ننشر أسعار الذهب في مستهل تعاملات الإثنين 3 يونيو    انخفاض مبشر في أسعار الفراخ اليوم 3 يونيو.. والبيض يقفز فجأة    حدث ليلا.. هجوم عنيف على سوريا وحرائق في إسرائيل وأزمة جديدة بتل أبيب    كلاوديا شينباوم.. في طريقها للفوز في انتخابات الرئاسة المكسيكية    حريق هائل يخلف خسائر كبيرة بمؤسسة اتصالات الجزائر جنوب شرق البلاد    كيفية حصول نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بني سويف    تفاصيل الحالة الجوية اليوم 3 يونيو.. الأرصاد تكشف الجديد عن الموجة الحارة    هل يجوز حلق الشعر في العشر الأوائل من ذى الحجة؟.. الإفتاء تجيب    تراجع أسعار النفط رغم تمديد أوبك+ خفض الإنتاج    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 3 يونيو    بينهم 3 أطفال.. استشهاد 8 فلسطينيين في قصف إسرائيلي بخان يونس    متى تفتح العمرة بعد الحج ومدة صلاحية التأشيرة؟.. تفاصيل وخطوات التقديم    استشهاد 8 بينهم 3 أطفال فى قصف إسرائيلى على منزلين بخان يونس    لإنتاج الخبز.. التموين: توفير الدقيق المدعم ل30 ألف مخبز يوميًا    أفشة: هدف القاضية ظلمني.. وأمتلك الكثير من البطولات    ارتبط اسمه ب الأهلي.. من هو محمد كوناتيه؟    أفشة يكشف عن الهدف الذي غير حياته    "لقاءات أوروبية ومنافسة عربية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    الغموض يسيطر على مستقبل ثنائي الأهلي (تفاصيل)    أمين سر خطة النواب: أرقام الموازنة العامة أظهرت عدم التزام واحد بمبدأ الشفافية    التعليم: مصروفات المدارس الخاصة بأنواعها يتم متابعتها بآلية دقيقة    متحدث الوزراء: الاستعانة ب 50 ألف معلم سنويا لسد العجز    السكك الحديد: تشغل عدد من القطارات الإضافية بالعيد وهذه مواعيدها    حماية المستهلك: ممارسات بعض التجار سبب ارتفاع الأسعار ونعمل على مواجهتهم    أحداث شهدها الوسط الفني خلال ال24 ساعة الماضية.. شائعة مرض وحريق وحادث    عماد الدين أديب: نتنياهو الأحمق حول إسرائيل من ضحية إلى مذنب    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلين شرق خان يونس إلى 10 شهداء    زلزال بقوة 5.9 درجات يضرب "إيشيكاوا" اليابانية    «مبيدافعش بنص جنيه».. تعليق صادم من خالد الغندور بشأن مستوى زيزو    خوسيلو: لا أعرف أين سألعب.. وبعض اللاعبين لم يحتفلوا ب أبطال أوروبا    أفشة ابن الناس الطيبين، 7 تصريحات لا تفوتك لنجم الأهلي (فيديو)    سماع دوي انفجارات عنيفة في أوكرانيا    محمد الباز ل«بين السطور»: «المتحدة» لديها مهمة في عمق الأمن القومي المصري    «زي النهارده».. وفاة النجم العالمي أنتوني كوين 3 يونيو 2001    أسامة القوصي ل«الشاهد»: الإخوان فشلوا وصدروا لنا مشروعا إسلاميا غير واقعي    محافظ بورسعيد يودع حجاج الجمعيات الأهلية.. ويوجه مشرفي الحج بتوفير سبل الراحة    فضل صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وفقا لما جاء في الكتاب والسنة النبوية    «رئاسة الحرمين» توضح أهم الأعمال المستحبة للحجاج عند دخول المسجد الحرام    وزير الصحة: تكليف مباشر من الرئيس السيسي لعلاج الأشقاء الفلسطينيين    تكات المحشي لطعم وريحة تجيب آخر الشارع.. مقدار الشوربة والأرز لكل كيلو    إنفوجراف.. مشاركة وزير العمل في اجتماعِ المجموعةِ العربية لمؤتمر جنيف    جهات التحقيق تستعلم عن الحالة الصحية لشخص أشعل النيران في جسده بكرداسة    منتدى الأعمال المصري المجري للاتصالات يستعرض فرص الشراكات بين البلدين    العثور على جثة طالبة بالمرحلة الإعدادية في المنيا    الإفتاء تكشف عن تحذير النبي من استباحة أعراض الناس: من أشنع الذنوب إثمًا    دعاء في جوف الليل: اللهم افتح علينا من خزائن فضلك ورحمتك ما تثبت به الإيمان في قلوبنا    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم دراجتين ناريتين بالوادي الجديد    تنخفض لأقل سعر.. أسعار الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الإثنين 3 يونيو بالصاغة    مصرع 5 أشخاص وإصابة 14 آخرين في حادث تصادم سيارتين بقنا    دراسة صادمة: الاضطرابات العقلية قد تنتقل بالعدوى بين المراهقين    محمد أحمد ماهر: لن أقبل بصفع والدى فى أى مشهد تمثيلى    إصابة أمير المصري أثناء تصوير فيلم «Giant» العالمي (تفاصيل)    الفنان أحمد ماهر ينهار من البكاء بسبب نجله محمد (فيديو)    رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني يعلق على تطوير «الثانوية العامة»    حالة عصبية نادرة.. سيدة تتذكر تفاصيل حياتها حتى وهي جنين في بطن أمها    وزير العمل يشارك في اجتماع المجموعة العربية استعدادا لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    التنظيم والإدارة: إتاحة الاستعلام عن نتيجة التظلم للمتقدمين لمسابقة معلم مساعد    اللجنة العامة ل«النواب» توافق على موزانة المجلس للسنة المالية 2024 /2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي
نشر في البوابة يوم 01 - 12 - 2012

الاستبداد، كما يرى عبد الرحمن الكواكبي في مقدمة الكتاب، هو “,”داء الشرق“,”. ولأن علم السياسة من منظوره يعني “,”إدارة الشئون المشتركة بمقتضى الحكمة“,”، فإن المحور الأهم في هذا العلم هو الاستبداد: “,”أي التصرف في الشئون المشتركة بمقتضى الهوى“,”.
من المنطقي أن يطرح الكواكبي عدة تساؤلات تدور حول بعض التعريفات والمفاهيم التي ينبغي الوعي بها والاتفاق عليها: ما هو الاستبداد؟ ما سببه؟ ما أعراضه؟ ما تشخيصه؟ ما سيره؟ ما إنذاره؟ ما دواؤه؟ وكل موضوع من ذلك: “,”يتحمل تفصيلاً كثيرًا، وبعضه يتحمل سفرًا كبيرًا.
يقول الكواكبي إن الاستبداد لغة: “,”هو اقتصار المرء على رأي نفسه فيما ينبغي الاستشارة فيه“,”، ويضيف “,”يُراد“,” بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصة؛ لأنها هي أقوى العوامل التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة، وأما تحكم رؤساء بعض الأديان وبعض العائلات وبعض الأصناف، فيوصف بالاستبداد مجازًا أو مع الإضافة“,”.
فارق جوهري ينبغي الالتفات إليه بين الموضوعي الجمعي والذاتي الفردي مع الاستبداد، وقد يكون الاستبداد الشخصي المحدود في تأثيره معيبًا مرذولاً، لكن الخطورة الحقيقية تكمن في استبداد الحكومات؛ ذلك أن الأمر هنا يمتد إلى آفاق أرحب تطول الأغلبية العظمى من رعايا هذه الحكومات.
خلاصة ما يذهب إليه الكواكبي في مقدمته: “,”أن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها“,”.
وفي مباحث الكتاب، يقدم عبد الرحمن الكواكبي تصورًا مفصلاً عن الاستبداد من حيث علاقته بكل من: الدين، العلم، المجد، المال، الأخلاق، التربية، الترقي؛ وصولاً إلى المبحث الأخير عن “,”الاستبداد والتخلص منه“,”.
أ‌- الاستبداد والدين:
ما العلاقة بين الاستبداد والدين؟!، وهل صحيح ما يذهب إليه بعض علماء السياسة من أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني: “,”والمشكلة بينهما ظاهرة من أن أحدهما حاكم في عالم القلوب والآخر متحكم في مملكة الأجساد“,”؟!.
يرفض الكواكبي أن يحكم على الإسلام بالنظر إلى سلوك حكام المسلمين الذين يستعينون بالدين ورجاله لتدعيم استبدادهم، ويرى أن الإسلام جاء بالحكمة والعزم: “,”هادمًا للتشريك بالكلية، ومحكمًا لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الديمقراطية والأريستقراطية“,”.
القرآن الكريم، كما يقول الكواكبي، كتاب “,”مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه“,”، والديانة الإسلامية: مؤسسة على أصول الإدارة الديمقراطية، أي العمومية، والشورى الأريستقراطية، أي شورى الأشراف. وقد مضى عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتم وأكمل صورتها، خصوصًا وأنه لا يوجد في الإسلام نفوذ ديني مطلقًا في غير مسائل إقامة الدين“,”.
لا ينبغي للدين أن يختلط بالسياسة أو يتحول إلى أداة من أدواتها، وجوهر المسألة عند الكواكبي في ضرورة التمييز بين التعاليم الإسلامية وممارسات المستبدين من الحكام والملوك، اللافت للنظر، أن الكواكبي يختتم مبحثه هذا بالإشارة إلى الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، مؤكدًا أن الكثير مما اكتشفه المعاصرون من علماء الغرب قد أشار إليه القرآن تصريحًا وتلميحًا. لعل ما يهدف إليه من استعراض آيات الإعجاز، هو البرهنة على أن الاستبداد يؤدي إلى تراجع العلم، تمامًا كما أنه يسيء إلى الدين ويطمس ملامحه الإيجابية.
ب-الاستبداد والعلم:
يمثل الجهل سلاحًا مهمًا لكل مستبد، فالأمة الجاهلة أسلس في قيادها، وأكثر عرضة لتقبل الاستبداد والخضوع للمستبدين، أو كما يقول الكواكبي: “,”لا يخفى على المستبد أن لا استعباد ولا اعتساف ما لم تكن الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه وعماء. فلو كان المستبد طيرًا لكان خفاشًا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشًا لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل“,”.
العلم الصحي الصحيح يصنع الوعي واليقظة، أما الجهل فإنه يعين المستبد في تحقيق غاياته وأهدافه. كلما يزداد جهل الرعية، يتوغل المستبد في توحشه وقمعه. أي علوم يخافها المستبد؟!. يرى الكواكبي أن المعارف الإنسانية هي التي تثير الرعب: “,”ويُقال بالإجمال إن المستبد لا يخاف من العلوم كلها بل من التي توسع العقول وتعرف الإنسان، ما هي حقوقه، وهل هو مغبون وكيف الطلب وكيف النوال وكيف الحفظ“,”.
سلطتان متعارضتان لا مهرب من الصراع بينهما: سلطة العلم في مواجهة سلطة الاستبداد، والحرب دائمة لا تتقطع. ليس من مجال للتصالح والتعايش، ذلك أن النظام الاستبدادي لا مستقبل له بمعزل عن استمرار جهل العوام. وكم يبدو الكواكبي ثاقب النظر عندما يقول: “,”وكلما زاد المستبد ظلمًا واعتسافًا زاد خوفه من رعيته ومن حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته. وكثيرًا ما تُختتم حياة المستبدين الضعيفي القلوب منهم بالجنون“,”.
الجنون هنا ليس نهاية مأسوية فردية، بل هو تتويج لتفاعل بالغ التعقيد بين الذاتي والموضوعي. المستبد لا يجد السعادة ولا ينعم بالاستقرار، فهو في خوف دائم من تبدل الأحوال وانتشار الوعي: “,”والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام، وأكثر العلماء والأعلام والأدباء والنبلاء، تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء“,”.
الأنبياء في طليعة من يقاومون الاستبداد، فكيف إذن تتحول رسالاتهم السامية إلى عون للمستبدين؟!. السر كامن في الذين يتاجرون بالعلوم الدينية، وبتجارتهم هذه يهدرون حقوق الشعب وجوهر الدين معًا!.
ج- الاستبداد والمجد:
يقدم الكواكبي تعريفًا للمجد، قوامه: “,”إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكل إنسان لا يترفع عنه نبي أو زاهد، ولا ينحط عنه دني أو خامل“,”، وهو يرى أن المجد الحقيقي “,”لا يُنال إلا بنوع من البذل في سبيل الجماعة، وبتعبير الشرقيين في سبيل الله أو سبيل الدين، وبتعبير الغربيين في سبيل الإنسانية أو سبيل الوطنية“,”.
مثل هذا النوع من المجد، المقترن بالفضائل والأعمال المجيدة، يختلف عما يسميه الكواكبي ب“,”التمجد“,”، والفارق بين النوعين هو دخول الاستبداد ليفسد ويشوه ويغير المسار: “,”التمجد خاص بالإدارات المستبدة، وهو القربى من المستبد بالفعل“,”، ثم يضيف: “,”إن التمجد خاص بالإدارات الاستبدادية؛ وذلك لأن الحكومة الحرة التي تمثل عواطف الأمة تأبى كل الإباء إخلاء التساوي بين الأفراد إلا لموجب حقيقي فلا ترفع قدر أحد منها إلا أثناء قيامه في خدمتها، أي الخدمة العمومية، كما أنها لا تميزه بوسام أو تشرفه بلقب، إلا إعلانًا لخدمة مهمة وفقه الله إليها“,”.
المفهوم هنا يعني شراء الذمم والنفوس بالألقاب الكاذبة والهالات المصنوعة التي تكرس الظلم وتحافظ على ثوابته، ويصل الكواكبي إلى نتيجة مهمة بعد استطراد طويل يشرح فيه معنى الأصالة: “,”الحكومة المستبدة تكون طبعًا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا، لأن الأسافل لا يهمهم جلب محبة الناس، إنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد فيهم بأنهم على شاكلته وأنصار لدولته وشرهون لأكل السقطات من ذبيحة الأمة“,”.
سلسلة من المستبدين، تبدأ بالحاكم وتصل إلى الكناس، ولكل أسلوبه في الاستبداد، ولكل صفاته ونفوذه المحدد والشكليات التي يتسلح بها. ليس من ضحية لهذه السلسلة الجهنمية من المستبدين إلا الأمة، تلك الكتلة الشعبية العريضة التي تدفع الثمن فادحًا من جسدها وقدراتها.
الولاء في ظل الاستبداد لم يمنح المجد الزائف، والمستبد الأكبر لا يستمد بقاءه وقوته إلا بالاتكاء على المستبدين الأصاغر الذين صنعهم: “,”والنتيجة أن المستبد فرد عاجز لا قوة فيه ولا حول له إلا بالمتمجدين، والأمة المأسورة ليس لها من يحك جلدها غير ظفرها، ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والإهداء، حتى إذا اكفهرت سماء عقول بنيها قيض الله لها منها قادة أبرارًا، يشترون لها السعادة بشقائهم والحياة بموتهم“,”.
د- الاستبداد والمال:
تعريف المال، كما يقدمه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه، يبدو شاملاً ومتسعًا بما يتجاوز المعنى الشائع المباشر للكلمة: “,”القوة مال والعقل مال والعلم مال والدين مال والثبات مال والجاه مال والجمال مال والترتيب مال والاقتصاد مال. والحاصل، كل ما ينتفع بثمرته الإنسان هو مال، وكل هذه الأسباب وثمراتها معرضة لإفساد الاستبداد ومجلبة فيه للوبال“,”.
المال في ذاته ليس مفسدة أو شرًا، لكن الاستداد يحيله إلى أداة دمار فيفقد الإنسان إنسانيته، ويهبط إلى الدرك الحيواني، ويتفشى الاستغلال الذي يجعل من أقلية البشر عالة في أغلبيتهم. يوقن الكواكبي أن بني الإنسان قد تقاسموا الحياة قسمة ظالمة لا عدل فيها ولا اعتدال. ومرد ذلك إلى هيمنة الاستبداد الذي يصنع كل الشرور، ويملك أن يحول الإيجابي المفيد إلى سلبي مضر: “,”ثم إن رجال البشر تقاسموا مشاق الحياة قسمة ظالمة أيضًا، فإن رجال السياسة والأديان ومن يلتحق بهم، وعددهم لا يتجاوز الواحد في المائة، يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة، ينفقونه في الرفه والإسراف، مثال ذلك أنهم يزينون الشوارع بملايين من المصابيح لمرورهم فيها أحيانًا، ولا يفكرون في ملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام“,”.
الاستبداد هنا وثيق الصلة بالمظالم الاجتماعية، فالأقلية المرفهة هي من تصنع الاستبداد وتحميه وتفيد منه وتحرص على بقائه، وبفضله تحكم وتتحكم وتتنعم وتسرف في الاستغلال الجشع. ولا شك أن الكواكبي بذلك التحليل الناضج المبكر، الذي يجعل من المشابهة بين الإنسان وبعض أصناف الحيوان مدخلاً لفكرة اجتماعية واعية، تراود قدرًا أكبر من العدالة الاجتماعية، يسبق عصره بخطوات واسعة: “,”التمول، أي ادخار المال، طبيعة في بعض أنواع قليلة من الحيوانات الدنيئة الضعيفة، كالنمل والنحل، ولا أثر لطبيعة التمول في الحيوانات المرتقية غير الإنسان، فإنه تطبع عليه“,”.
منهج التصرف في المال يختلف بين الحكومة الشعبية الديمقراطية والأخرى المستبدة: “,”حيث يسهل بها تحصيل الثروة بالسرقة من المال، وبالتعدي على الحقوق العامة، وبغصب ما في أيدي الضعفاء، ونحو ذلك من الوسائل المقدورة لكل إنسان تَرَك الدين والوجدان والحياة جانبًا، وانحط في أخلاقه إلى ملاءمة المستبد الأعظم أو أحد أعوانه وعماله“,”.
ويكشف الكواكبي عن ملمح مهم يميز من يملكون المال في ظل الحكم الاستبدادي، فحفظ المال عندهم أصعب من كسبه: “,”لأن ظهور أثره على صاحبه مجلبة لأنواع البلاء عليه، ولذلك يضطر الناس زمن الاستبداد لإخفاء نعمة الله والتظاهر بالفقر والفاقة“,”.
ه- الاستبداد والأخلاق:
يمتد الأثر السلبي للاستبداد فيعصف بكل أركان المنظومة الأخلاقية: “,”فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها، فيجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه، لأنه لم يملكها حق الملك ليحمده عليها حق الحمد“,”.
ومن ناحية أخرى، فإن الاستبداد “,”يسلب الراحة الفكرية فيضني الأجسام فوق ضناها بالشقاء، فتمرض العقول ويختل الشعور على درجات متفاوتة في الناس. والعوام الذين هم قليلو المادة في الأصل، قد يصل مرضهم العقلي إلى درجة قريبة من عدم التمييز بين الخير والشر، في كل ما ليس من ضروريات حياتهم الحيوانية“,”.
لا تنفصل الأخلاق عن المناخ العام لكل وأي مجتمع إنساني، وعندما يتراجع العقل وتتلاشى القدرة على إعماله والاحتكام إليه، يبدو السبيل ممهدًا أمام المزيد من التدهور والانهيار والسقوط. ولأن الاستبداد هو صانع المناخ السيئ؛ ولأنه أيضًا سالب العقل ومفسد قدراته، يبدو منطقيًا أن تتعرض الأخلاق لمحنة قاصمة في إطار الاستبداد.
وكم يبدو المفكر الرائد رائعًا بحق وهو يسفه كل ما يمكن أن يُنسب إلى الحكم الاستبدادي من حسنات وإيجابيات، فهو يرد الظاهر الجدير بالمدح والثناء إلى حقيقته الجديرة بالإدانة والفضح: “,”وقد يدخل على الناس أن للاستبداد حسنات مفقودة في الإدارة الحرة ويسلمون له بها فيقولون الاستبداد يليّن الطباع ويلطفها، والحق أن ذلك يحصل فيه عن فقد الشهامة لا عن فقد الشراسة، ويقولون الاستداد يعلّم الطاعة والانقياد، والحق أن هذا فيه عن خوف وجبانة لا عن إرادة واختيار، أو يقولون هو يربي النفوس على احترام الكبير وتوقيره، والحق أنه مع الكراهة والبغض لا عن ميل وحب، ويقولون الاستبداد يقلل الفسق والفجور، والحق فيه إنه عن فقر وعجز لا عن عفة أو دين، ويقولون هو يقلل الجرائم، والحق أنه يخفيها فيقل تعديدها لا عددها“,”.
وفي موضع آخر من المبحث، يقول الكواكبي: “,”أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق ولبئس السيئتان، ويعين الأشرار على إظهار ما في نفوسهم آمنين حتى في الانتقاد والفضيحة؛ لأن أكثر أعمالهم تبقى مستورة، يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة وعقبى ذكر الفاجر بما فيه“,”.
قد يُقال إن لكل نظام، سياسي واجتماعي، إيجابيات وسلبيات، لكن عبد الرحمن الكواكبي لا يرى في الاستبداد إلا الشر المطلق، وأخطر ما في هذا النظام أنه يزلزل الأخلاق ويهدم ثوابت الأمة، التي يستحيل تعويضها إلا بجهد شاق، وفي إعادة البناء هذا عناء الأمة وعذاباتها.
و- الاستبداد والتربية:
إذا كان الاستبداد “,”المشئوم“,” يؤثر على الأجسام فيورثها الأسقام، ويسطو على النفوس فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نماءها، فمن الطبيعي أن يصل الكواكبي إلى نتيجة مفادها: “,”تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته“,”.
التربية عند الكواكبي: “,”ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدرة والاقتباس، فأهم أصولها وجود المربين وأهم فروعها وجود الدين. وهذه الملكة بعد حصولها، إن كانت شرًا تظافرت مع النفس والشيطان فرسخت، وإن كانت خيرًا تبقى مقلقلة كالسفينة في بحر الأهواء لا يرسو بها إلا فرعها الديني أو الوازع السياسي مع المثابرة على العمل بمقتضاها. والاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن، وهو مفسد للدين في أهم قسميه، أي الأخلاق“,”.
قد يكون صحيحًا أن الاستبداد لا يتعرض لجانب العبادات في الدين، لكن تفسير ذلك عند الكواكبي مردود إلى أن هذه العبادات لا تتعارض مع الاستبداد أو تهدده، بل إنها تقويه وتعينه وتدعمه: “,”ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبارات مجردة صارت عادات“,”.
أسرى الاستبداد خاملون خامدون حائرون، ولا أمل يُرتجى في حصولهم على التربية المثالية المنشودة في ظل الحكم الاستبدادي، ذلك أن تأثير الأسرة والتعليم يتأثر سلبًا بالنظام العام الذي يفسد ويشوه. ما التربية التي يمكن الرهان عليها في ظل نظام يبيح “,”الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل ومراغمة الحس وإماتة النفس.. إلى آخره. وينتج من ذلك أنه يربي الناس على هذه الخصال؛ بناء عليه يرى الآباء أن تعبهم في تربية الأبناء التربية الأولى لا بد أن يذهب عبثًا تحت أرجل تربية الاستبداد، كما ذهبت قبلها تربية آبائهم لهم سدى“,”.
ويتجلى واضحًا في ختام المبحث، أنه لا يمكن نشوء التوافق بين التربية والاستبداد، وبخاصة في الشرق الذي يعاني ويكابد من القهر. الأمل الوحيد أن يزول الاستبداد، وبذلك تتحول العقول، وبعدها يمكن السعي من أجل إرساء قواعد التربية وفق أسس سليمة ناضجة.
ما الترقي؟!. إنه “,”الحركة الحيوية، أي حركة الشخوص، ويقابله الهبوط، وهو الحركة إلى الموت أو الانحلال أو الاستحالة أو الانقلاب“,”.
ووفقًا لما يذهب إليه الكواكبي، فإن “,”الترقي الحيوي الذي يسعى وراءه الإنسان بفطرته هو أولاً الترقي في الجسم صحة وتلذذًا، ثم الترقي في التركيب بالعائلة والعشيرة، ثم الترقي في القوة بالعلم والمال، ثم الترقي في الملكات بالخصال والمفاخر. وهناك نوع آخر بالترقي يتعلق بالروح، وهو أن الإنسان يحمل نفسًا ملهمة بأن لها وراء حياتها هذه حياة أخرى تترقى إليها على سلم الرحمة والحسنات“,”.
وكما هو الحال في المباحث السابقة، يتوقف الكواكبي عند المؤثر السلبي للاستبداد على الترقي: “,”وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفل، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور. وإذا ألزمت بالحرية تشقى، وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أطلق سراحها. وعندئذ يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها“,”.
بزوال الرغبة في الترقي، وبالاعتياد على الحياة الراكدة الآسنة غير القابلة للتغيير والتطور، يبدو المستقبل مظلمًا كالحًا. القانون الذي يستخلصه الكواكبي مستمد من التاريخ وتجارب الأمم السابقة، والحكومات العادلة وحدها هي القادرة على تدعيم فكرة الترقي، فكل فرد فيها يعيش كأنه خالد، وكيف لا يكون كذلك وهو يحظى بالكثير من النعم، مقتربًا من الحياة التي تُوصف بها الجنة: السلامة والأمن، الملذات الجسمية والفكرية، الحرية، العزة، المساواة، العدل، الرزق والعدالة الاجتماعية، الشرف وسيادة القانون دون تمييز.
ما الذي يراوده الإنسان أكثر من هذه الأمنيات؟!، وهل يمكن أن تتحقق مفردات الحلم هذه إلا على أنقاض الاستبداد، صانع الركود والجمود؟!.
يقول الكواكبي ملخصًا رؤيته: “,”وأنفع ما بلغه الترقي في البشر هو إحكامهم أصول الحكومات المنتظمة، وبناؤهم سدًا متينًا في وجه الاستبداد، وذلك بجعلهم لا قوة فوق الشرع، ولا نفوذ لغير الشرع، ويجعلهم قوة التشريع في يد الأمة والأمة لا تجتمع على ضلال، وبجعلهم المحاكم تحاكم السلطات والصعلوك على السواء، وتكاد تحاكي في عدالتها المحكمة الكبرى الإلهية“,”.
إنها مملكة الحرية التي يرتقي الإنسان فيها إلى القمة، فكيف يتأتي ذلك الرقي في ظل الاستبداد؟!. لا نجاة إلا بالتخلص من قيوده، وهذا هو موضوع المبحث الأخير في الكتاب الرائد.
ح- الاستبداد والتخلص منه:
يجزم الكواكبي بأن “,”شكل الحكومة“,” هو أعظم وأقدم مشكلة في تاريخ البشرية، وقد استطاع الغرب أن يضع جملة من القواعد الأساسية التي ينبغي الالتفات إليها والاهتمام بها: “,”وهذه القواعد وإن كانت قد صارت قضايا بديهية في الغرب، لم تزل مجهولة أو غريبة أو منفورًا منها في الشرق، لأنها عند الأكثرين منهم لم تطرق سمعهم، وعند البعض لم تنل التفاتهم وتدقيقهم، وعند آخرين لم تحز قبولاً لأنهم ذوو غرض أو مسروقة قلوبهم أو في قلوبهم مرض“,”.
يطرح الكواكبي ما يسميه “,”رؤوس مسائل“,”، يتطرق من خلالها إلى بعض المباحث التي تتعلق بها الحياة السياسية: ما هي الأمة، ما هي الحكومة، ما هي الحقوق العمومية، ما الحقوق الشخصية، نوعية الحكومة، وظائف الحكومة، حقوق الحاكمية، طاعة الأمن العام، حفظ السلطة في القانون، تأمين العدالة القضائية، حفظ الدين، والآداب، تعيين الأعمال بقوانين، كيف توضع القوانين، ما هو القانون وقوته، توزيع الأعمال والوظائف، التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليمية، والترقي في العلوم والمعارف، التوسع في الزراعة والصنائع والتجارة، السعي في العمران، السعي في رفع الاستبداد: “,”هذه خمسة وعشرون مبحثًا، كل منها يحتاج إلى تدقيق عميق وتفصيل طويل وتطبيق على الأحوال والمقتضيات الخصوصية. وقد ذكرت هذه المباحث تذكره للكتاب ذوي الألباب وتنشيطًا للنجباء على الخوض فيها بترتيب، اتباعًا لحكمة إتيان البيوت من أبوابها، وأن أقتصر على بعض الكلام فيما يتعلق بالمبحث الأخير منها فقط، أعني مبحث السعي في رفع الاستبداد فأقول:
1- الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
2- الاستبداد لا يُقاوم بالشدة، إنما يُقاوم باللين وبالتدريج.
3- يجب مقاومة الاستبداد بتهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد.
الاتفاق كامل على التخلص من الاستبداد، لكن اللوحة لا تكتمل إلا بطرح البديل، والدليل الذي يقود إليه يتمثل في عناوين المباحث التي يشير إليها الكواكبي.
أسئلة وهموم نهاية القرن التاسع عشر، ما زالت مطروحة وقائمة، فهل ينبئ ذلك عن ريادة الكواكبي وتفرده، أم أنه يشير أيضًا إلى حقيقة مفزعة مفادها أن تغييرًا حقيقيًا جوهريًا لم يطل الواقع الذي عاصره المفكر الكبير؟!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.