في عام 1846 قام عالم الفلك الإنجليزي جون كوش آدمز بوضع معادلات تفترض جود كوكب نبتون، وذلك بالتوازي مع نفس ما فعله الفلكي الفرنسي أوربان لوفيرييَ، وأصبح نسب الكشف الفلكي الجديد بعد رصد كوكب نبتون على يد علماء ألمان محل خلاف بين بريطانيا من جهة وفرنسا ممثلة عن أوربا من جهة أخرى، فهل نبتون كوكب "بريطاني أم أوربي" بتعبيرات تلك الأيام، لينتهي الخلاف بتقاسم الاكتشاف العلمي مناصفة بين بريطانيا وأوربا. هذا المثال في تاريخ العلم ربما يختصر رؤية بريطانيا لعلاقتها مع باقي الدول الأوربية، وتمسكها بهذه النزعة الاستقلالية التي تميزها عنهم، والتي لم تكن وليدة العصر الحديث، ولكنها تمتد في عمق التاريخ للعصور الوسطى، حيث استقلت كنيسة مملكة إنجلترا عن الكنيسة الرومانية المقدسة 1549، والذي كان انفصالاً سياسياً دنيوياً أكثر من كونه انفصال ديني شرائعي، والتي بعدها باتت الملكية فيها ومنذ عهد الملك هنري الثامن رأس برأس البابوية الرومانية التي كانت تسيطر على أوربا في الدنيا والدين. ولكن هذه النزعة الاستقلالية تبلورت في شكل سياسات مستدامة بعد انتهاء الحروب النابليونية بمعركة "وترلو" 1815، وفرض بريطانيا سيطرتها بوصفها القوة الاستعمارية الأكبر بدون منافس أوربي، وكذلك بسط نفوذها السياسي على أوربا حتى الحرب العالمية الأولى 1914، والذي لم يختلف بعدها ميزان القوى في غير صالح بريطانيا إلا لسبب خارج نطاق العلاقات بين الدول الأوربية، وهو ظهور قطبين القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية في كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، لتنزوي بريطانيا وعصرها الاستعماري وتصبح في خارطة السياسات الدولية شريك أصغر لواشنطن في إدارة الصراع مع موسكو إبان الحرب الباردة، وقبل ذلك في ضبط العلاقات مع باقي الدول الأوربية ولكن من موقع اليد العليا؛ أي باختصار أن بريطانيا دولة أوربية بحكم الجغرافيا –وإن كان لبعض منظري الجغرافيا الطبيعية والسياسية رأي أخر- ولكن ليست مثل باقي الدول الأوربية على مستوى السياسات الدولية بحكم الفارق في النفوذ والقوة، وكذلك حفاظها على نوع من الخصوصية والتمييز ما بين ماهو "أوربي" وما بين هو "بريطاني". هذه السياسات ما لبثت إلى أن تطورت لتكون من قواعد الجغرافيا السياسية وما يتبعها من مفاهيم مثل "السيادة" و"المجال الحيوي" والتي في حالة "الإمبراطورية البريطانية" تفاعلت على مدار العصر الحديث مع ضخامة المساحة والنفوذ الذي تمتعت به لندن منذ بداية عصر الاستعمار وحتى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى أن أصبحت فعلياً أدبيات السياسة والاقتصاد تميز ما بين الدول الأوربية وما بين بريطانيا في موقف تجاه قضية ما، وإن كانت لندن على وفاق مع باقي العواصم الأوربية سواء في العلاقات فيما بينهما أو كموقف مشترك تجاه قضية معينة في فترة الحرب الباردة والتي فرضت معادلة أميركية على أوربا كان لبريطانيا فيها اليد العليا، لكن مع الحفاظ على مسافة بين "القرار البريطاني" و"القرار الأوربي" يجعل من السهل أن تتخذ لندن قراراً على النقيض من ما تتآلف عليه دول الاتحاد الأوربي، وهو الأمر الذي جعل بريطانيا أقرب للولايات المتحدة منها إلى محيطها الحيوي والجغرافي على مستوى السياسات الخارجية والدولية، واستمرار هذا الأمر حتى بعد انتهاء الحرب الباردة عام1990؛ ومثال على ذلك موقف لندن المتحالفة مع واشنطن في قرار الأخيرة بغزو العراق 2003، على عكس القرار "الأوربي". لهذا ليس من الغريب أن نجد أن بريطانيا حظت بالكم الأكبر من الاستثناءات بين دول الاتحاد الأوربي منذ أن انضمت له عام 1973، بمجمل 17 استثناء على رأسهم احتفاظها بعملتها، الجنية الإسترليني، والذي أخرجها من دائرة الإنجاز الأهم للإتحاد الأوربي منذ نشأته وهو تعميم اليورو كعملة موحدة لمعظم دول الإتحاد، والتي لم تعتبره لندن "إنجازا" بقدر ما كان مخاطرة سينتج عنها تذويب الحدود الاقتصادية والسياسية وحتى "الهوية الإنجليزية" بينها وبين باقي دول أوربا، وهو ما جعل أسئلة مثل "ماذا تستفيد بريطانيا من الاتحاد الأوربي؟" أو "من يستفيد أكثر من الأخر؟"، وأخيراً "لماذا علينا أن نتحمل أعباء فشل غيرنا من دول الاتحاد وفرض سياسات وقوانين لا تناسبنا؟" مطروحة وبقوة طيلة الوقت في الداخل البريطاني في السنوات الأخيرة، والتساؤل الأخيرة كان مُلح أكثر كونه متعلق بقوانين الاتحاد الأوربي المرتبطة بالهجرة واللاجئين والتقشف الاقتصادي والمساعدات الاجتماعية، والذي لم يكن اتفاق العام الماضي بين بريطانيا والاتحاد الأوربي الخاص بإعطاء الأولى استثناءات تجاه القوانين سابقة الذكر كافياً، ليصل الأمر في النهاية إلى الاستفتاء الأخير، الذي أتت نتيجته لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي. الأسئلة السابقة تصدرت المشهد السياسي في بريطانيا في السنوات الست الأخيرة، والتي بنى عليها حزب المحافظين جزء كبير من انتقاده لحزب العمال، قبل أن يفوز الأول ويشكل حكومة ائتلافية في 2010 لم تفعل سوى التسويف حيال الأسئلة السابق ذكرها، والتي عندما برزت بقوة على المسرح السياسي البريطاني في 2013 وأضحت هي العنوان الرئيسي للخلاف السياسي داخل بريطانيا، تعهد كاميرون وقتها بإجراء استفتاء على بقاء بريطانيا أو خروجها من الاتحاد الأوربي إذا أُعيد انتخابه من جديد في انتخابات العام الماضي، وهو ما حدث بالفعل وجاءت نتيجته لتخرج بريطانيا من الاتحاد الأوربي وكذلك تجبر كاميرون على تقديم استقالته. وبعيداً عن الخوض في تفاصيل ترجمة نتيجة الاستفتاء على الداخل البريطاني على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن هناك متغير رئيسي على السياسات الخارجية لبريطانيا، وهو إنه لم تعد تستطيع أن تؤثر على السياسة الخارجية الأوربية مثلما كانت تفعل منذ الحرب الباردة، والذي كان في معظمه تأثير بدافع من واشنطن والذي في رأي البعض كان الدافع الرئيسي لانضمام لندن للاتحاد الأوربي في السبعينيات، إلا أن هذا المتغير لا يعني فقدان بريطانيا لنفوذها وتأثيرها على الساحة الدولية وعلاقاتها وملفاتها المتشابكة، ففي المجمل لا تزال الدولة الأكثر نفوذا على مستوى صناعة القرار الدولي في أوربا، سواء ما لها من قوة عسكرية واقتصادية ودبلوماسية تراكمت على مدار قرون، بالإضافة لفاعليتها في أطر سياسية دولية مثل الأممالمتحدة ومجلس الأمن ودول الكومنولث، وهي بعناصر القوة السابقة تعتبر متجاوزة لمرحلة الاستفادة من تواجدها في الاتحاد الأوربي على صعيد السياسات الخارجية والدولية، فهي على سبيل المثل ليست مثل ألمانيا، التي تتزعم حالياً الاتحاد الأوربي وتعتبر ثقله البشري والاقتصادي الأكبر، وتوسع نفوذ برلين على الساحة الدولية بسبب هذا الدور التي كانت قد حُرمت منه بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وانقسامها خلال الحرب الباردة. وعلى نفس القياس مع الفارق هو ما تسعى إليه دولة مثل تركيا بإلحاحها في الانضمام للاتحاد الأوربي منذ التسعينيات، حيث سيضيف هذا لأنقرة حال حدوثه قوة ونفوذ سياسي سيضعها في مصاف الدول المؤثرة على القرار الدولي وليس فقط دولة تسعى لبسط نفوذها على مستوى إقليمي. وطبقاً للسابق فإن هناك أفق لاحتمالات كثيرة ستنتج عن تغير معادلة السياسات الحاكمة للعلاقات الخارجية للدول الأوربية وبريطانيا بعد نتيجة الاستفتاء الأخير، حدها الأدنى تشظي القرار الأوربي الذي كان في معظم الأوقات ذو صيغة واحدة –وإن تفاوتت وتبدلت من دولة لأخرى- سواء كان ذلك بابتعاد المؤثر التاريخي لبريطانيا على القرار الأوربي تجاه قضية ما، أو أن يصبح الاتحاد الأوربي في هذا السياق رهن سياسات ورؤى الدول الأكثر نفوذاً داخله مثل ألمانيا، والتي عممت قرارات وقوانين حسب رؤيتها وباستخدام ثقلها الاقتصادي داخل الاتحاد مثل ما حدث في الحالة اليونانية إبان أزمة الديون، أو فيما يتعلق بقوانين وقرارات تجاه أزمة اللاجئين في السنوات الأخيرة، والتي أيضاً ترى دول/شعوب أوربية مثل فرنسا وأسبانيا وإيطاليا أنها غير مُلزمة بما تقرره برلين عبر إطار الإتحاد الأوربي، ناهيك عن العودة إلى مربع البداية فيما يخص وزن القرار السياسي الدولي بين "أوربا" وبين "بريطانيا" وأي منهم الأكثر تأثيراً على مستوى السياسات الدولية وإنفاذها ومن منهم يحتاج إلى الأخر.