تعد ظاهرة "أسلمة المسيحيات" من القضايا الشائكة والمعقدة، فالجدل حولها لا ينقطع، ورغم إيماني بأن تلك الظاهرة لا يمكن اختصارها أو تلخيصها في مقال قصير، بل تحتاج لدراسات متكاملة بقواعد وأسس علمية؛ إلا أنه من الممكن الإشارة للجانب الأكثر وضوحاً لها، الذي يتمثل في اختفاء فتاة\سيدة مسيحية في ظروفٍ غامضة، يعقبها ادعاءات من ذويها بأنه تم اختطافها، وغالبا ما تشير أصابع الاتهام إلى أن الغرض هو إجبارها على اعتناق الإسلام. ويعد ذلك المشهد هو الأكثر تكرارية؛ وخاصة في حالات الفتيات التي لم تبلغ سن 18 سنة. هذه الظاهرة تلقي الضوء على عددٍ من الأزمات الواجب التعاطي معها باهتمام، بداية من أزمة حرية الاعتقاد بمصر، مروراً بالأوضاع داخل الأسرة المصرية والتحديات التي تواجهها، وحال المرأة في المجتمع، ونهاية بتعاظم الدور المجتمعي والسياسي للكنيسة على حساب دورها الروحي والرعوي. حرية اعتقاد أُحادية الاتجاه لا يمكن تناول ظاهرة "أسلمة المسيحيات" بدون الإشارة إلى أزمة حرية الاعتقاد، وتحديداً حرية التحول الديني في مصر، فالتحول إلى الإسلام سهل وسلس وتبعاته ليست بالخطيرة أو المدمرة كالتحول من الإسلام إلى أي معتقد آخر أو تركه إلى الإلحاد. كما ان الدولة تشجع على التحول للإسلام رسمياً من خلال المنظومة القانونية والتشريعية، فوفقاً للقانون رقم 70 لسنة 1964 بشأن أمور التوثيق والتسجيل، فإن الأفراد الراغبين في التحول للإسلام يتم إعفائهم من الرسوم القانونية؛ الأمر الذي يوضح الخلل الشديد في موقف الدولة من معتقدات مواطنيها ويبرز تحيز الدولة لدين ومعتقد دون الآخر. ذلك بالإضافة إلى الممارسات التي يمكن وصفها بالمتحيزة من قبل موظفين عموميين، وحتى ضباط الأمن، وفي بعض الأحيان سلطات تحقيق أثناء التعامل مع كثير من الحالات. على الجانب الآخر هنالك صعوبة شديدة – إن لم تكن استحالة – في ترك الإسلام، وهنا يجدر بالذكر المتنصر الشهير ماهر الجوهري الذي ناضل لعشرات السنوات من أجل تغيير بياناته الشخصية وإثبات تحوله للمسيحية ولكن فشل في نهاية المطاف، ذلك بخلاف الأزمات المجتمعية التي لاقاها حتى داخل اسرته. الذكورية أيضاً من الجوانب الهامة في التعاطي مع تلك الظاهرة والتابعات التي تترتب عليها؛ هي وضع ومكانة المرأة في المجتمع، وفي تقديري أن القضية لا تتعلق بحرية الاعتقاد بقدر تعلقها بنظرة المجتمع للمرأة. والدليل أنه لم ينم إلى علمنا في يوم من الأيام أن هنالك أسرة مسيحية تدعى بأنه تم اختطاف ابنهم "القاصر" بغرض إجباره على اعتناق الإسلام؛ ولم يخرج علينا سلفياً ليطالب ب "أخوه بطرس" بل أن الأزمة دائماً ما تتعلق بالإناث لا الذكور. مراهقة تبحث عن إشباع عاطفي من خلال تتبع العديد من هذه الحالات يمكن ملاحظة عدة عوامل، من أهمها أنه في الغالب تكون القصة ذات جذور اجتماعية بالأساس، تتلخص في علاقة عاطفية بين شابة مسيحية وشاب مسلم، ولا تتعلق بفكرة اقتناع الشابة المسيحية بالإسلام وسعيها لاعتناقه. الأمر الذي يدفعها إلى ترك أسرتها لتهرب مع الطرف الآخر بحثاً عن إشباع لعاطفة مشروعه وهي الحب، حيث تتلقفها شخصيات وتنظيمات ومجموعات بعينها، وهو أمر ليس بالخفي عن العامة، فمثلا أعلن السلفي المعروف الشيخ أبو يحيي في العديد من اللقاءات الإعلامية أن المسيحيات يتوجهن إليه طلبا لمساعدته لإشهار إسلامهن. الأمر الذي لا يمكن معه ضمان حرية الإرادة الكاملة لدي الضحية في الإقدام على التحول الديني أو حتى العدول عنه وقتما أرادت، حيث يصبح التحول حتمياً في اللحظة التي تقرر فيها اللجوء لمثل هذه التيارات هرباً من أسرتها. وفي كثير من الحالات تعود المراهقة لأسرتها مرة أخرى بعد أن تصطدم بالواقع المرير وتتحطم أوهامها عن الحب الذي تركت كل شيء لأجله. زوجة تقطعت بها السبل وفي بعض الحالات تكون الضحية زوجة وربة أسرة، لكن تعاني من مشاكل أسرية أو سوء معامله من قبل الزوج أو إهمال أو حرمان عاطفي؛ الأمر الذي يترتب عليه أن تبحث عن حل، ومن المعروف موقف الكنيسة منذ عام 2008 الرافض للطلاق بعيداً عن الزنا؛ مما يدفع بعضهن إلى تغيير معتقدهن هرباً من زواج فاشل أو حياة تعيسة. وفي بعض الحالات يتمثل الحل البديل في الدخول في علاقة عاطفية مع شخص أخر، ويعقب ذلك أيضاً هروباً ينتهي في أحضان نفس الأشخاص والجماعات ذاتها السابق الاشارة لها. وأذكر أن إحدى الحالات التي عايشتها بنفسي كانت متزوجة وربة منزل وأم لأطفال، وخرجت ولم تعد مرة أخرى وقد شاهدها أهالي قريتها تستقل سيارة مع شخص مسلم من معارف زوجها. واندلعت المظاهرات للمطالبة بإرجاعها؛ الأمر الذي انتهي بهجوم حملة أمنية كبيرة على القرية ووقوع خسائر مادية وإصابات بين الأهلي. وظل الأمر معلقاً لفترة حتى ظهرت السيدة وقالت انه تم اختطافها في محاولة لإجبارها على التحول إلى الإسلام. ولست أعلم مدى صحة الواقعة من عدمه، ولكن أستطيع فقط أن أشير لشهادات أهالي القرية حينما تقابلت معهم، وأفادوا بوجود مشكلات أسرية تعاني منها الزوجة، كما أذكر أنه عقب عودة السيدة أصدرت المطرانية التابعة لها بياناً رسمياً طالبت فيه بعدم إثارة الامر مرة أخرى، وأن السيدة سوف يتم نقلها إلى مكان آمن! عادت السيدة إلى قريتها وسط احتفالات أطفالها وزغاريد نسائها وتهليل ذكورها، الذين ساقتهم قوات الأمن ك "البهايم" –بحسب تعبيرهم– وأقامت حفلات تعذيب من منتصف الليل وحتى ظهر اليوم التالي نتيجة للمطالبة بعودتها. تناسي الجميع أفعال البلطجة وانتهاك حرمات المنازل والحياة الشخصية لأهالي القرية بلا استثناء من قبل قوات الأمن لمجرد أن السيدة المختفية عادت. أذكر أنني تحدثت لأحد الأهالي عقب عودتها فأجابني "الحمد لله، كله يهون، دلوقتى نقدر نرفع راسنا تانى"! وهنا يمكن إلقاء الضوء على الأزمة الأساسية التي بدأت معالمها في التبلور؛ ففي تقديري أن المسألة لم تتعلق إطلاقاً بالرغبة في التحول الديني، والجانب الأكثر إيلاماً أن كلا الطرفين، سواء الطرف المسيحي أو الجماعات الإسلامية المشار إليها سابقاً وأنصارهم؛ هم غير معنيين بحرية السيدة\الفتاة في اختيار معتقدها، أو بالأزمة التي وضعتها في هذا الموقف، فالمسيحيين يعظمون اهتمامهم بوصمة العار التي سوف تلاحقهم نتيجة خروج "الأنثى" شرف "الذكر " عن طوعه. أيضاً الأمر ذاته ليس ببعيد عن الباحثين عن " أختهم كاميليا" الذين يجاهدون في سبيل استغلال نفس "الأنثى" في إطار إلحاق العار بالطرف الآخر " اللي مش قادرين يحكموا حريمهم " !! وبين هذا وذاك تظل الأنثى المسيحية ضحية الذكورية السائدة بالمجتمع. رعاية غائبة من النقاط الواجب التعاطي معها أيضًا هو ضعف الدور الروحي للكنيسة الأرثوذكسية تحديدًا التي في الغالب تكون الضحية تابعة لها، ففي حين انشغلت الكنائس بالأنشطة الاجتماعية والترفيهية من رحلات ومهرجانات واجتماعات لتضمن بقاء المسحيين داخل أسوارها أطول وقت؛ إلا أن تراجع الدور الروحي للكنيسة كان له آثارًا مدمرة على الحالة الروحية لكثير من المسيحيين الأرثوذكس. الأمر الذي انعكس بشكل سلبي في غالبية الحالات التي نحن بصددها، ففي اعتقادي أننا الآن في مرحلة حصاد لثمار التوجه لخلق مجتمع موازٍ خلال فترة عنف الجماعات الإسلامية واستهداف المسيحيين منذ السبعينيات، ولست بصدد مناقشة ذلك التوجه أو انتقاده، وله ما له من محددات وأسباب مجتمعية آنذاك؛ لكن أعتقد أنه آن الأوان للعودة للدور الروحي للكنيسة، وترك المسيحيين للاندماج المجتمعي مع غيرهم من المصريين. وقد يتطلب ذلك من الكنيسة إعادة النظر مرة أخرى في الكم الهائل من الأنشطة الاجتماعية التي تقيمها الكنائس؛ وإعادة تطوير خطابها الروحي وتنميته وتعزيزه بأدوات العصر. الخلاصة أعتقد انه من الضروري توضيح المقصود بمصطلح الأسلمة على أنه عدم وجود إرادة حرة ومستقلة للتحول للإسلام؛ أما أن يقِبل شخص بغض النظر إن كان ذكر أو أنثى على التحول إلى الإسلام بإرادة حرة ومستقلة فذلك غير قابل للمجادلة لكونه من صلب حرية الاعتقاد وليس معنياً بموضع المقال. وإنما ما قمت بطرحة هو قضية استغلال البعض لظروف هي بالأساس اجتماعية لتحويل حياة الأنثى المسيحية لصراع ذو طابع طائفي. دور الدولة الأساسي هو أن تقف على مسافة محايدة من جميع المعتقدات، وتحمي حق الأفراد في حرية اختيار معتقدهم والإعراب عنه وممارسة شعائره بكل حرية. وليس منوط بالدولة تفضيل معتقد عن آخر فهي ليست معنية بأن تضع مواطنيها على دروب السماء! إن أزمة أسلمة المسيحيات -في الغالب- يجب أن توضع في إطارها الصحيح، ويجب التعاطي معها بشكل صادق داخل إطار الأسرة المسيحية والكنيسة، وبعيداً عن الادعاءات بالاختطاف أو الاختفاء أو قمع الضحية، غير أنه لا يمكن إنكار وجود حالات حقيقية تم إجبارها على تغيير معتقدها رغما عن إرادتها الحرة والمستقلة، والتي يجب التعاطي معها أيضا، لكنها لا تشكل النموذج الغالب؛ فيجب التعامل مع كل حالة بحسب طبيعتها، ومن مدخل صحيح حتى نصل لنتيجة صحيحة؛ فعودة الضحية لا يمثل حلاً للأزمة بقدر ما يشكل دعما لها، والبحث وراء محددات الأزمة التي دفعت بها لهذا الطريق، حلاً حقيقياً لأزمة من الممكن أن تتكرر. نعم نموذج الأنثى المسيحية، قاصراً كانت أم راشدة؛ التي يتناول هذا المقال قضيتها هي ضحية لأسرة مفككة وكنيسة مُقصرة ومجتمع ذكوري، وذئاب خاطفة. مينا ثابت مدير برنامج الأقليات والفئات المستضعفة. .المفوضية المصرية للحقوق و الحريات