(1) هل الشعب المصرى فعلًا هو كما ذكره أديبنا الأعظم نجيب محفوظ في روايته البديعة المرايا، مثل الوحش المذكور فى الأساطير يستيقظ أيامًا وينام أجيالًا ؟ وما الذى يدفعه أن ينام أجيالًا، وهو محروم من أبسط حقوقه كباقي شعوب العالم، مغلول بكل أنواع الأغلال، مقهور ومظلوم، محاصر بين الفقر والجهل والمرض والذل ؟ والأهم من كل ما سبق ما الذى يخشاه الحاكم ليجعل شعبه قابع في الفقر والمرض، وهو قادر على أن ينهض بهذا الشعب، ليسير به على ركب الدول المتقدمة، عن طريق استغلال ثروات البلاد، وتوزيع خيراته بالعدل والمساواة ؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة شافية. ولكن من المؤكد لى أن أي ديكتاتور لا يستطيع أن يمتطى شعب واعٍ؛ لأن الثقافة والمعرفة تزود الإنسان أكثر من أى شيء آخر بالفهم والتأمل، اللذين يتيحان له وضوح الرؤية والنقد، وينتج عقلًا يطرح الأسئلة بدون خوف، مغرمًا بالمعرفة والعلم وكسر المسلمات، وبالتبعية كراهية الطغيان والاستبداد، أما المستبد فكاره للعلم والمعرفة، ويود لو يحرم شعبه حرية الفكر والعلم والمعرفة، ولا يُبالي بانتشالهم من الفقر المُدقع الذي يعيشونه، ويتمنى أن يتحول المجتمع كله إلى حفنة من الجبناء الخاضعين المُحبين له وحده. كل ذلك من أجل بقائه على كُرسي الُحكم. يقول الكواكبى عن أهمية العلم والتعليم وخطره المباشر على الطغاة المستبدين " المستبد لا يخشى من العلوم المقومة للسان.. وكذلك لا يخاف من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، ولكن ترتعد فرائصه من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وسياسة المدينة، والتاريخ المفصل وغيرها من العلوم الممزقة للغيوم… ويقال بالإجمال إن المستبد يخاف من العلوم التي توسع العقول، وتعرّف الإنسان ما هو الإنسان، وما هى حقوقه، وهل هو مغبون؟، وكيف الطلب؟، وكيف النوال وكيف الحفظ؟.. فالمستبد كما يبغض العلم لنتائجه يبغضه لذاته؛ لأن للعلم سلطانًا أرقى وأقوى من كل سلطان، ولدلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم ذكي. فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار التملق، وعلى هذه القاعدة بنى (ابن خلدون) قوله "فاز المتملقون" وينتج من هذا أن بين الاستبداد والعلم حربًا دائمة.. يسعى العلماء فى نشر العلم، ويجتهد المستبدون فى إطفائه، والطرفان يجتذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، وهم الذين إذا علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا. العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشيء عن الجهل، فإذا ارتفع الجهل زال الخوف وإنقلب الوضع".. (2) لا عجب بعد كل ذلك أن نرى أنصاف المثقفين والكتاب يتركون الحديث عن العدد المرعب للعلماء المصريين المهاجرين للخارج، والذى بلغ 86 ألف عالم، وأن مصر تأتي في المركز الأول في عدد العلماء المهاجرين على مستوى العالم. وبدلًا من أن يوجهوا حديثهم إلى سبب هجرة هذه العقول، وإلى فتح مجالات لهم للاستفادة بخبراتهم فى مختلف المجالات، وإتاحة مناخ مشجع وداعم لهم، من أجل نهضة المجتمع. بدلًا من كل ذلك أمطرونا بالحديث عن المؤامرات الخارجية التى يزعمون أنها تُحاك ضد مصر، وغرقنا في وهم المؤامرات حتى ظن الكثيرون أن فى الهواء الذى نتنفسه مؤامرة! ولو كان هناك مؤامرة بالفعل ضد مصر فقد انتهت بوصول المستبدين على كرسى الحكم، فالمؤامرة الحقيقة هى إعادة استنساخ الاستبداد والفساد وقمع الشعوب وتضليلها. المتآمرون الحقيقيون على مصر هم من جعلوها فى المركز 139، وقبل الأخير فى جودة التعليم. من جعلوها فى المرتبة الثانية عالميًا فى قمع المعارضين حبس الصحفيين، والأولى عالميًا فى حوادث النقل والطرق، بمعدل قتيل كل نصف ساعة حسب أحدث الإحصائيات العالمية.. يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه. نظرية المؤامرة هي "الشماعة" التى يعلق عليها الطغاة أسباب فشلهم، و"الفزاعة" التى تبرر عجزهم عن إلحاق بلدانهم بركب الحضارة، وكانت السيف المسلط على رؤوس الشعوب الثائرة على حكامها المستبدين، لتُبيح لهم إتهام المعارضين بالعمالة والتآمر عليها، تنفيذا المخططات الغربية، ومن ثم قمعهم وقتلهم وإهدار حقوقهم بحجة المؤامرة الخارجية!! وكان هذا النهج واضحًا جليًا عندما اعتقلت قوات الأمن في الأيام القليلة الماضية العديد من الكُتاب والصحفيين والنُشطاء السياسيين المُعارضين، ووجهت لهم اتهامات ساذجة، مثل: تكدير الأمن والسِلم العام، ونشر أخبار كاذبة تضر بالأمن القومي للبلاد، وتم استحداث تهم مثيرة للسخرية، مثل اتهام الناشط خالد السيد " اليساري" إنضمام لجماعة الإخوان، والقبض على الناشط شريف دياب ومجموعة أخرى من شباب الثورة و اتهامهم بالإنضمام لحركة "25 يناير". قال أرسطو منذ زمن سحيق "تُعَمِر أنظمة حكم الأقلية والأنظمة الاستبدادية إلى فترات أقل من غيرها من الأنظمة الأخرى؛ فالاستبداد قليلا ما يعمر..