لم أكن أُدرك كل هذه الأشياء يا صديقي، لكن اليوم هناك أشياء كثيرة استطعت فهمها مؤخرًا، بعضها بدا لي غير قابل للتفسير في البدء، لكن التجربة جعلتني أستمع وأقارن، وأكون أكثر ميلًا إلى التأمل والتفكير، توصلت إلى فهم كيف يمكن لكل تلك الملايين من الأشخاص المهووسين بالإعلام، والمعزولين عن الواقع، المحرومين من حرية الاختيار، مسلوبي الارادة؛ بسبب الخوف وممارسة الخنوع؛ أن يصلوا إلى حد تأليه السيسي، كيف أقنعتهم وسائل الإعلام بأن الظلم والقهر يصب في مصلحتهم. كنت مندفعًا ومتحمسًا استمع لما يبثه الإعلام، متلذذًا بأحديث رجاله الحماسية عن المؤامرات التي تُحاك ضد مصر، وعن هؤلاء الخونة المدفوعين من الخارج، الذين باعوا أوطانهم بثمن بخس، لم أُدرك معنى كلمة حُرية إلَّا عندما سُلبت من أحد أفراد عائلتي، هذه الكلمة كم كنت أمقتها وألعنها، وألعن معها كل من يطالب بها؛ لأنها كما خُيل إليَّ حينها تكون مصحوبة دائمًا بالفوضى والخراب، لم أكن أدرك أن الحرية هي طعم الحياة، التي لا يمكن شراؤها أو التخلي عنها، وأنه يجب على الجميع امتلاكها والمطالبة بها ليمارسوا حياتهم بكل سعادة وسرور، حريتي في حق اتخاذ القرار، وحق الحديث، حق السير في الشوارع والطرقات، حق السفر والعمل. (2) يمر الآن أمام عيني شريط ذكريات الثورة، وأتأمل حديثنا سويًّا، أو بمعنى أدق أتذكر كلماتي لك بعينين كئيبتين، تُلاحقني ذكريات الثورة، كم كنت مغفلًا عندما اعتقدت أنني أحمي ظهر الوطن من خناجر أولئك الأعداء، أتذكر تناقض كلماتي وتقلباتي حسب ما يتم تلقيني من وسائل الإعلام وأنا مُمدد على كنبة الثورة.. وتلك الجملة التي أخبرْتك بها عندما التقيتك يوم 28 يناير وعانقتك وأنا أخبر الجميع أن هذا الشخص صديقي الذي أفخر به، وأنه أحد هؤلاء الشباب الذين قاموا بالثورة "إنتم كنتم صح". وكيف تحولت هذه الجملة يوم الخطاب العاطفي لمبارك، عندما هاجمْتُك وطلبت منك أن تكفوا عن التظاهر، وأن البلد بهذا الشكل ستنهار، نُريد الاستقرار ولابد أن تعطوا لمبارك فرصة 6 أشهر ليعيد الأمن والأمان. أتذكر وقتها أنك رددت على بكلمات مقتضبة، وأخبرتني أن مبارك أخذ فرصته طوال ثلاثين عامًا وحان وقت رحيله، مع وعد منك بأنه سيرحل، وتركتني ومضيت. كم كنت وقتها أبغضك وأكره ثقتك المتناهية في رحيل مبارك، وثقتي في أنه لن يرحل. لكنه رحل. بحثت عنك كثيرًا وسط جموع البشر المتناثرة، التي تتعالى صيحاتها ابتهاجًا واحتفالًا برحيل المخلوع، حينها كنت في غاية السعادة بتنحي مبارك، استنشقت نسيم الحرية لأول مرة، هكذا شعرت، أو هكذا تم تلقيني، سرت مع الناس وظللت حتى صباح اليوم التالي في فرحة وسرور، يومها اتصلت بك على هاتفك لأخبرك تلك الجملة التي اعتدت أن أقولها لك "إنتم كنتم صح" لكنك لم تجب على الهاتف، ربما لأن الوقت كان غير مناسب. (3) قلت "نعم" في استفتاء 19 مارس الأسود، واتهمتك ومن معك بأن هناك من يُحرككم، وأنكم تُريدون لمصر أن تُصبح علمانية، وأنا أريدها دولة إسلامية.. وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير، كانت الفاصلة بيني وبينك بفترة حُكم المجلس العسكري، أدركت حينها بما لا يدع مجالًا للشك بأنك أحد هؤلاء الممولين، وقاطعتك، لكني أدركت في نهاية فترة حكمه وعلى استحياء، أن الأفضل لمصلحة مصر أن يبتعد الجيش عن السياسة ويترك الحكم للمدنيين، مثلما كنتم تتحدثون في وسائل الإعلام، لكني لم أقو هذه المرة على محادثتك وإخبارك ب"إنتم كنتم صح". ذهبت إلى صناديق الاقتراع وانتخبت محمد مرسي ودافعت عنه باستماتة، ووقفت ضد شفيق ودولة مبارك التى تريد أن تئد الثورة، كما كنت أسمع حينها في وسائل الإعلام.. (4) عذرًا يا صديقي لم أقو على كبح جماح الضحك الهيستيري الذي ينتابني، كلما تذكرت هذا الظل الذي تُحركه مجموعة من القوى المدنية ذات الخلفية العسكرية، وأتحول من شخص لا يقوى على النهوض من كنبة الثورة، إلى شخص يتسابق في تلبية الدعوات للنزول في هذه التظاهرات التي تطالب بإسقاط الإخوان، سرت مع السائرين في الشوارع وهتفت خلف الهاتفين "يسقط يسقط حكم المرشد، انزل يا سيسي مرسي مش رئيسي". شعرت بنشوة النصر عند سقوط الإخوان، لم أبغض أحد في حياتي مثلما بغضتهم، تمنيت أن يتلاشوا من الكون، أن يصبحوا رمادًا تذروه الرياح، وأصبحت من المواطنين الشرفاء كما يحلو لك أن تسميهم. رقصت على أنغام تسلم الأيادي، طالبت بإبادة الإخوان وقت اعتصام رابعة وإبادة من يتعاطف معهم أو يدافع عنهم، ازداد كرهي لك ولشباب يناير ولقلة من القوى المدنية الذين أصبحوا بالنسبة لي من الخلايا الإخوانية النائمة وأعضاء التنظيم الدولي للإخوان، ويريدون تفتيت جيش بلدي لتصبح مثل سوريا وليبيا. حينها لم أجد سببًا واحدًا للدفاع عن حقهم في الحياة.. ظللت على هذا المنوال إلى أن حدثت مشادة بين أخي وأحد جيرانه، تطورت الأحداث إلى حد التشابك بالأيدي، هذا الجار ذهب لتحرير محضر لأخي، وأتى بواسطة من أحد ضباط الشرطة، وتم إلقاء القبض على أخي، وتم عرضه على النيابة لنفاجأ جميعًا بأنه متهم بالانضمام لجماعة إرهابية والتظاهر، والاعتداء على الشرطة والجيش بالمولوتوف. خرج أخي بعد ثمانية أشهر قضاها في المعتقل، ذقنا الأمرَّين خلال هذه الفترة، تم امتهان كرامتنا، وتحملنا الإهانات والشتائم والمعاملة غير الآدمية، صار أخي إنسانًا آخر غير الذي نعرفه، بات كئيبًا وحزينًا ومنطويًا، شارد الذهن في أغلب الأوقات، أصبح لا يتحدث كثيرًا مثل عادته، وله كل العذر بعد كم التعذيب الذي تلقاه أثناء فترة احتجازه، حتى أصبح مسلوب الإرادة.. سأغادر القطار في المحطة القادمة، أراك على خير، وتمنى لنا أيضًا الخير، سنترك البلاد دون رجعة.. وامضوا في طريقكم، طريق الحق والعدل والحرية، وتذكر دائمًا مقولتي لك "إنتم كنتم صح".