من الوَحدة إلى التمزق، هكذا حال المجتمعات التي يدخلها أي فكر يُفرق بين أبناء هذا المجتمع على أساس العرق أو الاختيار المذهبي. عدت مصر قلعة من قِلاع العلم التي يقصدها جميع الطالبين للارتقاء الفكري والحضاري، في الفترة التي اتسمت بالخصوبة الفكرية ما بين[1950:1890م]. تلك الفترة ضجت بأكابر المفكرين والعلماء والأدباء والسياسين والقُضاة..، ثم كانت بوادر انتشار الفكر الوهابي بإنشاء "جماعة أنصار السنة المحمدية" التي سعت بادئ أمرها إلى الدعوة لتنقية الدين مما حلّ به من بدع، وما شاب التوحيد من شِركيات -على حدّ وصفهم- فنظرت للمجتمع على أنه مجتمع منحرف، أو إن شئت قلت على أنه مجتمع جاهلي، وهو ما قاله مؤسس الدعوة الوهابية الشيخ محمد بن عبدالوهاب النجدي التيمي فقال في "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" [10/51] "فمن زعم من علماء العارض: أنه عرف معنى لا إله إلا الله، أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت، أو زعم من مشايخه أن أحدا عرف ذلك، فقد كذب وافترى" اه. بدأت الجماعة بأخذ التمويل من السعودية وقتها، فيما تنامى بعد ذلك نظرا لما شهدته الجزيرة العربية من نشاط مالي فيما عرف ب"نهضة البترول" التي حولت الجزيرة من كونها مكانًا لتلقي الصدقات من جميع الدول بما فيها مصر إلى بلاد تُصدر البترول. ومولت السعودية كذلك ما سمى ب"الدعوة إلى التوحيد" التي هي في الأصل الدعوة إلى الفكر الوهابي، الناظر إلى الناس على أنهم مشركين أو غير مُوحدين، وأنّ دينهم يحتاج إلى تنقية مما علق به. في مصر أيضا نشأت في السبعينات وبداية الثمانينات من القرن المنصرم "الدعوة السلفية" التي مقرها الإسكندرية، وسميت بهذا الاسم المسمى؛ نظرًا لما يثيره مصطلح "الوهابية" من ذُعر لدى أكثر الناس في ذلك الوقت، وما هي في الحقيقة إلا دعوة إلى الوهابية. وهو ما أشار إليه -فيما بعد- أحد كبار دعاة السلفية في مصر الطبيب الدكتور محمد إسماعيل المعروف ب"المقدَّم" في كتابه الموسوم ب"خواطر حول الوهابية" الذي نظر فيه لتاريخ الدعوة تلك وما تلاها من انتقادات، ومدحها في كتابه هذا بكونها "ثورة ثقافية" على حدّ تعبيره. وافتتح دارا لنشر كتبه وبيعها تسمى ب"دار الفتح الإسلامي" وهو نفس الاسم الذي وُسم به مسجده الذي يلقي به دروسه. وقد حصل التنسيق بين تلك الدار ودار أخرى تسمى ب"دار الخلفاء الراشدين" التابعة لعضو الدعوة السلفية –أيضا- ياسر برهامي على اسم مسجده الموسوم بنفس الاسم. فتناوبتا كلتا الدارين طباعة الكتب التي تأتي الأوامر بطباعتها فيشتريها المساكين باسم طلب العلم، يكتبونها بأسلوب تفهمه العامة، ولا تنكره الخاصة، ولم يكن هذا الأمر هو الأوحد في طريق التمويل الشديد، فمع الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته حقبة حكم الرئيس الأسبق "أنور السادات" رحل الكثير من أبناء مصر للعمل في دول الخليج، وخاصة المملكة السعودية، فمن خرج ليعمل بغرض الحصول على المال، رجع مشبعًا بعادات وتقاليد تلك الدولة وما تتخيله عن أسلوب الحياة، فنما إلى اعتقادهم أن هذا هو الدين باعتبار أن تلك البقعة مهبط الوحي. ليس هذا وحسب، بل كانت تشترط السلطات السعودية، في تلك الفترة، 0ذا ما مولت بناء مسجد أن يعمل على نشر التوحيد (الفكر الوهابي)؛ ولذا انتشر في العقود الثلاثة المنصرمة تسمية كثير من مساجد مصر بهذا الاسم (مسجد التوحيد). وفي ذلك ذكر الدكتور "أحمد معبد عبد الكريم" أستاذ كرسي الحديث بالأزهر في أحد دروسه بالجامع، أنهم أرادوا تجديد مسجد كانوا يصلون به، وأرادوا الحصول على تمويل لبنائه، فاشترط عليهم المموّل أن يأتوا له بتصريح وضمان من رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية التي مقرها (شارع قوله) بالقاهرة، أنهم سيؤسسوا المسجد على منهجهم (يعني الوهابي) فرفضوا ذلك، فلم يحصلوا على شيء. ولم يكن السلفيين العنصر الأول والأداة الوحيدة لنشر الفكر الوهابي، بل كان "الإخوان المسلمين" من متلقي التمويل السعودي، وليس هذا بمستغرَبٍ! فقد نشأت علاقة قوية بين مؤسس الدولة السعودية الحديثة "الملك عبد العزيز" والمرشد الأول للإخوان الأستاذ "حسن البنا" حين سافر الأخير للحج لأول مرة، والتقى الملك، وعامله كأمير للمؤمنين، وسمى جماعته ب الإخوان؛ لأن الملك عبد العزيز سمى جيش نصرته في حروبه بجيش "الإخوان"-على ما ذكر محمود عبد الحليم- مؤرخ الجماعة. وكانت بينهما مراسلات وسِجالات نشرتها "جريدة الإخوان المسلمين" التي كانت تصدر في مصر في حياة المرشد المؤسس، وبعد وفاته بقليل نُشرت، تحت عنوان (مراسلات بين الملك ابن سعود وفضيلة المرشد العام). ولما جاء الملك السعودي لزيارة رسمية لمصر، أصدر البنا لكتائب الشباب داخل الجماعة أن يستقبلوه بالحفاوة والترحيب؛ ليكون لهم قصب السبق لديه، فقام أحد أشبالهم وقتئذ "الشيخ القرضاوي كما ذكر في كتابه "ابن القرية" قال قمت منشدا في الإسكندرية بين يديه قائلًا: ملائكة تلك أم أنبياء أم ابن السعود إلى مصر جاء فأهلا وسهلا بأكرم ضيف ويا مرحبا بالسنا والسناء حتى تطوّرت العلاقة فيما بعد بين الإخوان كجمعية والمنهج الوهابي فقال البنا في تعريف جمعيته بأنها "عقيدة سلفية"، وفسر التوصيف بما كان يربط البنا ب"رشيد رضا" و"محب الدين الخطيب" الذين تبنيا نفس المنهج، فأغدقت عليهم جميعا الأموال فكان أن أسس الخطيب مكتبته الكائنة بالقاهرة والمعروفة ب"المكتبة السلفية" التي تبنت نشر وإحياء تراث "ابن تيمية"، وهو التراث التي رأت الدولة السعودية أنها الأحق به، وأنه الحق الذي ما عداه باطل، مع تبلوره في شخصية "ابن عبدالوهاب" وتراثه. ترى الدعوة الوهابية أنّ الزمان خلا من الحق حتى ظهر المؤسس الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فتجدهم ينعتوه بأسمى النعوت فيلقبوه تارة ب"شيخ الإسلام" وتارة ب"الإمام المُجدّد" الذي اصطلح على أن جميع من على وجه الأرض على الباطل، بينما يمتلك هو الحق المطلق، وهي نفس الأدبيات التي تقوم عليها جماعات التطرف مع اختلاف المسمى، بينما المضمون واحد: إثارة الخلاف في الفروع الفقهية على أنه خلاف حقّ وباطل، ليتحوّل فيما بعد إلى صراع ينتهج المتصارعون فيه العنف منهجا إذا ما سنحت الفرصة.