ثلاثةٌ جدّهن هزل و هزلهن هزل، أسباب الثورة ومدنية الدولة وترنح الإنقلاب، فكما أن هناك من يتحدثون عن الدولة المدنية الحديثة وفي أدمغتهم أن تلك الدولة القائمة قد تصلح أساسا لها، وهو ما يعتبر هزلا، يتحدث آخرون عن ترنح الإنقلاب دونما حتي محاولة منهم لفهم لماذا كان هناك انقلابا؟ ولماذا توفرت أسباب نجاحه؟ وهو ما يعتبر هزلا كذلك، فبكل تأكيد أن من ينخرطون في تفنيد أسباب الثورة ووجودها اليوم هم الهزل ذاته.. لقد قامت الثورة منذ نصف عقد ولا ينكر وجود أسبابها إلا فاسد أو مخبر أو الديك لهيطة! ولكن فيما يبدو، من النقاشات العبثية الدائرة، أن ثورة يناير لم تكن حدثا نادرا مر عابرا بحياة سكان الوادي الطيب سهلي المعشر سهلي الإنقياد وحسب، بل اتضح أنه محيرا أيضا للكثيرين، حتي لأولئك الذين انخرطوا فيه. يحدث هذا عندما ينخرط الناس في الجدل حول أسباب الثورة، وكأنهم يعيدون اكتشاف ثورتهم من جديد، هل حقا قامت الثورة بسبب التوريث وغياب الديمقراطية، بسبب الفساد، بسبب التفاوت الطبقي الحاد بين المواطنين للحد الذي تجد فيه أبراجا فارهة تطل علي عشوائيات تفتقر حتي للمقومات الدنيا للحياة؟! أسئلة كتلك تفتح الباب واسعا لكل الإجابات، بما في ذلك نظرية المؤامرة والمخططات الصهيوأمريكية وإيران وحزب الله وكتائب السحر الأسود والوحش المقنّع و سلاحف النينجا.. يحدث ذلك دائما عندما تطرح أسئلة عبثية فإن أردت إجابة جادة فعليك أن تطرح سؤلا جادا، والسؤال الجاد في تقديري هو لماذا لم تقم الثورة قبل ذلك؟! ما يساق من أسباب للثورة ليس وليد أيام أو شهور أو حتي سنوات مبارك الأخيرة، فقد كانت الأسباب دائما حاضرة في مصر الحديثة منذ تأسيسها، فمصر لم تعرف تجربة ديمقراطية حقيقية، و حتي تلك الفترة التي تسمي بالحقبة الليبرالية، لم تكن ليبرالية كما يتخيل البعض، ولا كانت ديمقراطية كما يفترض، والفساد كان حاضرا بشتي صوره منذ التأسيس علي يد الباشا و رجاله، و تاريخنا الطويل مع السفاحين لا ينتهي، وكذا مع البصاصين ومقدمي الدرك، ودائما ما كان الحكم مُورّثا بشكل أو بآخر، ودائما ما كان هناك حاكم سفيه وحاشية بكروش ومؤخرات ممتلئة، و هناك أيضا الهزيلون المتسخون الذن يبحثون عن قوتهم في أكوام القمامة، ودائما ما كان مناديب الدولة الفاسدون حاضرون بقوة في كل عهد، و ربما لهذا ظلت أفلام الريحاني التي أنتجت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي حية ومعبرة عن واقع لا زلنا نعيشه، فناظر الوقف الفاسد في فيلم أبو حلموس لا زال حيا يُرزق، وكذلك شحاتة أفندي بخيت الموظف الحلنجي، الذي يعرف تماما كيف يستّف الأوراق، ولا زال جابر أفندي الموظف الشريف الذي يتم فصله من عمله في وسية عمر الألفي لأمانته في فيلم سي عمر موجودا أيضا. لم تقم الثورة قبل يناير برغم توفر أسبابها؛ لأن الثورة تحتاج لما هو أكثر من أسباب، تحتاج إلي الملهمين الذين يبشرّون بعالم أفضل، و الملهم لا يخاطب السلطة أو يقدم لها عرائض المطالب، بل يطرح ذاته بديلا لها، و لا يجالس المواطنين ليشرح لهم درايته بمعاناتهم، بل ليعدهم بأحلام مغايرة ومصائر مختلفة، فالجماهير تحتاج للأمل أكثر من حاجتها للتضامن، غير أن الله ابتلانا بنخب شاخت وتكلست وافتقرت الهمة و الخيال، حتي صارت لا تعرف من المعارضة سوي موقف الضد، و لا تتصرف حيال الجواسم سوي ببيانات إبراء الذمة، و من يُعرّف نفسه بالضد ليس ملهما ولا مبشرا بعوالم جديدة، لكن الجماهير الباحثة عن الأمل تلقّفت إلهامها من خارج الحدود ومن وراء تخوم الدولة علي أي حال، فتجاوزت نخبها المذعورة وهي ماضية في طريقها للثورة. الناس تعرف أحوالها جيدا، تعلم متي تباغت ومتي تتقهقر ومتي تنسحب، يشعرون بوطأة الأزمات ويعانون، يرون الفساد والقمع ويكتوون به، يغلقون أبوابهم ويلوذون بالكتمان في أوقات الجنون، هم متجاوزون لدولتهم ولنخبهم ولمثقفيهم، فهم حقا من يُسيّرون حيواتهم ويحفظون أمن أنفسهم ويديرون عجلة اقتصادهم، فمن يتصوّر أن الدولة هي من تحفظ الأمن أو تنتج أو تعيل المواطنين هو إما مذعور جاهل أو فاسد مذعور. لكن ما ينقص الناس هو من يلهمهم للفعل، ومن يثق باختياراتهم ويثق في قدرتهم علي تصحيح أخطائهم إن أخطأوا. هم لا يريدون وصيّا ولا متذيّلا، ولا يثقون في المسميات، فلطالما تم التلاعب بها، و لا يريدون من يعرّف نفسه بالضد، ولا من لا يدري ماهية ما يمثّل. هم يثقون في حدسهم حيال ما هو جديد، وفي خبرتهم، يعرفون الأشياء بوصفها لا بمسماها، و هو ما لم يجدوه في نخب رفعوها إلى القيادة. لا يعني هذا اكتمال المعرفة أو انتفاء تزييف الوعي، ولكن الشعوب تصنع تجربتها وتخطئ وتصيب في خياراتها، و لا سبيل إلى نجاح التجربة سوي استمرارها، فالديمقراطيات المستقرة لم تولد هكذا، و مخاضها لم يكن سهلا ولا منعطفاتها كانت آمنة، لكنها تركت لنا إرثا وعلامات تضئ الطريق. وكما تبدو المقارنات بين تجربتنا والديمقرطيات المستقرة مخلّة، قد تكون المقارنات مع ثورات أخري أيضا مخلّة، ربما تبدو ثورتنا شديدة الشبه بالثورة الفرنسية، وربما تكون الإجابة تونس كما يعتقد البعض، و ربما تركيا، وربما علينا أن نبحث نحن عن إجابة سؤالنا بأنفسنا، ولكن الأهم أن على من يحملون هم الثورة علي عواتقهم سواءً اعتبرو أنفسهم نخبة أو جنود مشاة أن يعرّفوا أنفسهم أولا بالإيجاب لا بالسلب، و أن يبشّروا بعالم أفضل له ملامح و تفاصيل ويحمل إجابات لحلحلة الأزمة، عالم يعالج الأسباب، ولا يعاود طرحها مجددا هربا من الإجابة. و لنتذكر أنه عندما تمر الأنظمة المجرمة بمنعطفات تهدد بقائها تلجأ إلى المواجهة، فإن لم تر في ذاتها القدرة على المواجهة عندها تلجأ إلى محاولة تعطيل الزمن أو شراء الوقت، لكن عند ذلك عليها أن تقدم شيئا في المقابل، فصدام حسين عندما كان مهزوما ومحاصرا قايض محاصريه بالنفط في مقابل الوقت، فهذا ما كان يمتلكه، وإسرائيل عندما أرهقتها المقاومة اقترحت قليلا من الأرض مقابل الوقت أيضا، فهذا ما امتلكته لتقدمه، أما نظامنا المجرم التافه المحاصر بفشله وعجزه فيشتري الوقت في مقابل الفزع، فهذا ما يمتلكه، فلا شئ آخر يقدمه لرعاياه سوي الفزع، وتلك بضاعة لا تشتري الكثير!