نحلق فى هذه السطور القادمة مع حكمة جديدة من حكم ابن عطاء الله السكندرى، التى تنطوى على معنى دقيق وعميق، تصور حال المؤمن فى درب السالكين إلى الله. تقول الحكمة «إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبالِ معها إن قلَّ عملك، فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مُهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟». تحدد الحكمة أنواع الطرق إلى الله، فكل منا بين هذين الطريقين، الأول طريق الهداية والإنابة وهو منك إلى الله، وهو توفيق من الله، وهو يبدأ منك بغرس حقائق الإيمان بالله وبسابغ نعمته على خلقه، فتبدأ بحقائق الإيمان فتغرسها فى العقل، ثم تحاول دفع القلب دفعا إلى الحياة، بالإصرار على الطاعات من قرآن وصلاة وذكر وصيام ونحوها من كل الطاعات والعبادات، حتى يشرق قلبك بالإيمان، وتتلقى ثمراته بعد مجاهدة طويلة، فأنت بدأت الرحلة من جانبك وتحملت الجهد حتى تحصل الهداية، فسمى هذا طريق الهداية والإنابة، أما الطريق الثانى فهو طريق الاجتباء أو الاصطفاء، حيث يفاجئك ربك بعطيّة ومنحة منه فى لحظة قد تكون شاردا عنه، وعن هدْيه، غارقا ربما فى المعاصى، مسرفا على نفسك، فيلقى عليك سهما من سهام رحمته يفتح لك نافذة تطل بها على رضوانه، فسمى هذا طريق الاجتباء. وتأمل قول الله تبارك وتعالى «الله يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب»، الطريق الأول يبدأ بجهدك واختيارك لنفسك، ومعرفتك فيه بربك مرهونة بهمتك فى الطاعة والعبادة، فكلما ارتقيت رأيت المزيد من سابغ نعمه الظاهرة والباطنة، بينما الطريق الثانى قد لا يكون صاحبه من أهل طاعة الله، بل ممن عصوه وضلوا الطريق إليه. وتأمل حال بعض كبار التابعين وأعلامهم، كالفضيل بن عياض، الذى تحول بفعل نافذة عرضت له من مولاه، وهو منغمس فى المعصية، قاطع طريق، فانتبه لتلك النافذة من مولاه فاستيقظ قلبه، ومضى مع أنوارها، فتحول إلى متنسك ربانى، يغشى مجلسه آلاف السالكين، أو عبد الله بن المبارك، الذى أنشد بيتيه الأشهرين: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب فكان سيد العابدين وسيد المجاهدين. أو مالك بن دينار، الشرطى الذى كان يتعاطى اللهو والمسكر، فأدركته رحمة ربه، فتحول إلى عالم ربانى يأخذ بأيدى الناس إلى ربهم، وغيرهم كثر، ممن حفلت بهم كتب السير، فها هو ابن عطاء الله يوجه الأنظار إلى أن التعرف عليك من قبل الله محض فضل، يستدعى كرم الله الواسع على عبده، فلا تتجاهل نافذة فتحت لك فى هذا الشهر أو فى غيره، ولا تحقِرنَّ عملك، فالله تبارك وتعالى أخفى رضاه فى طاعته. وكما يقول الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم: «لا تحقِرنَّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق». أبواب الله تبارك وتعالى بين هذين البابين، ولكنّ كثيرا من الناس يغترون بعملهم ويعتقدون أن السبيل الوحيد لرضوان الله هو فى العكوف على الطاعات، ولا يعتقدون أن الله لا يفتح بابه لغيرهم، فيلفت ابن عطاء الله أن هناك بابا ثانيا هو باب الاجتباء، لا دخل للعبد فيه، وهو ما كان يشير إليه الإمام الرفاعى بقوله: «نظرت إلى الطرق الموصلة إلى الله فرأيتها جميعا مزدحمة، ونظرت فى طريق التذلل والانكسار فإذا هو فارغ لا ازدحام إليه». تعرضوا لنفحات ربكم فى هذا الشهر واطرُقوا بابه، فكما يقول صاحب «الإحياء» الإمام الغزالى: «من أدمن طرق الباب يوشك أن يفتح له»، وتأكد دوما أن عطاءه لك أعظم وأكرم وأطيب مما تعتقده عطاء منك كطاعة هى فى ميزان نعمه عليك لا شىء، فلا تظنن أن الطريق إليه واحد هو الهداية والإنابة، بل هناك طريق جعله لنفسه وفتحه لمن يحب من خلقه هو طريق الاجتباء. ورحم الله العلامة محمد الغزالى، الذى كان منتبها لتلك المعانى، حين قصَّ حاله مع صديق له يعاقر الخمر فقابله ذات ليلة وهو يبكى، ويقول له ادعُ الله لى، وقد ندم على معصيته وتطلع لرضوان ربه، فقال له الشيخ: تعالَ يدعُ كل منا للآخر»، يقول الشيخ: «فلما خلوت إلى نفسى قلت، لعلى شربت من خمر الغفلة عن ربى ما يجعلنى أكثر جرما من هذا الرجل»، تأمل يقظة الشعور وعدم الاغترار بالطاعة وفقه الطريق إلى الله.