لازلنا مع حكم العارف بالله ابن عطاء الله السكندرى، والحكمة التى بين أيدينا اليوم كثير منا في أمس الحاجة إلى التأمل بمعانيها، خصوصا هذا الفريق الذى اغتر بما وفقه الله لعبادة أو ذك، فبدلا من حمد الله والتواضع بين خلقه والخوف من عدم القبول، تورطوا فيما سمى بالاستعلاء الإيمانى فلم يظفروا بالأثر الصحيح لطاعة تهذب السوك وتطوع النفس، بل أضحى أحدهم وهو يصعر خده للناس، مستعليا بما من الله عليه به من عبادة يظنها سبيل النجاة من العذاب، والتمايز عن خلق الله المبتلين بالمعاصى والذنوب. كثير منا يصده عن دين الله هؤلاء الذين يغترون بطاعة وفقهم الله لها، لهولاء وغيرهم تأتى هذه الحكمة التى تقول "ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب، فكان سبب الوصول". فليست كل طاعة سبيلا إلى مثوبة الله ورضوانه، وليست كل معصية سبيلا إلى سخط الله وعقابه، إنما العبرة بالحال التى يكون عليها الطائع، والقصد الذى يقع فى نفسه عند طاعته، وبالحال التى يكون عليها العاصي والشعور الساري فى كيانه أثناء معصيته. الطاعة والمعصية كل منهما له مظهر وشكل، وله سر أو معنى يكتسب به جوهره وذاتيته، فليست العبرة فيما يتقرب به الإنسان إلى الله من الطاعات بصورها وأشكالها وإنما بحقائقها وأسرارها، يقول الحق تبارك وتعالى " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم" فإن أدى المسلم من الطاعة شكلها، وغفل عن النهوض بحقيقتها فقد تحول عمله بذلك إلى معصية، وحسبك من المعصية تزييف الطاعة، ثم تقديمها إلى الله تعالى باعتبارها طاعة حقيقية. وكذلك القول فى المعصية، فعلى الرغم من أن شكل المعصية لا ينفك عن جوهرها، إلا أن الحال التى يتلبس بها العاصى عند إقدامه على المعصية ذات تأثير كبير على العاصى، فهى قد تحجبه عن الله وتقطع عنه الأمل فى رحمته، وذلك عندما يقدم على المعصية إستهانة بشرع الله وأمره، أو إستكبارا على الله وحكمه، وقد تفتح له باب الوصول إلى الله تعالى، كما يذهب ابن عطاء الله فى تلك الحكمة، وذلك عندما ينجرف إلى المعصية بدافع من تغلب أهوائه وسلطان غرائزه عليه، ثم تستيقظ بين جوانحه مشاعر إيمانه بالله، وتهيج فى نفسه فطرة عبوديته لله، فتثور من ذلك فى قلبه عاصفة من الندم والأسى ممزوجة بالخوف والخجل من الله، فينطق بلسان حاله ومقاله قائلا: تعست ليلة عصيتك فيها، كيف لم أستح وأنت الرقيب، فيقوده ذلك كله إلى حيث الأمل بمغفرة الله وصفحه، فيكثر من الإلتجاء اليه والتذلل على أعتاب جوده ورحمته، فما الذى قاده إلى ذلك كله أنها المعصية التى تورط فيها، وبعبارة أدق إنه الحال التى كان متلبسا بها أثناء معصيته، ولكن ماهى قيمة المصير الذى قادته تلك المعصية إليه؟ إنها القيمة التى ينبغى أن تعرفها لجوهر عبودية الإنسان لله، وجوهر العبودية لله هو روح العبادات وسر قبولها، فشتان ما بين العبادة والعبودية، فالأولى هى الوظائف البدينة التى كلف الله بها عباده من صلاة وصوم وحج وغيرها، أما العبودية فهى الذل الذى يهيمن على كيان الإنسان ومشاعره لخالقه، فيقوده إلى تعظيمه ومهابته والإلتجاء الدائم اليه بالاستغفار والدعاء والرجاء، فالعبادة إذن وعاء العبودية، ومن ثم فإن قيمة العبادة تكمن فى القدر الذى تنطوى عليه من معنى العبودية، ذلك لأن الذى يقرب العبد إلى الله مدى تحققه بمعنى العبودية له وما شرعت العبادات إلا لذلك، ولعلك تسأل كيف خرج ابن عطاء الله هذا المعنى فترد عليك آيات الكتاب الحكيم " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " وقوله وهو يصف المتقين "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب الى الله" ومن أوضح الآيات القرآنية دلالة على هذا المعنى"إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما". إن الحاجز الذى يبعد العبد عن ربه هو الاستكبار، ولو كان نسيجه الطاعات والعبادات، والجسر الذى يوصل العبد إلى ربه ويقربه هو العبودية الضارعة له، ولو كان نسيجها الذنوب والمعاصى ، ورحم الله الشيخ أحمد الرفاعى إذ يقول: نظرت إلى الطرق الموصلة إلى الله بمختلف القربات فوجدتها كلها مزدحمة، ونظرت إلى طريق العبودية والتبتل لله عز وجل فرأيته خاليا لا يجوب فيه أحد، فسائر القربات الظاهرة تكمن للنفس فيها حظوظ، وما أيسر أن تسخر لأنواع شتى من الرغائب والأهواء والمصالح الدنيوية، أما طريق الانكسار والتذلل والضراعة على أعتاب الله فليس للنفس فيه أى حظ وليس بينه وبين تلك الرغائب أى صلة. اللهم أفتح لنا أبواب رضوانك بما علمت من حالنا، فلا نغتر بطاعة ولا نيأس مع ذنب، والحمد لله رب العالمين .