أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية مؤخرًا تقريرها السنوي عن حال حقوق الإنسان في العالم لعام 2015. تضمن التقرير ما يدعو للقلق بسب أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وعلى رأسها بلغة التقرير الانتهاكات الجسيمة الناجمة عن استخدام قوى «الأمن» للقوة المفرطة والانحراف عن مقتضيات المحاكمة المنصفة، وقمع الحريات المدنية والسياسة. على الخصوص، يتضمن التقرير إدانة ارتكاب قوى الأمن 267 حالة قتل خارج إطار القانون خلال 2015 وحدها، ويقرر أن انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى تشمل تفشي الاختفاء القسري، وتدهور أوضاع السجون ومقار الاحتجاز، وقمع منظمات المجتمع المدني وتفشي الفساد الحكومي. غير أن العواقب الأخطر والأكثر اتساعًا على الساحة الدولية لتفاقم انتهاك حقوق الإنسان في مصر، تتمثل في تبعات قتل الباحث الشاب الإيطالي جوليو ريجيني، والإمعان في الخداع للتعمية على المجرمين من «الرؤوس الكبيرة». ليس استدعاء السفير الإيطالي في القاهرة للتشاور إلَّا بداية لردود الفعل الإيطالية والأوروبية الساخطة على فضيحة مقتل الشاب الإيطالي، والإفراط في التضليل والخداع للتغطية على «الرؤوس الكبيرة» المتورطة في تعذيبه وإعدامه. من المهم ملاحظة أن العلاقات بين الحكومتين المصرية والإيطالية، كانت على أفضل ما يرام قبل هذه الواقعة المخزية؛ فإيطاليا كانت الشريك التجاري الأول لمصر في الاتحاد الأوروبي، وكان رئيس الوزراء الإيطالي يرى في السيسي شريكًا مهمًّا لحماية مصالح المستعمر السابق في الشقيقة ليبيا، ووصل في لقاء مع «الجزيرة» لاعتباره قائدًا «عظيمًا وطموحًا»، وهو التصريح الذي لاحقه بالحرج بعد تفجر فضيحة مقتل ريجيني وانقلاب الرأي العام الإيطالي ضد الحكم العسكري في مصر، خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن عدد السائحين الإيطاليين كان قد تناقص، بسب مشكلات قطاع السياحة في مصر بوجه عام، من حوالي المليون إلى أقل من 300 ألف فقط مؤخرًا. أما الآن فقد بلغ غضب الحكومة الإيطالية حد التفكير في نصح مواطنيها ورجال الأعمال خاصة بالامتناع عن السفر إلى مصر، ورفع رسوم التأمين على أعمال الشركات الإيطالية العاملة في مصر. بالإضافة إلى وقف العلاقات الثقافية بما في ذلك تبادل الطلاب، وتجميد اللقاءات عالية المستوى بين الحكومتين. ولكن ردود الفعل الساخطة لا تتوقف عند الحكومة الإيطالية، بل تمتد إلى أعضاء السلطة القضائية، التي أعلنت مرارًا أن الحكومة المصرية تستهين بعقولهم بكذباتها المتتالية والمفضوحة ومماطلتها في كشف الحقيقة، ووصل الغضب إلى البرلمان وقطاعات من الشعب، فكشف لويجي مانسيوني، رئيس لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان الإيطالي، أن الأندية التي تنافس في الدوري الإيطالي «الدرجة الممتازة» «الدرجة الثانية»، ستقوم برفع لافتات؛ لمطالبة السلطات المصرية بكشف ملابسات مقتل الطالب جوليو ريجيني في القاهرة. وتنوي الحكومة الإيطالية مطالبة باقي دول أوروبا بالتضامن معها في هذه الإجراءات. وقد تعدت المطالبات بإجراءات عقابية حدود إيطاليا بالفعل إلى بريطانيا، حيث كان الضحية يدرس في جامعة كامبردج. وتزداد الضغوط الشعبية على رئيس وزراء بريطانيا نتيجة لبلوغ التماس؛ لمناقشة الجريمة في البرلمان حد العشرة آلاف توقيع المطلوب لفرض عرض المسألة بالبرلمان، كما أثار وزير الخارجية الأمريكي الأزمة مع السلطات المصرية. وقد تأتي الضربة الأشد لحكومة مصر من قطاع الطاقة؛ نظرًا لأن شركة إيني الإيطالية قد اكتشفت مؤخرًا ما يعد أكبر حقول الغاز في البحر المتوسط قرب ساحل مصر الشمالي، وقد يعطل تعثر العلاقات، في سياق انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية من استثمار الحقل، ويجعل حكومة السيسي أشد اعتمادًا على التمويل من السعودية والخليج، الذي توقف عن كونه هبات، وتحول إلى قروض واجبة السداد؛ نتيجة للضائقة المالية الناتجة عن تدهور أسعار النفط. وقد تسبب خضوع النيابة لوزارة الداخلية، التي يفترض أن تراقبها، في ارتكاب العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، التي تجد لها صدى عالميًّا فضائحيًّا. وقد بلغ هذا التواطؤ ذروة غير مسبوقة في واقعة احتجاز نقيب الصحفيين ووكيليه، وتقديمهم للمحاكمة العاجلة بتهمة إيواء مطلوبين وهي تهمة لا تجوز أصلافي نظر قانونيين ثقاة وكانت النيابة العامة قد أصدرت قرارًا بالإفراج عن الصحفيين الثلاثة بكفالة مالية قدرها عشرة آلاف جنيه مصري لكل منهم فجر الاثنين، مع استمرار التحقيقات، إلَّا أن الصحفيين الثلاثة رفضوا دفع الكفالة، قائلين: إن الاحتجاز غير قانوني من الأساس، معتبرين أن الاتهامات تتعلق بالنشر «ولا يجوز قانونًا فرض كفالة بموجبها». وحددت النيابة جلسة بعد أيام قليلة؛ لبدء المحاكمة التى تتعلق أيضًا باتهامات «بنشر أخبار كاذبة» تشير إلى اقتحام الشرطة مقر نقابة الصحفيين لاعتقال الصحفي عمرو بدر والمدون محمود السقا، أثناء اعتصامهما داخل النقابة مطلع الشهر الجاري. إن سلوك النيابة، المعيب والمعادي لأصول القانون وتاريخ القضاء المصري حين كان شامخًا بحق، في مشكلة نقابة الصحفيين، قد أصبح سببًا أساس لتجريس نظام الحكم العسكري في العالم كله! فقد اعتبرت منظمة العفو الدولية احتجاز قلاش وعبد الرحيم والبلشي بمثابة «انتكاسة مقلقة لحرية التعبير وهجوم هو الأكثر وقاحة على الإعلام في مصر». وهذه لعلمي المرة الأولى التي تلجأ فيها منظمة العفو الدولية، المعروفة بالكياسة في التعامل مع الحكومات؛ لاستعمال لفظ بهذه الحدة لوصف تصرف حكومي في تاريخها الطويل الممتد لأطول من نصف قرن منذ إنشائها في 1961.