بأيديهم.. إعلاميون يكتبون شهادة وفاة ماسبيرو الدولة تتخذ ماسبيرو بوقًا لها.. والفضائيات ساحات استقطاب الشللية تسيطر على التليفزيون المصري.. وغابت الكفاءة والقدرة على التطوير ميزانية ماسبيرو 250 مليون جنيه يذهب 220 للرواتب.. ولا عزاء للإنتاج «حديث المدينة، تاكسي السهرة، حكاوي القهاوي، يا إسكندرية يا، صباح الخير يا مصر، سر الأرض، العلم والإيمان، نافذة علي العالم، أوتار الليل، أماني وأغاني، كلام من دهب، هذا المساء، اخترنالك، نادي السينما، المخترع الصغير، البرلمان الصغير، سينما الأطفال، أجمل الزهور، أوسكار».. برامج مصرية عريقة كانت تفوح من داخل استديوهات ماسبيرو، بعضها اندثر، والبعض الآخر يحتضر؛ بعد تراجع الدور التثقيفي والتوعوي للتليفزيون المصري في مواجهة القنوات الخاصة. في الفترة الأخيرة، نجحت القنوات الخاصة في سحب البساط من تحت أقدام التليفزيون المصري؛ نتيجة عدة أسباب، أبرزها إهمال تطوير المحتوى الذى يقدمه ماسبيرو علي مدار السنوات الماضية، حتى سيطرت عليه النمطية، فى مواجهة القنوات الخاصة التى تنفق ببذخ علي إعلاميها واستديوهاتها ومحتواها الذى تقدمه، ويتخذها أصحابها من رجال الأعمال سواء كانوا مصريين أو أجانب، مشروعًا استثماريًا يُدر عليهم أموالاً طائلة، فما ينفقوه على التطوير يجنوه أضعافًا بعد ذلك. بالطبع، هرع المشاهد إلى القنوات الخاصة، التي نجحت – وإن كان شكليًا- في لفت أنظاره وجذب انتباهه، على حساب التليفزيون المصري الذي فقد بريقه وأصبح كشيخ عجوز بلغ من العمر عتيا، فضلّت الهوية المصرية طريقها، وماعت الأذواق، وتاه عبق التاريخ وسط عوادم الدولارات التى تنفق على القنوات الخاصة. اتجه بعض رجال الأعمال غير المصريين إلى الاستثمار فى مجال الإعلام والميديا من النافذة المصرية، أبرزها مجموعة قنوات «أيه آر تي» المملوكة لرجال الأعمال السعودي، صالح كامل، وقناة «إم بي سي» التي يملكها الإمارتى الشيخ وليد إبراهيم الإبراهيم، ومجموعة قنوات «أوربت» لصاحبها الأمير بندر بن سعود، وقناة العربية التي تأسست علي يد السعودية والكويت والإمارات، ومجموعة قنوات روتانا التى يمتلكها الوليد بن طلال، بالإضافة إلى قناة الجزيرة القطرية، وغيرها من النوافذ الإعلامية. ولم يقتصر الأمر علي قنوات رجال الأعمال غير المصريين فقط، بل هناك أيضاً مجموعة من السياسيين المصريين من أصحاب البيزنس، يملكون قنوات فضائية، أبرزهم الدكتور السيد البدوى، رئيس حزب الوفد ومالك مجموعة قنوات الحياة، والمهندس نجيب ساويرس، مؤسس حزب المصريين الأحرار ومالك شبكة «أون تي في»، ومحمد أبوالعينين، أحد أقطاب الحزب الوطنى المنحل وصاحب قناة صدى البلد وغيرهم الكثير، فيما يبدو أن امتلاك قناة خاصة لا يهدف للاستثمار فقط، بل تعدى إلى الأغراض السياسية. من جانبها، تبحث «البديل» عن أسباب فقدان ماسبيرو دوره، رغم ريادة الإعلام المصري للشرق الأوسط منذ ظهوره 1960 بقناتين فقط، وخطورة ذلك علي الهوية والأصالة المصرية، التي بدأت تتلاشي، لنصبح مجرد نسخ من حضارات وثقافات أخري. غالي: التليفزيون المصري «مغمى عليه».. وتواطؤ قياداته لصالح القنوات الخاصة أرجع عدد من خبراء الإعلام تراجع دور التليفزيون المصري منذ عدة أعوام إلي الكثير من الأسباب، أبرزها عدم وجود موارد في ماسبيرو، فما ينفقه يذهب على بند الأجور، خاصة أن التليفزيون المصري ينفق 250 مليون جنيه شهريًا، يذهب 220 مليون جنيه على الأجور فقط، وبالتالي يفتقر إلي الموارد الكافية للإنفاق علي عملية الإنتاج، إلي جانب تواطؤ بعض القائمين علي ماسبيرو والإعلام الوطني مع رجال الأعمال ممن يعملون مستشارين للقنوات الفضائية الخاصة، ويكون ولاؤهم لمن يدفع أكثر. يصف الدكتور محرز غالي، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، التليفزيون المصري ب«مغمى عليه»، نتيجة عدة أسباب أبرزها، تواطؤ قيادات ماسبيرو لصالح القنوات الخاصة والفضائيات، مؤكدًا أنهم فرطوا في القيمة التاريخية لمؤسسة الإعلام والتنوير المصري، ما أدى إلى حالة من الهجرة الجماعية غير الشرعية للإعلاميين من قنوات التليفزيون ومحطات الإذاعة المصرية إلي نظيراتها الخاصة. وأضاف «غالي» أن الهجرة تتم عن طريق عمل عدد من إعلاميي التليفزيون المصري في القنوات الخاصة، ما يجعل ولاؤهم للأخيرة التى تدفع أكثر، موضحًا أن بعض القائمين علي الإعلام بمصر تركوا المجال لانتشار القطاع الخاص من القنوات الفضائية المملوكة لرجال الأعمال، بما يشبه حالة الزواج السياسي بين السلطة ورأس المال، ما أدى إلى وجود حالة من الفساد جعلت الدولة تفرط في تراثها ورسالتها الإعلامية لصالح تلك القنوات الخاصة، ورفعت الدولة يدها عن تقديم الدعم للتليفزيون، في الوقت الذى طورت فيه القنوات الخاصة من نفسها، وبدأت العقول الإعلامية الوطنية بماسبيرو توجه خبراتها نحو تطوير القنوات الفضائية علي طبق من ذهب، حتى ارتفعت نسب مشاهدتها، في مقابل انخفاض نسب مشاهدة القنوات المحلية. وأوضح أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة أن هناك سببًا آخر لتراجع دور ماسبيرو وعزوف المواطنين عنه، يكمن فى هامش الحرية الكبير الذي تقدمه القنوات الفضائية للإعلاميين والمشاهدين، فى حين يمنعه التليفزيون المصري بشكل تام، متابعا: «الدولة تتعامل مع التليفزيون علي أنه منظومة أو هيئة رسمية أو مرفق من مرافق الدولة مثل شركات المياه أو الكهرباء، وعليه أن يعكس رؤية الحكومة والسلطة والدفاع عنها، وفي المقابل، أتاحت الفضائيات حرية التعبير، ما جعل المواطنين يشعرون أن ماسبيرو يقدم نغمة نشاذ، علي خلاف ما تقدم الفضائيات الأخرى». ولفت «غالي» إلى أن سبب تراجع دور ماسبيرو أيضاً، يكمن فى اختيار قيادات اتحاد الإذاعة والتليفزيون علي أساس المحسوبية والولاء والشللية، وليس بمعيار الكفاءة، ما فقد معه القيادات القدرة والرغبة على التطوير. ومن جانبه، يري ياسر عبد العزيز، الخبير الإعلامي، أن التليفزيون المصري لم يعد قادرًا على تزويد المشاهدين بأنماط الأداء التثقيفي والترفيهي، ما ترك الساحة مفتوحة لسيطرة الإعلام الخاص والوافد من جهات أخري لبث وعرض ما يريده، مؤكدًا أن أبرز أسباب عزوف المشاهدين عن التليفزيون المصري، عدم قدرته علي الوفاء باحتياجاتهم من مادة معروضة؛ نتيجة عدة أمور هيكلية تتعلق بمبني ماسبيرو الذى تعرض لسنوات من التجريف والفساد والهدر، خاصة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، إلي جانب هروب الكفاءات منه؛ بسبب عدم قدرته علي توفير مزايا مناسبة أو ظروف عمل جيدة. وأوضح «عبد العزيز» أن ماسبيرو ذاته أصبح يفتقر إلي التنمية، خاصة أن ما ينفقه التليفزيون المصري في الشهر 250 مليون جنيه، يذهب منهم 220 مليون إلى بند الأجور فقط، وبالتالي لا يمتلك الموارد الكافية للإنفاق علي عملية الإنتاج والتطوير، الأمر الذى ساهم فى تراجع مستوي التليفزيون، لافتًا إلى خطورة تراجع دور الإعلام الوطني علي ثقافة ووجدان المواطن، فى مقابل فاعلية وسائل الإعلام المملوكة لرجال الأعمال، التى قد تشكل عقلية وتوجه معين لمشاهديها، على حساب الأمن القومي المصري. خبراء علم نفس: غياب ماسبيرو ضرب الهوية المصرية في مقتل «غياب الهوية، اللاانتماء، فقدان النفس، استنساخ حضاراتنا من حضارات أخري».. كلمات وصف بها عدد من خبراء علم النفس والاجتماع تراجع دور ماسبيرو وغلبة الفضائيات الخاصة، حتى تاهت الهوية المصرية العريقة التى تشكلت منذ آلاف السنين، وسط ضجيج حضارات وليدة بالأمس القريب. يقول الدكتور صلاح السرسي، استشاري الصحة وعلم النفس، إن هناك حالة غياب تام لجميع المؤسسات التراثية بالدولة، مما أدي إلي فقدان الهوية المصرية، فأصبحنا نفتخر بالأشياء الوافدة علينا من الثقافات الخارجية التي اعتدنا ممارستها، وافتقدنا معها هويتنا وثقافتنا، مضيفًا: «قديمًا كان يشكل الإعلام الوطني ثقافة ووعى الأجيال، لكن الآن، طغى الجانب التجاري علي الأمر برمته، وفقدنا القيم». وتساءل «السرسي»: «من نحن وسط دول العالم؟ وأين ثقافتنا؟ وأين وجودنا؟ وأين هويتنا التي نتميز بها؟، مؤكدًا أننا نعيش حالة ضعف عام، وللأسف افتقدنا ما كنا نفخر به من قبل، وأصبح كل ما يشغل بالنا الأحداث الغريبة، مثل قصة فتاة المطار وغيرها من الأمور التي تركز عليها الفضائيات لزيادة نسب المشاهدة، فأصبحت الأحداث التافهة ما تجذب انتباه المواطنين، حتى فقدنا أنفسنا وهويتنا بشكل تام. ومن جانبها، تقول الدكتورة هدي زكريا، أستاذ علم الاجتماع السياسي: «رغم المحاولات التي يبذلها ماسبيرو الآن لاستعادة دوره، إلا أنه أصبح غير قادر علي المنافسة، بعدما كان يقدم فى الماضى أعلي درجات المعرفة وأرقي المعلومات الثقافية، لكن للأسف لا يستطيع ماسبيرو اليوم مجاراة القنوات الفضائية الأخري»، موضحة أن التليفزيون المصري كان رائدًا للشرق الأوسط، وكان في بداية انطلاقه عام 1960 يعمل بقناتين فقط، ومع الوقت قفز الآخرون وتقدموا واستمر التليفزيون المصري محلك سر. وأشارت «زكريا» إلي حاجتنا الملحة لإعادة فتح كنوز ماسبيرو القديمة مرة أخري؛ حتي نتخطي تلك الأزمة الثقافية والفكرية التي تعيشها مصر منذ السبعينيات، مع تراجع دور ماسبيرو، رغم زيادة عدد القنوات المحلية، لافتة إلى خطورة ذلك توعية وتثقيف المواطنين، ويكرس أيضا لغياب النزعة الوطنية ونشر الثقافة المصرية الخاصة بالتراث الحضاري الوطني، ما يؤثر علي الأجيال الحالية والقادمة بشكل كبير، وينمي روح اللاانتماء لدي المواطنين.