأ أحداث فيلمه بعام 1976 حيث ظن من عاش في هذه الفترة أن الحرب انتهت و يستعرض ذلك من خلال احدي العائلات المسيحية و هي عائلة ” نهي ” (نادين لبكي )، التي عاشت تلك الأحداث . و يعد هذا الفيلم الأول لهاشم . تدور الأحداث حول “نهي ” التي تستعد للزواج بشخص أكبر منها سنا ، لم تربطها به أي علاقة عاطفية ، و ذلك بعد أن فشلت قصة حبها ل”جوزيف مارون ” الذي استجاب لرغبة والدته في إنهاء علاقتهما لأنها تكبره سنا ، فتقرر أن تتصل به قبيل زواجها و تحدد معه موعدا غراميا ، ليكون آخر لقاء لهما فهي لاتزال تحبه رغم ضعف شخصيته و سلبيته . و لكن تحدث بينهما مشادة لأنه فرط فيها بسهولة ، فتتركه و تسير وسط الأحراش ، و هنا تتولد الشرارة الأولي التي تقلب حياتها رأسا علي عقب ، ففي الأحراش تفاجأ ببعض الميلشيات يطلقون النار علي أحد الشباب ، ثم تري بعينها اختطافهم لحبيبها “جوزيف ” ، لتعود إلي منزلها في حالة يرثي لها . و تفاجأ بأن السيدة التي كانت وسط الميلشيات هي نفسها خطيبة شقيق زوجها المنتظر ، فترفض فكرة الزواج نهائيا سواء من ” جون ” أو غيره ، و تقرر أن تبقي بدون زواج مثل شقيقتها “ليلي ” التي استسلمت لجبروت أخيها حين فرق بينها و بين حبيبها و من يومها عزفت عن الزواج تماما . و عندما يعلم شقيقها “عساف ” هذا يضربها و يطردها من البيت في وقت متأخر ، فتلحق بها الأم إلا أنها تلقي مصرعها في الحال برصاصة طائشة ، حيث بدأت الحرب في الاشتعال من جديد ، فتري “نهي ” هذا المشهد الرهيب و ينتهي بها الحال بإحدى المصحات للعلاج النفسي بعد أن أصيبت باكتئاب حاد . لعل أحد أسباب نجاح السيناريو هو اللعب علي الموروث سواء بالألفاظ أو العبارات التي يشير من خلالها إلي أهداف أخري دون اللجوء إلي المباشرة مثل الأحلام و تأويلها ، فالحلم الذي رواه “جوزيف ” لنهي بأنها كانت تقود السيارة و هو يجلس إلي جوارها ، إشارة إلي أنها الطرف الأقوى في هذه العلاقة و أنها دائما ما تبدأ بالفعل ، بينما يكتفي هو بأن يكون رد فعل . كذلك أعتمد علي احدي المعتقدات السائدة و المستمدة من الموروث الشعبي و فكرة أن فستان العروس الذي حدث لصاحبته أمرا سئ ليلة زفافها و لم يتم العرس ، و ارتدته بعد ذلك عروس أخري لأن هذا ينبئ بأن الزواج لن يتم . و هذا ما حدث حين ارتدت “نهي ” فستان ” ليلي “، و أشارت في ضيق إلي هذا الأمر. من بين المشاهد الجميلة في الفيلم رغم طولها ، مشهد الذي تفاجأ به “نهي ” ب”كوليت ” و هي السيدة التي رأتها وسط الأحراش ، في السهرة التي أقامتها أسرتها للاحتفال مع أهل العريس ، و رد فعلها الذي لم تستطع عينها أن تخفيه ، فيدور حوار بين الأسرة حول الحرب الأهلية وويلاتها . هذا المشهد كان بمثابة مباراة في الأداء المتميز بين الأبطال ككل، فعملية تمرير الحوار بينهم كان كالكرة بين أقدام لاعبين محترفين، فالعبارات كانت تنساب علي ألسنتهم في سلاسة دون أن يعلو أداء أحدهم علي الآخر. لم تترك “نادين لبكي ” ثغرة في أدائها التمثيلي في هذا الفيلم، فجاء تعبيرها عن المواقف الدرامية المختلفة و المختلطة ببساطة ودون أدني افتعال، حتى في لحظات الغضب جاء رد فعلها بغير تكلف. كما أنها لم تقدم المتمردة بالشكل النمطي التي نراها في كثير من الأعمال الدرامية ، و التي تظهر فيها مثل هذه الشخصية كالنمرة الشرسة شكلا و مضمونا ، بل قدمتها بشكل بسيط ، فمظهرها الخارجي لا يختلف عن غيرها من بنات جيلها ، لكن ما يميزها عنهن أفكارها و جوهر شخصيتها . الفيلم سيمفونية رائعة اكتملت فيها عناصر المونتاج ، التصوير ، الأداء ، الإخراج ، كما أن عملية تسكين الأدوار كانت في موضعها الصحيح ، فكأن الأدوار تم تفصيلها خصيصا لمؤديها . فيلم ” رصاصة “.شة ” نال أيضا جائزة أفضل تصوير سينمائي من مهرجان نامور السينمائي الدولي ببلجيكا .. ” آخر ديسمبر ” .. رحلة البحث عن النصف الآخر ” آخر ديسمبر ” لمؤلفه و مخرجه ” معز كمون ” يعد ثاني فيلم طويل له بعد فيلمه الأول ” كلمة رجال ” و الذي أثار جدلا واسعا عقب عرضه في تونس.. تدور أحداث الفيلم حول ” آدم ” الطبيب الذي يعمل بالعاصمة و يقرر الانتقال إلي احدي القرى البعيدة ، بسبب معاناته من حالة اكتئاب ، بتونس ليعمل بوحدة علاجية صغيرة و يصطدم بذلك المجتمع المغلق ، الذي يختلف اختلافا كليا عن العاصمة ، و لم يحتج الأمر لعناء لمعرفة هذه الفروق بين الحياة في العاصمة و تلك القرية . و في الليلة الأولي لآدم في القرية يوقظه العمدة و يطلب منه الذهاب معه في أول مهمة له في القرية ، ليجري عملية ولادة و يذهب معه علي الفور ، و قبل أن يدخل لغرفة السيدة يعطي له نظارة سوداء و يجبره علي ارتداءها لأن هذه تعليمات زوج السيدة التي سيجري لها العملية ، فهو لا يريد لأحد أن يراها علي الإطلاق و إلا سيحدث مالا يحمد عقباه ، فيضطر لقبول الأمر .. علي الجانب الآخر نلتقي ب” عائشة ” (هند الفاهم ) و التي تعمل كعاملة بمصنع ملابس ، و هي شابة جميلة متحررة و منفتحة تعول أمها ، حيث سافر والدها منذ أن كانت صغيرة و تركها و أمها و لا أحد يعرف عنه شئ ، و لم يعد لأمها سواها لذا فهي مضطرة للعمل ، رغم ما تعانيه فيه فهي تتعرض للتحرش من قبل مدير المصنع و لكنها تصده دون أن تترك العمل لعدم وجود فرصة عمل بديلة . لم تكن أحلام ” عائشة ” تختلف كثيرا عن أي فتاة في مثل عمرها فهي تحلم بالزوج المناسب لها الذي يوفر لها الدفء المادي و المعنوي.و ذكاء شديد و بمنتهي البساطة يستعرض ” معز كمون ” ثلاثة أوجه للرجل في حياة ” عائشة ” من خلال ثلاث أبطال ليعبر كلا منهم عن شخصية موجودة بالفعل تحتك بها حواء و تصطدم بها أحيانا في المجتمع الشرقي بوجه عام و ليس داخل تونس فحسب .. فالنموذج الأول ل” مراد ” ( حلمي الدر يدي ) الشاب الذي يحلم بالسفر لبلاد النور ” باريس ” و يعد حبيبته بالزواج منها و يستبيح جسدها و يتركها حاملا منه و يهرب دون سابق إنذار.. أما النموذج الثاني فهو ” سفيان ” ( لطفي العبدلي ) أحد الشخصيات المحورية في الفيلم ، و هو شاب قروي يعمل منذ عشر سنوات في باريس و عندما يقرر الزواج يفكر بطريقة تقليدية و يفكر في الزواج من فتاة قروية تحمل نفس عاداته و تقاليده و ثقافته و يترك والدته تختار له الفتاة المناسبة حتى تضمن تربيتها و أخلاقها ، فالسنوات التي قضاها في أوربا لم تغير مفهومه أو نظرته للمرأة فهو يعترف بأنه قد أقام علاقات مع فتيات في فرنسا ،و أن بنات باريس لا يصلحن سوي للتسلية و لكن عندما يفكر في الزواج فلابد أن يكون الرجل الأول و الأخير في حياة زوجته ، و من ثم يرفض الارتباط بها لأنها كانت علي علاقة بغيره .. النموذج الثالث ” لآدم ” فهو أكثر الشخصية الوحيدة التي تتسق أقوالها بأفعالها ، فلم يقتصر تحضره علي مظهره الخارجي فحسب بل سلوكه أيضا ، فهو الوحيد الذي يعرف بعلاقتها بمراد و يساعدها علي التخلص من كافة مشاكلها ، و لكنه يقع في حبها و ينتهي الأمر بزواج البطلين في نهاية الفيلم . لم يكن حب ” آدم ” للموسيقي و العزف في الفيلم علي سبيل الصدفة ، فهو الوحيد الذي يجيد العزف في القرية ، و يجيد العزف سحرها.حاسيس ، و هو الوحيد الذي ينظر للمرأة نظرة مختلفة و يعاملها باعتبارها إنسانة مثله لها مشاعر و ليست كم مهمل ، و الوحيد الذي يسير ضد التيار محاولا تغيير الحال إلي الأفضل .. ” معز كمون ” مخرج أمضي أكثر من عشرين عاما من عمره في عالم السينما و تعامل مع كبار المخرجين التونسيين و العالميين ، مما ألقي هذا بظلاله علي لقطاته و طريقة إدارته للكاميرا و زوايا التصوير عنده . فالصورة السينمائية عنده تحمل الكثير من النعومة و الرقة ، فعلي الرغم من كون الجانب الرومانسي عند ” آدم ” أعلي بكثير من ” عائشة ” التي تفكر في الرجل بشكل غريزي و فطري فهي لا تفكر سوي في الزواج إلا أن ” كمون ” أظهرها بشكل أكثر نعومة مما هي عليه و كأنها ضحية لبيئتها . و ساعده علي ذلك عدسة المصور ” سفيان الفاني ” الذي أستطاع أن يبرز وجهها بشكل ملائكي و هادئ تارة و بشكل متمرد و ثائر تارة أخري .. فاللقطات التي صورها ” الفاني ” تحمل الكثير من الصفاء و الجمال و تدعو لتأمل الطبيعة الساحرة التي لا يدرك سكانها مدي سحرها . لكن ما يؤخذ عليهالمرأة مساواتهاخ الذي يقع فيه معظم من يتحدث عن قضية المساواة بين الرجل و المرأة. فهل كل ما تريده المرأة مساواتها بالرجل في الحقوق الجنسية ؟ ، ألم تكن لها مطالب أخري تشغل بالها غير هذا المطلب ؟.. من ناحية أخري فإن ” معز كمون ” لم ينه بعض الخطوط الدرامية و يتتبعها حتى النهاية و أكتفي بفتحها فحسب ، فمثلا خيانة ” دليلة ” لزوجها و أثر ذلك علي ” آمنة ” ، و ترك ” عائشة ” لعملها ،صحيح أنه أشار في الفيلم أن المدير أعطي لهم إجازة مفتوحة ، إلا أنه أشار في الفيلم إلي ضرورة بحثها عن عمل آخر لتنفق علي البيت ، و لكن الأحداث تاهت وسط قصص الحب الفاشلة التي عاشتها البطلة فنسينا قضية التحرش و بحثها عن عمل . حتى حالة الاكتئاب التي كان يعاني منها و ترك بسببها المدينة باحثا عن مكان هادئ لم يكن هناك خلفية كافية عنها ، و لعل ما يجعلنا نغفر له هذا هو شعورنا بأن البطل لم يكن لديه ما يخشي عليه في المدينة . فيلم ” آخر ديسمبر ” رؤية حالمة و متفائلة لمخرج يحاول أن يجد في مجتمعه سبيلا للدفء. مواضيع ذات صلة 1. رصاصة طائشة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بعد عرضه في مهرجان مونتريال 2. “عام آخر” يفتتح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته ال 34 3. “4 ” أفلام روسية على شاشة مهرجان القاهرة السينمائي 4. السينما الهندية تشارك ب 6 أفلام حديثة في مهرجان القاهرة السينمائي 5. تخصيص “فاميلي سينما” بالمعادي لعرض أفلام مصر في مهرجان القاهرة السينمائي