تناولنا في المقال السابق معنى الثورة وتعريفها ومدلولاتها، وهنا سنتناول ما المقصود بالعقل؟ والذي يعني في أبسط صوره ذلك التكوين المعرفي المنعكس من الواقع في ذهن الإنسان، والقادر في الوقت نفسه على إكساب تلك المعارف المتراكمة سمة النسقية، بغض النظر عن منطقها في تنظيم صور الواقع، في النهاية نحن أمام عقل اكتسب من خارجه معارفه، وامتلك القدرة على تنظيمها، والعلاقة بين المكتسب والكامن يحدد درجة الوعي الإنساني، الوعي بالواقع وقدراتنا على تغييره. والتغيير هنا سمة بشرية بامتياز وضرورة عقلية أيضًا، فالبحث عن تجديد علاقات الأشياء مهمة من مهام العقل الفاعل. وفي قاموس علم الاجتماع لعاطف غيث، يقول إن العقلانية «هي نمط سلوكي يلائم تحقيق أهداف معينة في إطار محدد، وفي ظل ظروف وضغوط خاصة، قد تكون موضوعية نابعة عن خصائص البيئة المحيطة، وقد تكون خصائص مدركة، أو سمات للكائن العضوي ذاته، وهنا ينبغي أن نفرق بين العقلانية الموضوعية، والعقلانية الذاتية. وقد احتل مصطلح العقلانية أهمية خاصة في الفكر الفلسفي وفي الأخلاق قبل أن تستقل العلوم الاجتماعية. فالعقلانية في الفلسفة تشير عادة إلى القدرة على استخلاص النتائج من المقدمات المنطقية. وأحيانًا يستخدم المصطلح للإشارة إلى عمليات الاختبار والتفضيل التي تحتاج إلى ملكة عقلية، وهذا هو الاستخدام الغالب في علم النفس والأخلاق".. سأتوقف هنا أمام عبارة "العقلانية في الفلسفة تشير عادة إلى القدرة على استخلاص النتائج من المقدمات المنطقية".. مما يعني أننا أزاء واقع ينبغي فهمه أولًا قبل استخلاص النتائج.. فالعقل بقدر ما هو مطالب بفهم الواقع، مطالب أيضًا بتغييره. والتغيير لدى الاشتراكيين يتم غالبًا عبر الثورة، ذلك الفعل الإيجابي القادر على إحداث تحول نوعي يخدم الإنسانية. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل لدينا عقل ثوري قادر فعلًا على استخلاص نتائج من مقدمات منطقية؟؟ وهو سؤال متعلق بالثنائية الشهيرة «الذاتي والموضوعي» فإذا كانت الشروط الموضوعية متوفرة، مع بعض التحفظات على تلك المقولة، فهل الظرف الذاتي وأعني هنا تحديدًا العقل الناقد بوعي، المستخلص بمقدرة لنتائج منطقية، هذا الظرف قائم؟ وفي تصوري أن العقل العربي عامة والمصري بصفة خاصة في أزمة حقيقية. فلو تناولنا هذا العقل ابتداء من مصر الحديثة التي ظهرت مع تجربة محمد علي سنجده عقلًا تابعًا منذ لحظاته الأولى، متبعًا ومقلدًا وناسخًا منذ ولادته، والأخطر أنه نشأ في أحضان السلطة وظل في حظيرتها ربما حتي اليوم، باستثناءات قليلة لا تصلح لأن تشكل تيارًا عامًّا، هو عقل موالي للحاكم يتحرك في ذلك الفضاء الذي يحدده له، ويري الحكمة في قرارات الحاكم، وهو هنا يخلق تماسًا واضحًا بين الحكمة والسلطة، ولا يرى نفسه حكمًا أو حاكمًا لمنظومة الفكر السياسي، بل يرى نفسه مبررًا ومفسرًا لرؤى الحكام التي غالبًا ما تكون ذات نظر بعيد وحكيم. العقل العربي ليس ثوريًّا، فهو لم يستطع أن ينجز مهمة ثورية واحدة إنجازًا معقولًا ومقبولًا، ففشل في نقد التراث بفعل ذيليته للسلطة التي لم ترغب يومًا في ذلك، وفشل في تمثل الحداثة لاتباعه النقل علي إعمال العقل، والترجمة على الإبداع الموازي فترجمنا حتى الأعمال الأدبية الكبرى والصغرى في المسرح والسينما. وفشل في إحداث ثورة عقد اجتماعي، خاصة في علاقة الحاكم بالمحكوم، وفشل في نقل المفهوم الديمقراطي بمعناه البرجوازي، إلخ.. ذلك أن حدود التطور الاجتماعي تمنع إمكان تطور العقل لأبعد من ذلك، ومن ثم فنحن عقلانيًّا في مرحلة اللاعقلانية.. في أتون الثقافة الاقطاعية التي تحكمها عقلية القبيلة، فيصبح الرئيس هو رمز الوطن وليس رأس النظام، وتصبح الثقافة المترهلة هي المناسبة لطبيعة مجتمعنا، ويتحول المسكوت عنه في الدين والسياسة والفكر والتعليم والاقتصاد والتربية.. إلخ إلى عادة سرية يمارسها الجميع في الخفاء، ويتحول العقل إذن أو ما تبقي من عقل لدى هذه الأمة إلى عقل تبريري، وليس عقلًا ثوريًّا. وبناء عليه.. فلا تثوير بلا تنوير.. ولكن التنوير هنا سوف يكون بخصائص الفعل الثوري الذي سيلحقه حتمًا الثورة الاجتماعية لتوافر معظم شروطها الموضوعية.