رصد الفيلم التسجيلي الفلسطيني «رحلة في الرحيل» إخراج هند شوفاني، تجربة حياة والدها المناضل والمؤرخ الدكتور إلياس شوفاني «1932-2013»، كما روي حكايات فلسطينية عن العائلات المنفية والسياسيين منذ نكبة 1948، ووصولاً إلى ربيع الثورات العربية. فاز الفيلم في عرضه الأول بالقاهرة قبل أيام بجائزة الجمهور في ختام الدورة التاسعة لمهرجان القاهرة الدولي لسينما المرأة، يحمل الفيلم عنوان أحد كتب شوفاني وهو مؤرّخ وحامل شهادة دكتوراه من جامعة برينستن الأمريكية وعضو سابق في حركة فتح، ومتخصص في اللغتين العربية والعبرية، وأحد قادة النضال العسكري في الثورة الفلسطينية، وأحد أهم محللي الشأن الإسرائيلى فى العالم العربى. ألّف شوفاني أكثر من 22 كتابا، منها «حروب الردة، وطريق بيغن إلى القاهرة، وإسرائيل ومشروع كارتر بيروت، وإسرائيل والتسوية، والمشروع الصهيوني وتهويد فلسطين، والموجز في تاريخ فلسطين السياسي، وإسرائيل في خمسين عاما، ودروب التيه، والخلل في إدارة الصراع العربي الصهيوني، وأمن إسرائيل الاستراتيجي، والحروب الإسرائيلية العربية» وغيرها. الفيلم رحلة في الذاكرة النضالية والإنسانية لأحد أهم منظري الثورة الفلسطينية، وصاحب المواقف الحادة من خيارات المصالحة مع العدو الصهيوني في الثمانينات، وانتقد بعنف ياسر عرفات وعدد كبير من قادة حركة فتح التي انشق عنها عام 1992، وظل حتي أيامه الأخيرة عروبيا مخلصا لاختياره القومي العربي باعتباره مواطنا عربيا وليس فلسطينيا فقط، كرجل شجاع عاش وحيدا ورفض مغادرة موطنه الأخير في دمشق، رغم الانفجارات وتدهور الأوضاع المعيشية والأمنية، قائلا إنه عاش سنوات طويلة بين هؤلاء الناس، ولن يتركهم اليوم في هذه الأوضاع، فإن لم يستطع مد يد العون، فعلى الأقل يكون بينهم يعيش ما يعيشونه من عذابات ومخاطر. تقول المخرجة إنها حاولت الإضاءة علي حياة والدها وتاريخه عبر استحضار 70 عاما من التاريخ الفلسطيني يمتزج فيه الأرشيف الشخصي والعائلي، بالتأريخي والسياسي، منذ نكبة 1948 إلى الحرب المندلعة حالياً في سوريا. ويتتبع الفيلم اختيارت إلياس وكيف أثرت علي حياته وعلي أسرته، فرغم أنه درس التاريخ الإسلامي في الولاياتالمتحدة وعمل بالتدريس في جامعاتها وارتبط بعلاقة حب وزواج مع أمريكية أصولها من بيرو، إلا أنه سرعان ما تخلي عن عمله ومستقبله المهني، وانضم للثورة الفلسطينية عام 1970، وتخلي حتي عن زوجته التي أنهي علاقته بها بسبب تناقض رآه بين علاقتهما ودوره النضالي في الثورة الفلسطبنية. يتميز الفيلم بجرأته في نقد مسار الثورة الفلسطينية وتقديم رؤية لمنظور آخر لأسباب الفشل، ربما تكون المرة الأولي التي يتعرض لها عمل وثائقي بهذه الجرأة، وإن قدم برؤية من جانب واحد وليس مناقشة نقدية بالفعل وقراءة تاريخية نقدية وموضوعية لمسار الثورة الفلسطينية، وفي جانب آخر يعرض الفيلم للكُلفة العاطفية والعائلية للثورة والتمرّد. الفيلم إنتاج فلسطينى سورى لبنانى، ويعد العمل التسجيلي الطويل الأول للمخرجة، التي اعتمدت أسلوبا تجريبيا والمزج بين أشعارها وحكي والدها في عدة لقاءات معه ومواد توثيقية من مصادر متعددة، منها الفيديوهات المنزلية، ومشاهد وتعليقات من نشرات إخبارية أمريكية من عقد الستينيات، وصور فوتوغرافية، وشهادات عائلية، كما احتوي الفيلم علي الكثير من الأفكار والمشاعر والتساؤلات. واختارت المخرجة أن تربط بين الأحداث التي ترصدها في مسيرة المناضل الثائر من خلال لقاءات أجرتها مع والدها في منزل عزلته بدمشق وتسجيلات تليفونية لمحادثاتهما طوال عامين قبيل رحيله، رفض خلالهما الرحيل عن سوريا، بلوحات كتبتها بالإنجليزية والعربية بمعنيين مختلفين لكل منهما، وبأشعار تعلق وتحكي انطباعات المخرجة، ورغم أهمية وجرأة ما يتناوله الفيلم، إلا أن كثافة المادة والأفكار المقدمة في فيلم مدته ساعتين، وامتد تصويره خمس سنوات وضم مسارات عدة سياسية عامة وذاتية وعائلية، أدى إلى قدر من الإطالة وأصاب المشاهد بقدر من التشويش؛ خاصة مع الإفراط في استخدام الجرافيك في المادة المصورة، ليعكس حالة تشتت الصورة وتهشيمها من أجل إعادة بنائها كانعكاس بصري للحالة التي تنطلق منها المخرجة. التداخل بين رؤي المخرجة وحكاية والدها يقف وراءه طموح لإعادة بناء صورة الأب الذي كان غائبا طوال طفولتها، لتتصالح أخيرا مع فكرة أولوية عمله السياسي الذي طغي علي حقوق أسرته، كما كانت في الوقت ذاته تعيد بناء علاقتها بفلسطين، في أحد نصوصها الشعرية بالفيلم تشكو من التعب من فلسطين والقضية وخيبة الأمل، وتتعجب من صلابة والدها الشيخ الذي ما تعب من عشق فلسطين رغم كل هذه العقود من التضحيات والخيبات، ورغم الأسي وضياع الأحلام، لكنه يظل علي صلابته وصرامته مسلحا بيقينه والمسار الذي اختاره. ابنة المناضل التي لم تفهم طبيعة عمل والدها والإجراءات الأمنية المتشددة التي تؤثر في حياتهم إلا في مرحلة متأخرة، لكنها ورثت دقته وجرأته، حرصت أن تكون أمينة في عرض رؤى والدها ومسيرته، ففي أحد المشاهد تسأله عن أشرطه بها تسجيلات وثائق لحركة فتح، فيرد مازحا في مرارة ليست وثائق، إنما جنازة حركة فتح التي ماتت، لكنه في المقابل يرفض أن تصور بعض أشرطته ووثائقه، ويقول غاضبا «هذه أسرار وطنية لا تباح ولا حتي بعد 50 عاما»، لتفتح سؤالا مهما في فيلمها عن مصير الوثائق والكتب التي احتفظ بها والدها في عزلته وعن أهمية حفظ تراث الثورة الفلسطينية بأطيافها المختلفة وليس الفصائل الحاكمة فقط.