عُقدت الجلسة الإفتتاحية للبرلمان الألماني "الرايخستاج" عام 1933 في دار أوبرا كرول، بعد أن دمر حريق مبنى الرايخستاج. كان النواب الشيوعيون قد أعتقلوا إثر مزاعم بتورط حزبهم في إحراق مبنى الرايخستاج، وأحتجز أيضًا عدد قليل من الاشتراكيين، وألقى القبض على أحدهم لدى دخوله المبنى. واصطف أفراد كتيبة العاصفة النازية وراء الإشتراكيين وسدوا مخارج المبنى. كان هُناك موضوع واحد فقط مطروح أمام الرايخستاج: تمرير "قانون تمكين". يمنح هذا القانون المستشار الألمانى هتلر سلطة إصدار قوانين دون موافقة البرلمان. حتى إذا كانت قوانين تُخالف الدستور، ولما كان القانون يستلزم تعديلًا للدستور، كان ذلك يتطلب موافقة أغلبية الثلثين، ومن ثم كان النازيون بحاجة إلى دعم المحافظين. حوى الخطاب الذى ألقاه "هتلر" لطرح القانون المقترح تطمينات للمحافظين بأن تمريره لن يهدد وجود البرلمان ولا منصب مثلهم الأعلى "الرئيس هيندنبورج" ما جعل أن يصوت المحافظون لمصلحة قانون التمكين. قرأ هتلر إعلانه في تجهُّم حاد ورباطة جأش استثنائية، لم يتجلَّ انفعاله المعروف عنه إلا عند دعوته لإعدام مدبر حريق الرايخستاج على رؤوس الأشهاد، ووعيده الشرس للاشتراكيين. وفي نهاية كلمته هدر النواب النازيون بصوت مدوّ "المانيا فوق الجميع" ردًا على هتلر. احتج الاشتراكي أوتو فيلز بشجاعة مستندًا إلى "مباديء الإنسانية والعدالة والحرية والاشتراكية". لكن السفير الفرنسي يتذكر أنه تحدث بنبرة أشبه بصياح طفل مضروب. واختتم فيلز الذي غص الانفعال صوته كلمته بالإعراب عن أطيب أمنياته لأولئك الذين تحفل بهم السجون ومعسكرات الاعتقال. رد عليه هتلر، الذي كان يدون الملاحظات في عصبية محمومة، منفعلًا ومتهمًا الاشتراكيين بأنهم قد عذبوا النازيين طوال 14 عامًا. في الواقع، لم يكن النازيون يعاقبون على أنشطتهم غير المشروعة -في حال عقابهم من الأساس- إلا بأخف العقوبات. قوبل رد هتلر بصيحات استهجان من الاشتراكيين، لكن من ورائهم كان هسيس أفراد "كتيبة العاصفة" يتردد "سوف تعدمون شنقًا اليوم". وافق البرلمان على قانون التمكين بأغلبية 444 صوتًا مؤيدًا مقابل 94 صوتًا معارضًا من الاشتراكيين. الأمر الذي أطاح بسيادة القانون، وأرسى الأساس لنوع جديد من السلطة القائمة في المقام الأول على إرادة الفوهرر. عمليًا، منح هذا القانون النازيين الحق في اتخاذ ما يرونه مناسبًا، ما يحقق "المصالح العليا للشعب الألماني" ضد أي شخص يعتبرونه عدوًا للرايخ؛ وكان الاشتراكيون أول الضحايا. "من الفاشية كيفن باسمور". انتهى المشهد داخل البرلمان الألماني، وانتهى هتلر وأسطورته، وبقيت أفعال النازيين داخل البرلمان، تسطرها كتب التاريخ، وتدرس في كتب العلوم السياسية رغم مرور العقود لكنها تكشف معها كافة الطرق التي إستخدمها هتلر وبرلمانه وإعلامه في شحذ الهمم والسيطرة على عقول الجماهير. حتى أطلت علينا مشاهد البرلمان المصري في عام 2016 لتبرز لنا نوعًا جديدًا من الهزلية الساخرة داخل مجلس لا يرتقي أن يطلق عليه مجلسًا للنواب. مشاهد البرلمان في بداية دورته عكست حجم اللامنطق الذي تعيشه البلاد، ويرعاه النظام. مشاهد فجة ومضحكة لمجلس مرر مئات القوانين في ساعات معدودة، مجلس تخللت جلساته مساخر وهزليات لو دونت في مضبطته لخرج علينا التاريخ متهمًا الشعب بأكمله بالجنون وربما بالجهل، مجلس خلى حتى من المعارضة الصورية. تساءلت لبرهة ماذا لو كان هتلر يحضر جلسة من جلسات الرايخستاج، وشاهد نائب من هؤلاء النواب النازيين وهو "يحلف بالطلاق" بعدم القسم على الدستور لأنه لا يعترف ببعض مواده، ويلتف حوله زملائه النازيين وهم يُحاولون إثنائه على عدم القسم. أو أن يراهم يوافقون على قانون تفعيل التوقيت الصيفي، وإلغائه في ذات الجلسة.. قبل أن يستجمع رئيس البرلمان رباطة جأشه وهو يخاطب النواب "أرجو البقاء وإلتزام الهدوء، إنتوا بتتغدوا وتمشوا" ! نعم برغم المجازر التي ارتكبها بعض الطغاة على مدار التاريخ، وبحور الدم التي لوثت أياديهم نتيجة استبدادهم وبطشهم ضد شعوبهم، إلا أن هؤلاء الطغاة عندما تسمع لأحدهم خطابًا وبرغم كرهك البين له، رغمًا عنك ستشعر بالهيبة لشحذه الهمم بطريقة تثير الإعجاب، ولخطبه المفوهة وكلماته المنمقة. لم نجد أحدهم وهو يخطب خطبة تافهة فقالوا "خطاب تاريخي" وإذا هدر بأوامر لا معنى لها صاحوا بصوت كهزيم الرعد "توجهات سامية"، وإذا تعطلت المرافق من مواصلات وكهرباء وماء وصرف صحي، صاحت الأبواق "نعمل بناء على توجيهات". لم يكن هناك برلمان مهمته "سلق" القوانين وتمريرها والموافقة عليها في أيام معدودة. نعم كان هناك توازنات ومؤامات وتنازلات من قِبل الأغلبية، والأدهى من ذلك أن هذه الأغلبية عندما تريد تمرير قانون ما، فإنها كانت تحتاج في البداية إلى تطمينات لباقي القوى السياسية، وعندما تتمكن تمارس سطوتها والتنكيل بالمعارضين لهذه القوانين. حتى في أعتى النُظم الديكتاتورية وأكثرها فاشية، كان هناك تناحر وصراع بين قوتين أحدهما ممسك ومهيمن بمقاليد الحُكم، والآخر معارض له. لم يكن هناك برلمان مهمته "سلق" القوانين وتمريرها والموافقة عليها في أيام معدودة. كانت هناك توازنات ومؤامات وتنازلات من قِبل الأغلبية، والأدهى من ذلك أن هذه الأغلبية عندما تريد تمرير قانون ما، فإنها تحتاج في البداية إلى تطمينات لباقي القوى السياسية، وعندما تتمكن تمارس سطوتها والتنكيل بالمعارضين لهذه القوانين. لو علم هتلر ما ستؤول إليه الأنظمة الفاشية بعد موته لخرج من تربته وانتحر مرة قبل أن يرى كل هذه المساخر التى حطمت هيبة المستبدين القدامى، وجعلت من المستبدين الجُدد مادة خصبة للسخرية. #أنا_شاركت_في_ثورة_يناير