أدت الأزمة السورية إلى تباين في المواقف الدولية، ما نتج عنه وجود محورين دوليين مختلفين من حيث الرؤى والأهداف والآليات، المحور الروسي والذي يضم (الصينوإيرانوالعراق)، وهو يدعم المؤسسات الموجودة في الدولة السورية كالجيش والرئاسة ومن يوالي هذه المؤسسات من الشعب السوري في سبيل القضاء على المجموعات الإرهابية، والمحور الأمريكي والذي يضم (بريطانياوقطر والسعودية وتركيا وإسرائيل وفرنسا)، وهذه الأخيرة بدأت بالتوجه إلى المحور الروسي بعد تفجيرات باريس، مؤشرات عديدة اليوم تدل على ترجيح كفة المحور الروسي على نظيره الأمريكي. الأزمة السورية سياسيا منذ بداية الأزمة والرئيس السوري بشار الأسد يطالب بحل سياسي لها، إلا أن المعارضة كانت ترفض على خلفية معلومات تنبئ بسقوط الأسد خلال أيام أو أشهر على أبعد تقدير منذ بدء الأزمة في شهر مارس 2011، معلومات وصفها الناطق باسم قناة الجزيرة القطرية الداعمة للمعارضة السورية فيصل القاسم بأنها استخباراتية ومن مصادر خاصة جداً، هذه المعلومات عززها أيضاً رؤساء دول بتصريحاتهم الشهيرة "بأن أيام الأسد باتت معدودة"، كرئيس فرنسا السابق ساركوزي، و أمير قطر السابق حمد بن خليفة، وملك السعودية الراحل عبد الله بن عبد العزيز، والرئيس التركي أردوغان، والأمريكي أوباما. اليوم يبدو الأسد أقوى مما كان عليه قبل 4سنوات ونصف، فحل الأزمة في سوريا بدأ يأخذ الطابع السياسي الذي طالب به الأسد وحلفاءه من البداية حسب فيينا الأخيرة، وآلة حزب البعث العربي الاشتراكي مازالت الهيكل الوحيد الذي يعمل في البلاد ويحافظ على الطابع المؤسساتي للدولة، كما أن الحياة اليومية في دمشق، معقل الرئيس الأسد، تستمر في الغالب كما كانت من قبل، كما أنه ومنذ فترة طويلة لم نعد نسمع عن انشقاقات جديرة بالاهتمام لا على المستوى السياسي ولا العسكري، أضف إلى ذلك الدعم الروسي تبلور بصورة أكبر بعد قرار بوتين بالتدخل عسكرياً في سوريا. في المقابل نجد أن المعارضة السورية باتت مجردة من أي ورقة سياسية، فهي لا تملك تمثيل حقيقي على الأرض السورية نظراً لهيمنة الجماعات الإرهابية على المشهد العسكري للمعارضة كداعش وجبهة النصرة، ولا تملك دورا سياسيا حتى إن سُمح لبعض أطرافها لحضور المفاوضات مع النظام السوري حسب فيينا، فدي ميستورا والسعودية والأردن هم من سينوبون عنها في لعب هذا الدور التفاوضي. عسكريا الجيش العربي السوري رغم فقدانه لأكثر من 30 ألف عسكري، مخلص للقيادة السورية الحاكمة، وهذا ما يجعل الحديث عن رحيل "الأسد" كشرط لمحاربة داعش وأخواتها محض هراء، فالجيش السوري بقيادة الأسد هو القوة البرية الضاربة للإرهاب ضد داعش، وهذا ما عكسته تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الخميس الماضي بإن الرئيس السوري بشار الأسد يمثل مصالح جزء كبير من المجتمع السوري، ويستحيل إيجاد حل سلمي بدونه. وخلال الأشهر الماضية استعاد الجيش السوري أراض من المعارضة خارج وداخل دمشق، والحديث عن الإنجاز العسكري الأخير للجيش العربي السوري في منطقة شمال شرق سوريا مهم جداً، فبعد تحويل وحدات حماية الشعب وحلفائها من عشائر وسريان في الشمال السوري إلى قوات سوريا الديمقراطية، بدأت عملية واسعة للسيطرة على ريف الحسكة الجنوبي، العملية التي توجت بانتزاع مدينة "الهول" من داعش تدخل بعدها الوحدات الشمال السوري في سباق مع الجيش السوري للسيطرة على هذه المحافظة وللتقدم ربما نحو عاصمة داعش في الرقة. الأهمية هنا متوزعة على محوريين، الأول هو أن هذه المنطقة "الهول"، التي تبعد عن مدينة الحسكة 41 كيلو متر، تتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة، كونها نقطة إمداد ل"داعش" بين سورياوالعراق، ما يعني أن داعش والتي تتخذ من الرقة معقلاً لها باتت محاصرة ما ينذر باقتراب المعركة التي قد تكون حاسمة لوضع داعش في سوريا، أما المحور الثاني فتكمن أهميتها في أن ما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية والتي ساهمت مع الجيش العربي السوري في تحرير منطقة الهول مدعومة من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو مؤشر لتحول واشنطن عن سياستها التي كانت قائمة على مبدأ إسقاط "الأسد" وبعد ذلك تتم محاربة داعش، أضف إلى ذلك أنه وقبل أسابيع سيطرت البشمركة المدعومة أمريكياً أيضاً على سنجار العراقية والمجاورة حدودياً لمنطقة الهول ما سيمنع ارتداد داعش من وإلى سوريا. الانفتاح العالمي على "الأسد" بعد زيارة الرئيس الأسد الأخيرة إلى موسكو، بدأت العزلة السياسية التي فرضها المجتمع الدولي على نظامه تتلاشى شيئاً فشيئاً وبصورة غير مباشرة، فسلطنة عُمان كما يبدو تحاول أن تنهي قطيعة الخليج لرئيس السوري بعد زيارة وزير خارجيتها لدمشق، كما وتتردد أخبار عن دور إماراتي تقود فيه تحالفا إقليميا يروج لحل بسوريا يتضمن بقاء الأسد، كما قررت الحكومة التونسية المؤقتة برئاسة المهدي جمعة في عام 2014 فتح مكتب في دمشق لإدارة شئون رعاياها في سوريا. وعلى المستوى العالمي نجد رسائل وتلميحات لتقارب مع النظام السياسي في سوريا، كرسالة السيناتور الأمريكي ريتشارد بلاك والذي سيتحول اسمه لريتشارد قلب الأسد بعد وقوفه إلى جانب الأسد قلباً وقالباً وموقف روسيا في محاربة الإرهاب، كما أكد وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل غارسيا الأربعاء الماضي أن الاتفاق مع الرئيس السوري بشار الأسد يبقى "أهون الشر" في مواجهة التهديدات الإرهابية لأوروبا، فضلاً عن الوفود الإعلامية الأجنبية التي بدأت بالتقاطر على سوريا لمقابلة "الأسد" كالإيطالية والفرنسية وغيرها. الجانب الروسي كل المؤشرات تقول بأن الحلول في سوريا مقدماتها روسية بحتة، فبعدما نفت موسكو ما تم تداوله عن وثيقة مسربة من 8 نقاط، نشرتها وكالة "رويترز"، أهمها اتفاق الحكومة والمعارضة السورية على بدء عملية إصلاح دستوري تستغرق 18 شهرا تعقبها انتخابات رئاسية مبكرة، وجدنا أن مؤتمر فيينا لم يبتعد كثيراً عن مضمون هذه الوثيقة المسربة، كما أن تجاهل فيينا لطلبات أطراف كالسعودية كالحديث عن مصير الأسد، يأتي متسقاً مع النظرة الروسية للأزمة السورية. والنقطة الأبرز في انتصار المحور الروسي هو التدخل العسكري الروسي في سوريا فمن ناحية لم تجرؤ أي دولة على منع الروس من هذا التدخل، ومن ناحية أخرى أخذت بعض الدول المتواجدة في المحور الأمريكي بما في ذلك أمريكا نفسها بمساعدة الروس في حربهم على داعش، وتعد فرنسا من أهم الدول التي انضمت مؤخراً إلى روسيا لضرب داعش رداً على هجمات باريس. وفي نظرة سريعة للتكتيك الذي تحارب به روسيا داعش باستخدامها صواريخ عابرة للقارات لتدمير مواقعها لا يقتصر على استعراض القوى، وإنما تعطي رسائل قوية للمحور الأمريكي بأن روسيا ستدافع عن مصالحها في سوريا وهي لم تنس ما فعلته الولاياتالمتحدة في ليبيا والعراق وأوكرانيا، ما يحجم المحور الأمريكي عن التهور بالدخول في أي عمل عسكري ضد الروس في سوريا. الاتفاق النووي لا يختلف الكثيرون بأن الاتفاق النووي الذي أبرمته إيران مع الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي، يعد مؤشراً على بداية انتصار المحور الروسي، فالاتفاق يعطي إيران صلاحيات إضافية في محاربتها لداعش، فضلاً عن أنه تم في ظل رفض سعودي له وهو الطرف الخليجي الداعم وبقوة للمحور الأمريكي، كما أن دعوة إيران للمشاركة في المحادثات متعددة الأطراف حول الأزمة السورية التي عقدت في فيينا، لاسيما في ظل رفض سعودي يعزز من انتصار المحور الروسي، فالانتصار لا يقف عند حد الدعوة بل يشمل أيضاً تبني الموقف الإيراني لحل الأزمة في سوريا سياسياً دون أي خطوات إجرائية متعلقة بمصير "الأسد" وهو ما أغضب الطرف السعودي. التحول الفرنسي ساهمت هجمات باريس والتي حدثت في14 نوفمبر الجاري، والتي كانت عبارة عن سلسلة من الهجمات المتزامنة في العاصمة الفرنسية، راح ضحيتها أكثر من 130 قتيلا بصورة مباشرة في تعديل المزاج الأوروبي واقترابه من المحور الروسي، ما قد يؤثر على موقف الشريك الأوروبي من المحور الأمريكي في نقطتين، الأولى اقترابه من المحور الروسي في حربه ضد داعش بغض النظر عن مصير "الأسد"، حيث أعلن مصدر عسكري فرنسي الإثنين الماضي أن حاملة الطائرات الفرنسية "شارل ديجول" سوف تنتشر في شرق البحر الأبيض المتوسط وليس في الخليج كي تتحرك بشكل أسرع في المنطقة، كما أعلن وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان الثلاثاء الماضي، أن 10 مقاتلات فرنسية تقوم بقصف مواقع تابعة لتنظيم داعش في مدينة الرقة بسوريا، النقطة الثانية أن بعض الدول المشاركة في المحور الأمريكي تحمل أيديولوجية مشابهة لتلك التي يحملها داعش كالسعودية وقطر، وبالتالي وجودهما ضمن التحالف الأمريكي سيؤدي إلى انقسامه، خاصة وأن الأوروبيون باتوا يرفضون هذه الأيديولوجية فيما يصطلحون عليها الآن "بالعدو الأيديولوجي"، كما أن موقف فرنسا من داعش قد يؤثر على الجار البريطاني، حيث قال رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الأربعاء الماضي، إن بلاده قد تشن هجمات أحادية على أهداف لجماعة "داعش" الإرهابية في سوريا، دون الرجوع إلى قرار من مجلس الأمن الدولي يفوضها بذلك. الموقف الأمريكي بالرغم من تصريحات "أوباما" الأخيرة أنه لا يمكن القضاء على داعش إلا بعد التوصل لتسوية سياسية في سوريا، وهو أمر قد يستغرق بعض الوقت، مضيفا أن التوصل لمثل هذه التسوية لن يكون ممكناً مادام الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة، إلا أن السياسة الأمريكية تسير في منحى معاكس لهذه التصريحات، حيث كشف كيري الثلاثاء الماضي أن بلاده بدأت بالفعل عملية مع تركيا لإغلاق ما تبقى من حدودها مع سوريا، وأضاف أنه تم الآن إغلاق 75 في المئة من كامل الحدود الشمالية لسوريا، مؤكدا: نحن نقوم بعملية مع الأتراك لإغلاق آخر 98 كلم متبقية، وهي عملية تهدف إلى تقويض تحركات داعش في المنطقة فيما يبدو أن الولاياتالمتحدة تغاضت عن موقفها من الحديث عن مصير الأسد وبدأت بالفعل بمحاربة داعش، ويرى مراقبون بأن علاقة الولاياتالمتحدة بالسعودية بدأت تدهور، فالسعودية لم تكن راضية عن الاتفاق النووي الإيرانيوأمريكا أبرمته، ولم تكن راضية عن دعوة طهران إلى فيينا وأمريكا دعتها، كما أن تصريحات كيري الأخيرة تحمل في طياتها انتقاد مباشر للمملكة السعودية حيث قال الاثنين الماضي: سوف نهزم تنظيم داعش وكل الذين يشاطرونه أيديولوجيته الحقيرة. التحركات العسكرية الأمريكية في العراقوسوريا مضبوطة روسيا، فهي عملياً لا تستطيع المساس بمؤسسات الحكومة السورية الفاعلة على الأرض، وكل ما تستطيعه هو أن تساعد روسيا في ضرب معاقل داعش فقط، وهو ما يعزز من فكرة انتصار المحور الروسي في تسيير واشنطن في الاتجاه الذي يريد، كما أن تراجع البوق القطري والسعودي والتركي في التدخل العسكري بسوريا وإقامة مناطق عازلة هناك خلال الفترة الأخيرة، وعودتهم للطرق السلمية المبنية على أسس فيينا دليل واضح على سقوط أجندة هذا المحور.