ما من ثورة كبرى ولا حركة تغيير كبرى إلا وقامت على مرجعية أو عقيدة فكرية وسياسية محددة المعالم، تظل الشعوب والنخب تتمسك بها جيلا بعد جيل.. فيما يلي بعض الملاحظات ذات صلة. (1) هذه العقيدة السياسية لا تستورد ولا ينفرد فرد أو مجموعة بكتابتها، وإنما تأتي من رحم المجتمع بقيمه وثقافته وأولوياته، وتكون في الواقع نتاج عملية تاريخية ممتدة، أو تطور اجتماعي ممتد، وتظهر خلالها سلسلة من الأفكار والتوافقات الوطنية الواسعة على قيم عليا ومبادئ أساسية، والثورات تندلع للتعبير عنها وتتمسك بها وتعمل على أن تترجم أسس هذه العقيدة على الأرض. وهذه المرجعية تظهر في شكل مبادئ أساسية وقيم عليا يستند إليها الأفراد والجماعات والسلطة بمؤسساتها المختلفة في تحديد معايير الانتماء والهوية الجامعة، وأدوات الضبط السياسي والاجتماعي في المجتمع، وطبيعة العلاقات بين الجماعات والأفراد داخل المجتمع وفيما بين هؤلاء والسلطة، واختيار الأولويات في مرحلة تاريخية معينة. هكذا سارت الأمور في كثير من الحضارات القديمة والحديثة مع اختلاف سند مرجعياتها من كهنوتية دينية (كالحضارات القديمة في مصر وبابل وآسيا وفي أوروبا العصور الوسطى) أو إسلامية (تجمع بين مبدأ التوحيد والقيم الدينية التي تنظم الدين والدنيا وبين العقل وحرية التفكير والإبداع في إنزال هذه القيم على الواقع المتغير زمانا ومكانا) أو وضعية (كالحضارة الغربية الحالية التي تقوم على مبادئ عصر التنوير الأوروبي). وهكذا كانت الثورات الكبرى في القرون الأخيرة في إنجلترا وفرنسا وأمريكا والصين وروسيا وكوبا وإيران، وهذه الثورات لم تحقق أهدافها في عامين أو ثلاثة، ولم تسلم من وقوف خصومها في الداخل والخارج ضدها، وكان لها تكلفة مرتفعة، لكنها في النهاية استندت إلى عقيدة أو مرجعية سياسية ونجحت في تحرير شعوبها وصارت موضع فخر واعتزاز حتى اليوم، وصارت تدرس في المقررات الدراسية في المدارس والجامعات. (2) في ثوراتنا العربية التي انطلقت في عام 2010، نادت الشعوب بالكرامة والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وهذه قيم أساسية رفعتها الشعوب بتلقائية وعفوية؛ لأنها تمثل جوهر ما تحتاجه الشعوب فعلا، وقد بذلت في الشهور الأولى للثورات جهود ضخمة لترجمة هذه القيم العليا إلى مبادئ محددة وبرامج عمل، وظهرت عدة وثائق ذات صلة كوثائق الأزهر في مصر، وغيرها، فما الذي أوقف هذا الجهد وحال دون البناء عليه؟. هناك أسباب كثيرة، أهمها تفرق القوى التي قامت بالثورة، وتنافسها على مغانم صغيرة بعد اعتماد مسار سياسي يقوم على التنافس قبل التوافق (تنافس في الانتخابات وتنافس في كتابة الدساتير)، بجانب قلة العقول الواعية من السياسيين والمثقفين والمفكرين، لكن هناك أيضا اختراق خصوم الثورات في الداخل والخارج لصفوف الثورات، وعمليات التشويه وغسيل المخ والترويج للأكاذيب والمغالطات التي قام بها أنصار الثورات المضادة ممن تعودوا على العيش في ظل الاستبداد والفساد وعلى الخنوع، وأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، ومن الأسباب أيضا إرث الأنظمة البائدة ونمط السلطة الذي ظهر في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، أي ما يقرب من مائة عام. (3) لقد أثبتت السنوات الخمس الماضية من الثورات العربية والثورات المضادة لها عدة أمور، لابد أن يتم استغلالها في مصلحة الثورات والمطالب التي رفعتها، فالسنوات الخمس أثبتت، أولا أن السلطة التي ثارت عليها شعوبنا العربية قسمت الأمة العربية والإسلامية إلى دويلات قطرية صغيرة، مثلت الشكل الأسوأ في تاريخ هذه المجتمعات؛ لأنها ضربت وحدتها الثقافية والروحية والسياسية، ولأنها ضربت عقيدتها السياسية التي ظلت قائمة لقرون على العروبة والإسلام ودون أي تناقض مصطنع، كالذي ظهر منذ ظهور هذه الدويلة القطرية العربية، ولهذا عندما حوربت هذه الثورات من خصومها في الداخل والخارج حوربت إقليميا وعالميا، فلم يفرق هؤلاء الخصوم بين الأقطار العربية واعتبروا أن الخطر واحد؛ لأنهم يدركون جيدا أن الحكومات القائمة تسيطر في واقع الأمر على أمة واحدة بآمال وتحديات واحدة ومصير مشترك، وأن مبدأ القوميات ذاته يقوم على تجميع الأمة الواحدة وليس تقسيمها كما حدث معنا. وأثبتت السنوات الخمس أيضا أنه لا يمكن استيراد العقيدة السياسية من الخارج، هذه الدويلات جربت فيما يقرب من مائة عام استيراد العقيدة السياسية من الخارج (القومية المتصادمة مع الدين، الاشتراكية، الليبرالية، الخليط من كل هذا وذاك)، لكنها فشلت لأن الأمم الحية لا تستورد عقائدها السياسية من الخارج، إنما تستنبتها من مجتمعاتها ومن ثقافات مجتمعاتها وقيمها الروحية والدينية وتراثها الفكري والتاريخي والديني ومن عاداتها وتقاليدها المحلية، وهذا لا يعني الانغلاق على الذات، بقدر ما يعني عدم تجاهل مكتسبات الحضارات والشعوب الأخرى لكن بعد القيام بعمليات توطين لها في الثقافات المحلية. كما أثبتت أيضا أن محاربة الدين غير ممكنة، قامت السلطة في الدويلات القطرية الحالية بالسيطرة على الدين سيطرة تامة، ونزعت الدين من المجتمع ومن الأفراد، ووظفته في خدمة السلطة، وسيطرت على الجامعات والمؤسسات الدينية وحولت العلماء إلى موظفين، لم يحدث هذا في الملك العضوض الذي عرفته المجتمعات الإسلامية، حيث لم يتم تأميم الدين، وظل العلماء يتمتعون باحترام السلطة وظهرت مدارس ومذاهب فكرية متعددة، وظلت الهُوية عربية إسلامية، وظل الحكام يرفعون هدف حماية الدين ونشر رسالته وخاضت الجيوش معارك للدفاع عن الإسلام، ولم يحدث في الدول القومية العلمانية في الغرب المعاصر، فالعلمانية خلصت الدين والمجتمع والأفراد والسياسة من سلطة الكنيسة وخرافاتها، لكنها حافظت (في معظم صورها) على الدين كمصدر للقيم، وعلى حق المتدينين في إقامة أحزاب وجمعيات أهلية، وصارت حرية الاعتقاد من الحريات الأساسية هناك. وأخيرا أثبتت السنوات الماضية أيضا أن السلطة في الدويلات الحالية قهرية مستبدة تعمل لمصالح ضيقة، ومرتهنة في بقائها على تحالفات خارجية، ويسيطر عليها وعلى الثروة أقليات وراثية أو عسكرية، وأنه لا أمل في إصلاح هذا النمط من السلطة؛ لأن النخب الحاكمة تجعل الصراع صفريا وتزرع كل يوم بذور انهيارها أو الثورة عليها. (4) أمام ثورات العرب فرصة تاريخية للتغيير والتعبير عن موازين القوة الحقيقية التي تمتلكها هذه الشعوب، ولا يؤخر الشعوب إلا اختلاف نخبتها وقواها الحية واهتزاز بوصلة الثورة لديهم، وعدم وجود عقل مدبر لها يدرك عمقها التاريخي ويستوعب معطيات واقعها ويستشرف آفاق وفرص النهوض. ولن يتم هذا إلا عبر بناء مصالحات تاريخية بين كل التيارات الوطنية على اختلاف أيديولوجياتها وتطوير العقيدة السياسية للثورة انطلاقا من احتياجات الواقع الاجتماعي في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية ووحدة المصير ووحدة الأوطان، وهذه العقيدة لا مفر من قيامها في اعتقادي على العروبة، والإسلام، ووحدة العرب ومصيرهم المشترك كمنطلقات مرجعية، وعلى الديمقراطية كنظام للحكم وإدارة المجتمعات، وليس كفلسفة أو مذهب سياسي، وعلى أساس أن حضارات شتى ساهمت في تطوير هذا النظام بما في ذلك الحضارة العربية الإسلامية، بجانب أنه لا يمكن تجاهل مكتسبات الحضارة أثناء تطوير نظم حكم وطنية حديثة تنظم العملية السياسية وتحمي الحريات والحقوق وتمهد الطريق لظهور حكومة عربية اتحادية واحدة تدير التنوع العربي وتضع مجتمعاتها على بداية طريق النهضة المنشودة.