سؤال المستقبل، من أكثر الأسئلة المطروحة على حاضرنا، الكل يتحدث عن المستقبل باعتباره التقدم نحو الأفضل، باعتباره الحل الطبيعي للأزمات الراهنة، بل أن البعض (كلمة "البعض" للأسف تعني الأغلبية في بلادنا) يحدثنا عن المستقبل، بينما ينفق أمواله وجهده ووقته ليحملنا على الركوب معه في قطار الماضي! هذه الحالة العجيبة تستدعي التفكير في "سؤال الزمن"، فالمستقبل كما هو شائع أحد أضلاع "مثلت الزمن" (مع الماضي والحاضر)، لكن هل المسألة بهذه البساطة؟، لا أظن؛ لأن كلمة "مثلث" نفسها لا يمكن الإطمئنان إليها، فهناك من يعتبر الزمن "خط مستقيم" يشبه المسطرة، أو يشبهه بقطار يتحرك على شريط سكة حديدية من نقطة في الماضي (غير معروفة) إلى نقطة لا نهائية (غير معروفة أيضا) وبالتالي فإن "الحاضر" غير موجود لأنه لحظة وهمية لا يمكن الإمساك بها، فقبل أن تدركها فهي ليست إلا "مستقبل" لم يحدث بعد، وعندما تدركها تكون قد التحقت بالماضي، ما أحب توضيحه هنا أن المفهوم الخطي للزمان لا يأبه بالبشر كثيراً؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يغير شيئا من خطط الزمان الحتمية السرمدية، فلا أحد يمكنه أن يعترض طريق القطار، وهذا يعني أن الزمن خارج الإنسان، بل أنه السيد المتحكم، وقد ارتبط هذا المفهوم بتفسيرات بعض الفلاسفة ورجال الكهنوت لتصور الزمن في الديانات السماوية، فقد درسه روبي بورتس في المسيحية، وتشبع المسلمون بمفهوم "الدهر هو الله".. فلا تسبوا الدهر، لكن المسار الخطي للزمن لم يقتصر على اللاهوت فقط، وأخذ به علماء في الرياضيات والفيزياء مثل جاليليو، ونيوتن، وأينشتاين أيضا برغم أنه تحدث عن نسبية الزمن وجعله مجرد بعد رابع للمكان! ضمن تصور "الزمن المستقل" ظهر فريق آخر من الفلاسفة والعلماء منهم أرسطو وسنيكا وفيثاغورس، واعتبروا أن الزمن يمضي في "حركة دائرية" وليست مستقيمة، لكن على الضفة الأخرى هناك من نسف تصور "الزمن الموضوعي" لصالح فكرة "الزمن الذاتي"، الذي لايمكن تصوره ولا إدراكه خارج الذات الإنسانية، وبالرغم من أن هذه الفكرة بدأت في رحاب اللاهوت عند القديس أوجستين، لكنها وجدت بيئة مناسبة للرواج مع ازدهار فلسفات القرن 19 خاصة عند كانط وبردياييف، واكتسبت زخما كبيرا مع ظهور بوفن وكولن ويلسون وفرويد وكيركيجارد وانتعاش الفلسفة الوجودية عموما، وتنامي الحس الفردي للإنسان والنظر إليه كقائد حاسم للتطور البشري بعد أن كان عبداً مهمشاً لثنائية الفكرة والمادة، من هذا الحس الإنساني اكتسب الزمن صورته الدرامية، واصطبغ بحالة الإنسان العقلية والنفسية. لا شك أنك سمعت أقوالا من نوع "زمن أغبر" أو "زمن الكلاب" أو "زمن فيفي عبده".. هذه التعبيرات تفسر ببساطة رؤية أوجستين أن الزمن ليس مستقلا ومجرداً، بل يكتسب وجوده حسب الحالة العقلية والعاطفية للإنسان، لذلك غير أوجستين التقسيم الثلاثي للزمن من (الماضي – الحاضر – المستقبل) إلى (الذاكرة – الإنتباه – الاستشراف) ووضع لمسة بسيطة من النسبية قبل اينشتاين (ليس من خلال الفيزياء أو علاقة الزمان بالمكان)، لكن من خلال الأبعاد النفسية للإنسان ، فقد قال: إن الماضى ليس عميقاً، فذاكرة الماضى هي العميقة، وكذلك المستقبل ليس صعبا ولا بعيداً، فتوقع المستقبل هو الصعب! لم أفهم تقسيم أوجستين جيدا إلا بعد قرائتي لأعمال ألبير كامو التي تتعامل مع الزمن باعتباره بُعد حي واحد هو "الحاضر" أي (الانتباه) فالماضي مات، والمستقبل لم يحدث بعد، وبالتالي لا حاجة لنا بتذكر الميت (لأن هذا لن يعيده) ولا بتوقع المستقبل (لأن هذا لن يغير في الحاضر شيئا). حياة الإنسان إذن حسب كامو لا تحتاج أي جهد في انتظار المستقبل أو توقعه، فقط عليه أن يتعامل بانتباه مع لحظة واحدة (الحاضر) هي كل الزمن، وهي كل الحياة بالنسبة لذلك الإنسان سيد العالم وضحيته أيضا، لكن في مقابل تحيز كامو للحاضر كان هناك من يعدم الحاضر تماما مكتفياً بصورة ثنائية فقط للزمن (ماضي ومستقبل) وفي تبريرهم لحكم إعدام الحاضر قالوا إنه مجرد نقطة وهمية غير موجودة واقعيا، كل دورها أنها مثل حاجز زجاجي يفصل بين الماضي والمستقبل ويرسم الحدود بينهما! شغلتني كثيرا فكرة الزمن، تتبعت نشأة ومصير كرونوس (إله الزمن في الميثيولوجيا الإغريقية)، زادتني الفلسفات حيرة، وأصابتني نظريات العلم بالتكلس، ولما دخل الأدباء وفرسان الدراما حلبة الصراع، خففوا عني كثيرا من العبء الميتافيزيقي والفيزيائي أيضا، وصاغوا "سؤال الزمن" في أشكال جديدة، بل أن بعضهم سعى بنشوة إلى تحطيمه، ونجح "سوبر مان" في إجباره على تغيير مساره إلى الاتجاه العكسي، وسافر به "هربرت ويلز" إلى الأمام والوراء بعربة الزمن، وتحدث زيجمونت باومان عن سيولته، ووصفه آخرون بأنه لم يعد خيطا بل شبكة معقدة من الخيوط تداخلت واختلطت في مسارات عشوائية لايمكن تحديد اتجاه واضح لها، وأعجبني أكثر ما أعجبني منطوق "جان بياجيه" أن الإحساس بالزمن وبالتاريخ ليس فطرة إنسانية، لكنه ثقافة يكتسبها الفرد بالتعلم والإدراك، وقدم دليلا على ذلك بدراسة للاستجابات عند الأطفال حديثي الولادة أثبت فيها أن الطفل الرضيع (يشبه ألبير كامو) يعيش الحاضر فقط، فالماضي مشوش ومنسي، والمستقبل مجهول ولا سبيل لاستشرافه، وأظننا (كمجتمع وحضارة) في هذه الحالة.. حالة "المجتمع الرضيع": نعاني من نسيان تاريخي وتشوش في الذاكرة، مع عجز كامل عن استشراف المستقبل..!! [email protected]